ليس بالضرورة أن يكون الدين عامل جمع بين الشعوب أو بين الأنظمة، ولا الاختلاف بشأنه عامل فرقة، إنما ما يحكم علاقات الدول لغة المصالح دائماً وأبداً. ولم تكن علاقة إيران بأرمينيا وأذربيجان استثناء، لكن هذا لا يمنع الاستغراب لناحية متانة علاقة إيران واستراتيجيتها بأرمينيا رغم الاختلاف الديني بينهما، وسمة التوتر التي تحكم علاقة إيران بأذربيجان رغم وحدة الدين بل المذهب (الشيعي) الذي يستحوذ على السواد الأعظم من أبناء بلديهما.العلاقة الإيرانية الأرمينية ضاربة جذورها في عمق التاريخ إلى ما قبل الإسلام والمسيحية، حيث كانت في البدء بين الشعب الأرمني والشعب الفارسي عندما كانا بلداً واحداً. وقد استمرت العلاقات الطيبة بينهما مذ ذاك وحتى الحقبة المعاصرة، رغم كم المتغيرات الجيوسياسية وغيرها، التي حصلت في منطقة القوقاز ومحيطه، لا سيما فيما خصّ البلدين، بدءاً بانفصال أرمينيا عن إيران الكبرى وصولاً إلى انضمامها لحظيرة الجمهوريات السوفياتية. وكانت إيران أُولى الدول التي اعترفت باستقلال أرمينيا عام 1990 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
لم يشكل الاختلاف الديني يوماً، مانعاً لتطوير العلاقة بين إيران الإسلامية وأرمينيا المسيحية، رغم أن البلدين يعتمدان على الدين في تحريك العامة، والنظام الإيراني قائم على الدين ويشكل أسّه ونبض حركته داخلياً وخارجياً، فإيران والدين صنوان لا ينفصلان. وأرمينيا متمسكة بعقيدتها الدينية وتشكل قوة جذب للشعب الأرمني داخل أرمينيا وفي الشتات، وذلك بموازاة قوة الجذب الرئيسة؛ القومية والعرق أو الإتنية. وبالتالي، إيران وأرمينيا نموذجان متشابهان لا يخشى أحدهما الآخر، ولكل منهما ملعبه الخاص فيه، فلا مجال للمزاحمة أو المنافسة بينهما.
منمنمة من التراث الأرمني (1283 ميلادياً - المكتبة البريطانية)

أرمينيا داعمة لمحور المقاومة
وعدا عن العلاقة التاريخية التي تربط البلدين، والمصلحة التي تفرض استمرار العلاقة بينهما، ثمة وضع مشابه أمنياً واقتصادياً لناحية الحصار الممارس عليهما، فأرمينيا المحاصرة من تركيا وأذربيجان منذ نهاية حربها الأولى (1991-1994) مع الأخيرة، حيث شكّلت إيران ولا تزال بوابتها إلى آسيا ومنطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن استيرادها للعديد من حاجيّتها الطاقوية وغيرها من إيران. وفي المقابل، الأخيرة محاصرة أيضاً بالعقوبات الأميركية، وتُخاض ضدّها حرباً سيبرانية وأمنية وعسكرية أحياناً، وغالباً ما تستهدف برنامجها النووي وتواجد قواتها في سوريا، وقد وجدت ضالتها في علاقتها الطيبة مع أرمينيا ما يجعل من الأخيرة البلد المستقر الوحيد على حدودها ومصدراً مهماً للبضائع الغربية.
