جاء إعلان الحكومة البريطانية حول عزمها على تصنيف حركة المقاومة الإسلامية «حماس» بكاملها «منظمةً إرهابيةً» أمراً مستغرباً وخارج السياق بنظرة أولية، فرغم السياسات البريطانية المعادية عموماً للقضايا العربية تاريخاً وحاضراً، ورغم كون بريطانيا قد صنّفت منذ حين الذراع العسكرية لحركة «حماس» على أنها «منظمةٌ إرهابيةٌ»، إلا أن إعلان وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتل عن سعيها لصبغ حركة «حماس» بكاملها بصبغة الإرهاب جاء دون أية مقدمات، فماذا إذاً وراء الأكمة؟ وكيف ينبغي على حركة «حماس» وسائر فصائل المقاومة الفلسطينية عموماً التعامل مع هذا المسعى البريطاني الذي يُرجَّح أن يصير واقعاً؟لنستذكر بدايةً المسعى الذي قاده رئيس الوزراء البريطاني الأسبق - السيّئ الذكر - توني بلير أواسط العَقْد الماضي مع حركة «حماس»، ذاك المسعى الذي حاول من خلاله انتزاع تنازلاتٍ من حركة «حماس» في الثوابت الفلسطينية، وإقناعها بإدخال تغييرات في نهجها المقاوم، وكان ذلك من خلال تقديم مغرياتٍ للحركة على شاكلة وعودٍ بفتح قنوات تواصلٍ مع مؤسساتٍ وشخصياتٍ برلمانيةٍ أوروبيةٍ، تفضي إلى فتح قنوات تواصلٍ مع الحكومات الأوروبية وحصول الحركة على اعترافٍ غربيٍّ بها.
وعلى إثر مسعى بلير ذاك، كانت الحركة قد أصدرت ما بات يُعرف بـ«وثيقة حماس» التي رغم تخفيف الحركة من حدّة لهجتها التقليدية فيها، واستخدمت في المقابل لغةً حمّالةَ أوجهٍ، إلا أن الوثيقة لم تتضمن تعديلاً جوهرياً في مبادئ الحركة، وبهذا فشل مسعى بلير وجزَرته من تحقيق المراد الغربي والصهيوني منه، ومن ثم عاد بعد ذلك الاحتلال إلى أسلوب العصا من أجل كسر شوكة المقاومة الفلسطينية، حتى جاءت معركة «سيف القدس» التي فاجأت فيها المقاومة الفلسطينية - وفي طليعتها كتائب الشهيد عز الدين القسام - العالم بمدى الاقتدار الذي وصلت إليه تسليحاً وتنظيماً وتكتيكاً، وحقّقت فيها المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة «حماس» نقلةً نوعيةً في مسار مجابهة المحتل، وفرضت فيها حركة «حماس» نفسها لاعباً رئيساً في الساحة الفلسطينية - وحتى في الإقليم بقدرٍ ما - كونها الفصيل المقاوم الأكبر والأكثر انتشاراً في الشارع الفلسطيني.
ويضع بعضهم مسعى الحكومة البريطانية المستجد في سياق معاقبة حركة «حماس» على هذا الإنجاز، وفي سياق المحاولات الصهيونية لتفريغ الإنجاز الإستراتيجي الذي تحقّق في «سيف القدس» من محتواه، فما رشح من مسار المباحثات الراهنة حول إعادة إعمار قطاع غزة المحاصر، يشي بزيادة الضغوط على حركة «حماس» من ناحية، وبتقديم المغريات المادية لها في إطار إعادة الإعمار من ناحية مقابِلة، وذلك بالتنسيق مع بريطانيا وأميركا وبعض الدول العربية بكل أسف، فالمطروح اليوم على الشعب الفلسطيني وفصائله المقاوِمة لا يعدو سوى مقايضة الأرض والحقوق الفلسطينية المغتصبة بالغذاء والمساعدات المادية، وهذا أمرٌ جُرِّب مع الفلسطينيين في الماضي ولم ينجح، فهل ينجح اليوم بعد ما بات للفلسطينيين سيفٌ ودرعٌ كما ثبُت عملياً في معركة «سيف القدس»؟
لكن في العموم، سواءً أكانت دوافع بريطانيا من وراء مسعاها تصنيف حركة «حماس» بكليتها «منظمةً إرهابيةً» الالتفاف على نتائج «سيف القدس» الإستراتيجية كما سلف، أم كانت دوافع أخرى بريطانيةً داخليةً محضةً، ففي كل الأحوال تظل الخُلاصات والنتائج متساوية.
