تكمن أهمية تحديد مفهوم الهوية في كونه يُعبّر عن الانتماء الإنساني. فالهوية في أشكال تجلياتها ترتبط على نحو وثيق بالتاريخ والتراث بوصفهما المكون الأساسي للذاكرة الجمعية. وتتأثر في سياق تطورها المفتوح على المستقبل، بالمناخ الاجتماعي العام الذي يستغرق جملة العوامل الذاتية والموضوعية.
وهذا يعني أنه من الصعوبة بمكان إطلاق أحكام نهائية وقطعية على بنية الهوية، أو تحديد وضبط أشكال تحوّلاتها باعتماد تحليل أحادي الجانب، لكونها تتأثر في سياق تحوّلاتها بمسارات من التطور المتعدد الأبعاد والمستويات. لهذا فإن ضبط وتحديد مكونات وتجليات الهوية يجري في معظم الأحيان بعد عزلها عن سياق التطور. وهذا يجردها وحواملها الاجتماعية من عوامل الغنى والتنوع الذي تزخر بهما في سياق تطورها الموضوعي التراكمي. هذا بغض النظر عن التحولات المفاجئة التي من الممكن أن تظهر لحظة الانعطافات التاريخية الكبرى والمصيرية. وينطبق هذا بشكل نسبي على التحولات التي تظهر على جوهر وسطح الانتماءات عند المواطن السوري في أزمته الراهنة، ذلك لأسباب إنسانية وسياسية واقتصادية. فأشكال تجليات الهوية قبل الدراسة ليست هي ذاتها أثناء الدراسة وبعدها. ونشدّد على أنّ ما نقصده بالتغيّر وعدم الثبات، لا ينطبق على بنية وجوهر الهوية بمستوياته الإثنية، العرقية، الأمة، القومية... فالتغيرات والتحولات التي تخضع لها الهوية في هذا المستوى تصبّ في حقل التحولات التدريجية والتراكمية لمكونات وحوامل الهوية الثقافية والسياسية. ومع هذا فإن التباين والاختلاف والتناقض تبقى جميعها على الدوام إحدى السمات الأساسية للمكونات الاجتماعية التي تُعبّر عن ذاتها وفق أشكال ثقافية متنوعة، وحتى متناقضة في بعض الأحيان، لكونها تخضع في سياق تحولاتها الظاهرية السطحية الجزئية ــ والبنيوية العميقة، لشروط ذاتية وموضوعية تسهم في بُعدها التراكمي في حصول تغيير جوهري في بنية الهوية.

التيارات الأصولية والإصلاحية تستمد شرعيتها من علاقتها الخاصة بالتراث


فالإنسان المولود في مناخ ثقافي معيّن ليس في حد ذاته ممارسة للحرية الثقافية لكونه ليس فعلاً اختيارياً، على عكس القرار بالبقاء داخل نمط محدد، أو تبني نمط مختلف. لذلك فإن ما يجب تفاديه على نحو خاص في هذا السياق، هو الخلط بين التعددية الثقافية والحرية الثقافية. فحرية التفكير والتعددية والتنوع عوامل تسهم في تخفيف حدّة صراع الهويات الأحادية القائمة على تعميق التماثل وزيادة حدة الانقسامات العمودية وقمع الاختلافات، وأحياناً توليد العنف الذي تسهم في زيادة حدته مفاعيل خارجية. ومن الضروري إدراك دور التنوع الثقافي في تخفيف الفوضى المفهومية حول مفهوم الهوية الاجتماعية ومقاومة توظيفها السلبي في زيادة حدة الصراع، وتحديداً بمستوياته العمودية. لهذا فإن أهمية فتح آفاق الحريات الاجتماعية ــ الإنسانية والسياسية، مرده ليس فقط لأن هذه الحريات حق إنساني مشروع، بل من أجل الحد من تغوّل الفكر الأحادي الإقصائي والعنفي.
وإذا كان لدى الجماعات الأصولية أسبابها في إنكار التنوع والتباين والاختلاف في بنية الهوية الإسلامية، فليس من سبب لابتعاد الذين يريدون مقاومة تسييس التعصب الديني والطائفي في سياق تحويله إلى جهاد مقدس، عن إبراز تنوع الهويات الاجتماعية الثقافية والفكرية والسياسية. وتكمن أهمية هذا التوجه، في كون الأحادية العقائدية تميل إلى طمس التنوع والتعدد السياسي والثقافي وتذويبه في أطر مذهبية وعرقية وطائفية. وهذا يستدعي ضبط دور الدين في حقل حرية التدين والاعتقاد.