والذي يُغري طهران ويدفعها للتمسّك أكثر في علاقتها الاستراتيجية مع يريفان، موقف الأخيرة الصلب والداعم للجمهورية الإسلامية. حيث لم تستجب أرمينيا لكل الضغوطات الأميركية لناحية إغلاق حدودها مع إيران مقابل فتح تركيا حدودها المغلقة معها. وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2018، قام مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق جون بولتون بزيارة أرمينيا وأذربيجان وجورجيا لتأمين الدعم اللازم للخطة الأميركية لزيادة عزلة إيران. حاولت واشنطن أن تضغط على أرمينيا من أجل إغلاق حدودها، لكن حكومة يريفان لم ترَ بدّاً من استمرار العلاقة مع إيران، وتمكن اللّوبي الأرمني في الولايات المتحدة (وهو من اللوبيات النشطة والقوية هناك) من تحييد أرمينيا عن العقوبات المفروضة على كل دولة أو مؤسسة أو جهة تتعامل مع إيران.
وقد ساهمت سياسات أذربيجان وتركيا العدائية تجاه أرمينيا إلى دفع الأخيرة لتوطيد علاقاتها أكثر مع إيران، حيث راحت تؤيّد سياسات إيران الخارجية، أو بالأحرى سياسات محور المقاومة، ولم تتوانَ عن المجاهرة في دعمها للرئيس السوري بشار الأسد في حربه على الإرهابيين.
هذه المواقف الجريئة والمتقدّمة من الجانب الأرمني، أوصل بعض قادة إيران إلى حد التفاؤل بأن يريفان قد تنضم إلى محور المقاومة نتيجة تحالفها المتين والصلب مع دولتي هذا المحور (إيران وسوريا)، وعدائها لأذربيجان وحلفائها ) تركيا وإسرائيل(، اللتين لم تتوانا عن تقديم المعونة العسكرية والاستخباراتية السخيّة لأذربيجان، وتزويد سلاحها الجوي بأحدث الطائرات المُسيّرة، والتي لعبت دوراً حاسماً لصالح الجيش الآذري في حربه الأخيرة مع أرمينيا في خريف العام الماضي التي دامت 44 يوماً، وانتهت بهزيمة مدويّة للأخيرة وأجبرتها على توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، حيث خسرت معظم الأراضي التي احتلتها عام 1991.

وضع جيوسياسي جديد
وقد فرضت تلك الحرب وضعاً جيوسياسياً جديداً في جنوب القوقاز، الذي من شأنه التأثير على مسار علاقات دوله فيما بينها، وعلاقات هذه الدول بدول الجوار المؤثرة (روسيا وتركيا وإيران). حيث بات لتركيا ممرّ إلى أذربيجان، إذ ضمنت الأخيرة اتصالاً برّياً مع إقليمها ناخشيقان، وبالتالي، لم تعد مضطرة للمرور بالأراضي الأرمنية أو بالأراضي الإيرانية لتزويد هذا الإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي، بما يحتاجه من موارد وطاقة وبضائع. فيما تركت أذربيجان ممراً بعرض خمسة كيلومترات (ممر لاتشين) يصل أرمينيا بإقليم قره باغ.
كذلك شهدت حدود إيران مع كل من أذربيجان وأرمينيا تطورات جيوسياسية، إذ استعادت أذربيجان معظم حدودها مع إيران بعد سيطرة أرمينية استمرت أكثر من 30 عاماً، وأوقفت القوات الأذربيجانية الشاحنات الإيرانية المتجهة عبر أراضيها المستعادة إلى أرمينيا، واعتقلت سائقين إيرانيين، وفرضت ضرائب على دخول تلك الشاحنات، بسبب مرورها بطريقة غير قانونية وفق سلطات باكو. في غضون ذلك، تعهَّدت إيران بدعم إنشاء أرمينيا لطريق جديد في جنوب البلاد، يمر عبر مدينتَيْ تاتِف وكابان. وسيتجنَّب هذا الطريق عبور المنطقة الواقعة تحت سيطرة أذربيجان من جهة، والرسوم الجمركية التي باشرت سلطات باكو تحصيلها من المركبات الإيرانية من جهة ثانية.