مع كل منعطفٍ، يثبت الغرب أنه في تعاطيه مع المنظمات الفلسطينية ينطلق من ثابتة مُفادها بمحاولة تجريد الفلسطينيين من أية أوراق قوةٍ يتيسر لهم الحصول عليها في مواجهة الكيان الغاصب، وتأتي المقاومة المسلّحة المشروعة على رأس قائمة أوراق القوة الناجعة التي يمكن أن تمتلكها الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، ويجيء المسعى البريطاني المستجد ضمن هذه الثابتة، واستمراراً لمساعي توني بلير السابقة لكن بطريقة التهويل وإشهار العصا هذه المرة، لذلك ينبغي على أي فصيل فلسطيني أخذ العبرة، وإدراك حقيقة كون ثمن الاعتراف الغربي ليس إلا التخلي عن نهج المقاومة سبيلاً للتحرير، وبأن أية أثمانٍ أخرى يعرضها الفلسطيني لن تؤدي إلى قبول الغرب به، وهذه تجربة «م.ت.ف» الكارثية على القضية الفلسطينية شاخصةً أمامنا.
وعليه، تصير زيادة مراكمة القوة - كما حصل في «سيف القدس» - الطريق المفيد الوحيد أمام حركة «حماس» وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية لانتزاع حضورها في المعادلات الدولية، فمن يمسك بالأرض يفرض الشروط بمعزل عن رضى الغرب عنه من عدمه، وهذه تجربة حركة طالبان التي حاربتها أميركا لعقدين من الزمن، لتعود بعد ذلك للتفاوض معها حسب معطيات الميدان، هذا بغضّ النظر عن تقييمنا لمسيرة حركة طالبان سلباً أم إيجاباً، وأيضاً أخذ العبرة مما جرى مع حركة المقاومة الإسلامية في لبنان حزب الله، الذي يصنفه الغرب «منظمةً إرهابيةً»، ولكن مع هذا وجدنا مبعوث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مرغماً على لقاء ممثل الحزب حينما أرادت فرنسا التوسط في تشكيل الحكومة اللبنانية، وجرى اللقاء في داخل حرم السفارة الفرنسية ذاتها في لبنان.
يعد الإجماع الذي تَشكَّل فلسطينياً حول إدانة المسعى البريطاني أمراً مبشراً يمكن البناء عليه، ولا ضير في التحرك الدبلوماسي الموسع الذي أعلن عنه رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية من أجل الحد من مفاعيل هذا التوجه البريطاني، لكنّ الرد الناجع كان في عملية «باب السلسلة» الأخيرة، التي نفذها الشهيد فادي أبو شخيدم القيادي في حركة «حماس»، والتي كانت استمراراً لمعركة «سيف القدس» كما وصفتها فصائل المقاومة الفلسطينية، صحيحٌ أن هذه العملية لم تكن رداً مباشراً على مساعي بريطانيا أخيراً، إلا أن تصعيد العمل المقاوم في القدس والضفة الغربية، وتعزيز مفاعيل «سيف القدس» والبناء عليها، حتى الوصول إلى إشعال الانتفاضة الثالثة، بهدف إجبار الاحتلال على الانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 دون قيدٍ أو شرطٍ، كل ذلك يُعد الطريق الأقصر لاستعادة بعض من الحقوق الفلسطينية المسلوبة، ولإبطال مفاعيل مثل هكذا مساعٍ من بريطانيا وغيرها.
هذا كان على صعيد الداخل الفلسطيني، أما على مستوى الخارج، فعلينا الإقرار بأنَّ هذه الخطوة البريطانية الجائرة ستضيف تعقيدات جديدة أمام التحركات الشعبية البريطانية المناصرة للحق الفلسطيني، على غرار التحركات التي شهدناها خلال معركة «سيف القدس»، وذلك إذا ما أخذنا في الحسبان التعقيدات القائمة فعلاً بسبب قوانين «معاداة السامية»، تلك القوانين التي يتم استغلالها بصورة فاضحة لحماية كيان الاحتلال من أية انتقادات أو محاسبة عن جرائمه ضد الفلسطينيين، فهل يُعقَل التفريق بين أي دعمٍ ذي معنى لحقوق شعبٍ تحت الاحتلال، وبين دعم حقه المشروع والأصيل في مقاومة هذا الاحتلال بكل الوسائل المتاحة وعلى رأسها المقاومة المسلّحة؟
لكن في المحصّلة، يمكن للخارج تقديم ما يستطيع من دعم للداخل الفلسطيني ضمن المتاح في بيئته، وضمن مدى استعداد كل فرد للتضحية، شرط أن لا يطلب الخارج من الداخل الفلسطيني الالتزام بالسقوف المنخفضة التي يُفرَض على الخارج الخضوع لها حتى ولو لفظاً، فتبقى مواجهة المحتل على أرض فلسطين المحتلة وعلى باقي الأراضي العربية المحتلة هي الأصل، سواءً أكان الاحتلال صهيونياً أم أميركياً.

*كاتب وباحث سياسي