إسرائيل تستعدي أرمينيا ليس بسبب تحالف الأخيرة مع عدوتها اللدود إيران وحسب، إنما الإسرائيليون يكنون كرهاً كبيراً تجاه الشعب الأرمني، ويتهمونه باللاسامية


من باكو إلى طهران
إن العلاقة في الأصل بين إيران وأذربيجان لم تكن يوماً على ما يرام، إنما كانت وما زالت مشبعة بالتوتر، سواء قبل حرب قره باغ الثانية أو بعدها. وبطبيعة الحال، لم يتوقف الأمر على توقيف الشاحنات الإيرانية ومنعها من العبور إلى أرمينيا كما ذكرنا آنفاً، ولا على المناورات العسكرية المتواجهة، إنما هناك تطورات خطيرة تمّ التأسيس لها منذ ما يزيد عن خمس سنوات، لناحية تطوير علاقة باكو بتل أبيب وإبرام العديد من صفقات الأسلحة والتعاون الاستخباري واستعانة الجيش الأذاري بخبراء إسرائيليّين، حتى قيل بأنه ثمة قواعد عسكرية تشغلها وحدات من الموساد الإسرائيلي إلى جانب وحدات مختصة بالحرب السيبرانية والطائرات المُسيّرة. وفي ضوء ذلك، تتهم طهران باكو بإحالة أذربيجان إلى حديقة خلفية لإسرائيل، وأن كل الهجومات الإسرائيلية في السنوات الأخيرة، والتي استهدفت مفاعل نووية إيرانية واغتيالات ومعامل طاقة كان مصدرها الأراضي الأذارية.
وبالمناسبة، أن إسرائيل تستعدي أرمينيا ليس بسبب تحالف الأخيرة مع عدوتها اللدود إيران وحسب، إنما الإسرائيليون يكنّون كرهاً كبيراً تجاه الشعب الأرمني، ويتهمونه بأنه معادٍ للسامية، وهي تهمة غالباً ما توجّه ضدّ كل من يقف ضد السياسة التوسعية الصهيونية. والمجموعات الصهيونية، مثل «لجنة الشؤون العامة الأميركية – الإسرائيلية» (أيباك) و«رابطة مكافحة التشهير» اليهودية وغيرهما، لا تعترف بالمذبحة الأرمنية من باب الوقوف مع حليفي الكيان الصهيوني؛ تركيا وأذربيجان من جهة، ولتبقى المحرقة اليهودية الجريمة العالمية الوحيدة التي لم يشهد العالم نظيراً لها عبر التاريخ حسب الرواية الإسرائيلية طبعاً، ومحاولة تأليهها وتكريسها عنواناً لمظلومية الشعب اليهودي.
وما لا يقل خطورة عن ذلك، هو استجلاب أذربيجان عن طريق تركيا عناصر إرهابية من سوريا وأخرى أتت من أفغانستان، وجرى استخدامها في الحرب الأخيرة، وهذا الأمر ليس غريباً على القيادة التركية التي تتزعم جيشاً من الإرهابيين يقاتل في سوريا وليبيا. وقد تبقي أذربيجان على بعض هؤلاء الإرهابيين ليشكلوا مع التواجد العسكري والأمني الإسرائيلي عناصر تهديد جديّة للجار الإيراني.
أضف إلى ذلك، أنه ظهر إبان الأزمة السورية تغلغل الفكر الوهابي في أذربيجان بدعم من السعودية، حيث خرج الكثير من الجهاديّين الذين ذهبوا للقتال مع تنظيمَي «داعش» و«جبهة النصرة» من مسجد أبو بكر في العاصمة باكو.

إيران قبلة الشيعة في العالم
لم تنفع وحدة الدين بينهما، حيث أن أكثر من 85% من الآذاريين مسلمين و90% منهم شيعة، ورغم ذلك عجزت إيران، التي تمثل ثقل العالم الشيعي ومرجعيته السياسية على الأقل، عن جذب شيعة أذربيجان نحوها بخلاف كل التجمعات والمكونات الشيعية في مختلف أنحاء العالم. وفضلاً عن خلفيتهما الدينية المشتركة، تربطهما علاقات تاريخية وثقافية عميقة، فالقومية الأذرية في إيران تعد القومية الثانية في التركيبة الاجتماعية بعد القومية الفارسية، ويشكل الأذاريين 16% من مجموع الشعب الإيراني.
ومن الجدير ذكره هنا، أنه ثمة تناقض حاد بين نظامي البلدين، أحدهما علماني وآخر ديني عقائدي بامتياز، فكلاهما يخشى الآخر، خصوصاً أن إيران تعتبر نظامها النموذج الأمثل للأنظمة الإسلامية، وأنها قدمت تجربة عملية ناجحة، وغالباً ما تدعو الآخرين إلى الاقتداء بها عن طريق التبليغ الديني أو دعم الجماعات الشيعية أو عن طريق الدعاية وإبراز فضائل نظام الجمهورية الإسلامية. وبطبيعة الحال، لن ترضى بأن يُشكّل نظام أذربيجان العلماني نظاماً بديلاً لنظامها الإسلامي، أو بالأحرى لنظامها الشيعي الفريد في العالم، وربما التاريخ لم يشهد مثيلاً له. وبنظرها هو النظام الوحيد الذي يلبي رغبات أبناء المذهب الجعفري، الذين من الضرورة أن تبقى إيران قبلتهم دائماً وأبداً.

لا حرب بين إيران وأذربيجان
ولا تبدو هذه الجلبة التي تعيشها المنطقة بعد حرب الأسابيع الستة، أنها سوف تؤدي إلى اشتعال الجبهة الإيرانية الأذارية، ولن يستمر التوتر في العلاقة على حدته، رغم ما أعقب هذه الحرب من مناورات عسكرية مشتركة لجمهورية أذربيجان وباكستان وتركيا، والتي أثارت حساسيات إيران، وفسرتها بأنها انتهاك للاتفاقية الدولية التي تحظر المناورات العسكرية من قبل القوات الأجنبية في الدول المطلة على بحر قزوين. وفي المقابل، وعندما لم تستجب أذربيجان لتحذيرات إيران شنت الأخيرة مناورة عسكرية قرب الحدود بين البلدين. سيبقى ما يربط البلدين من مصالح ومشاريع مشتركة كفيل بالتهدئة، أبرزها؛ خط سكك الحديد بين آستارا الإيرانية وآستارا الأذربيجانية، وهو الممر المعروف بممر «جنوب - غرب» الذي يوصل البحر الأسود بالخليج العربي، وينقل من خلاله شحنات البضائع بين البلدان الأوروبية عبر خط بولندا وأوكرانيا وجورجيا وجمهورية أذربيجان ومنها إلى إيران والخليج العربي ومن ثم إلى الهند.
ولا شك أن أذربيجان تعي وتعرف جيداً حجم وقدرة إيران، وتعي خطورة الحرب معها وكلفتها المرتفعة، والتي لا تشبه حربها مع أرمينيا، ولن تلقى تشجيعاً من تركيا، ولن يترك الروس المنطقة تشتعل ومن ثم يُجلسون المتحاربين على طاولة المفاوضات كما حصل مؤخراً. وربما الجهة الوحيدة التي تريد تلك الحرب أن تحصل هي إسرائيل. وفي المقابل، ستبقى أرمينيا حليفة لإيران، والاختلاف الديني أداة جمع بينهما لا العكس، فلا أرمينيا تخشى على شعبها من موجات التشيع وما يعرف بـ«تصدير الثورة»، ولا إيران في المقابل تخشى تأثير أرمينيا عبر جاليتها في إيران، والتي تتمتع بحقوق وامتيازات لا تحظى بها مختلف القوميات والعرقيات والأقليات المتواجدة على الأرض الإيرانية. حيث يتبوأ الأرمن مواقع عليا في الدولة، ولهم الحرية المطلقة في ممارسة عبادتهم وبناء الكنائس.
*باحث لبناني