فإعادة تعريف الأديان ووظائفها وأهدافها الدنيوية لوضعها في أطر وأنساق ثقافية وعقائدية أحادية تستغرق هوية الفرد وثقافته القائمة على التنوع، وتحط من أهمية القيم الدينية، التي تؤكد على التسامح والأخلاق الفاضلة، وتبعد الدين عن فكرته الأساسية التي تؤكد حرية الفرد. ولو كانت الثقافة الإسلامية قادرة على استغراق أشكال تفكير ومسلكيات الإنسان المسلم، فهذا يعني أن كل المنظومات الفكرية والاجتماعية والقيمية للشخص لا بد أن تكون مستندة إلى الجذر الثقافي الإسلامي. وهذا غير دقيق. فالتنوع الثقافي والمعرفي والتطور العلمي وانفتاح الفضاء المعرفي عززت جميعها كثيراً من أشكال وأنماط التفكير المخالفة للثقافة الدينية. وهذا يعني أن ثقافة الفرد المسلم أصبحت تميل إلى التنوع، ولم تعد العلوم الإسلامية تمثّل المصدر الوحيد لمعارفه، لكن السلفية والأصولية الحاضنة للحركات الجهادية التكفيرية تحارب كافة أشكال التنوع الفكري والثقافي، حتى إنها تعمل على اختزال الثقافة الإسلامية في إطار أحادي إلغائي، وهذا يضعها في موقع النقيض مع التقدم العلمي، وما حققته بعض المجتمعات من تطور. فالتباين في مستويات التطور بين البلدان الإسلامية أصبح حقيقة واقعية نلحظه من خلال المقارنة بين البلدان التالية: ماليزيا، واندونيسيا، والهند، تركيا، إيران، تونس، سوريا، مصر، العراق، السعودية، وقطر، الكويت، الأردن، العراق، الصومال، أفغانستان، السودان... ففي هذه البلدان يتباين واقع الفرد ودرجة التطور العلمي والتنوع الثقافي والسياسي. وكذلك دور الدين ووظائفه ومستويات وأشكال توظيفه السياسي. فبعض الحركات الجهادية والأصولية مثل تنظيم القاعدة وفرعه في العراق والشام «داعش»، تتجاوز في فهمها للدولة، الأطر والحدود السياسية للدولة القطرية، ذلك في سياق اشتغالها على إقامة دولة إسلامية على أنقاض الحدود القطرية. تقابلها حركات جهادية تميل إلى إقامة إمارات إسلامية. وكافة هذه الأطراف حوّلت سوريا إلى دار للرباط والجهاد، إضافة إلى معاداتها للتطور والتصاقها بالماضي، الذي تعمل على استنهاضه، فيما حكومات الدولة الوطنية تزداد انكفاءً داخل حدودها القطرية.
من جهة أخرى، يجب التركيز على أن الغرب يشتغل على إبراز الهوية الثقافية الأحادية في المجتمعات العربية والإسلامية. ويتجلى ذلك في سياق تنميط الدول الإسلامية في إطار نمط ثقافي أحادي. وضمن السياق ذاته تشتغل المراكز البحثية والسياسية الأميركية والأوروبية على إبراز قدرة المجتمعات الغربية على التحوّل الديمقراطي، فيما تؤكد أن الحكومات والمجتمعات الإسلامية ذات الثقافة الأحادية، تنبذ التحول الديمقراطي في سياق تعميق الشمولية والاستبداد والعنف. وإن كان هذا التحليل يحمل بعضاً من الموضوعية لجهة الميول السياسية الشمولية، لكن ليس لأن مجتمعاتنا تقوم على وعي إسلامي أحادي فقط، لكنه أيضاً نتيجة لتقاطع الاستبداد السياسي مع الفكر الإسلامي الأحادي، مع دور الحكومات الغربية التي اشتغلت على تمكين أنظمة سياسية ذات أدوار وظيفية محددة. وهذا تاريخياً أفضى إلى قيام أنظمة شمولية توظّف التشريع الديني كغطاء أيديولوجي لممارساتها السياسية، لكن هل يبرر هذا للبعض رد التخلف العربي والعنف والأحادية السياسية والثقافية إلى الجذر الديني فقط؟ وإذا اعتمدنا هذا المنهج في تحليل مجتمعاتنا وأنماط التفكير وبنية العقل، ألا يعني ذلك أننا نستخدم المنهج نفسه الذي تريد من خلاله جهات غربية تعميق الفصل والتمييز بين مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية على أساس ديني. في وقت يعلم فيه الجميع إنّ المخرج من أزمة المجتمعات العربية يبدأ من فصل الدين عن السياسة. ورفض التحليل الذي يعتمد التصنيف الديني والمذهبي، لأنه يسهم في استمرار التخلف الاجتماعي والتبعية، اللذين تشتغل على تكريسهما ومن المنظور نفسه حكومات غربية. ويبدو هذا جلياً في السياسات الغربية التي تربط الإرهاب بالدين الإسلامي. وهذا لا يعني التغاضي أو قبول الإرهاب المحمول على الدين. فالأديان قدمت منظومة أخلاقية ما زالت تحافظ وإن على نحو نسبي على التماسك الاجتماعي، لكنها في الوقت نفسه ترعى وتحتضن أجنّة وبذور العنف المقدس، حالها حال كافة الثقافات الأحادية القائمة على احتكار الحقيقة. وما نقصده هو عدم ربط الإرهاب بالدين والدين الإسلامي فقط، بل التأكيد على خطورة الإرهاب الدولي، الذي تشارك فيه وترعاه دول وحكومات عربية وغير عربية. فالإرهاب الديني المدعوم دولياً، يكرّس في المحصلة النهائية التخلف والتبعية والارتهان للمراكز الرأسمالية.
إنّ تركيز الغرب على أن الإسلام حامل للإرهاب، يرمي إلى تبرير تدخله في المجتمعات الإسلامية تحت ذريعة مواجهة الإرهاب، الذي كان لحكومات الغرب الدور الأساس في تأسيسه وتمويله، واستخدامه وسيلة للضغط على بعض الحكومات، وأحياناً للتدخل المباشر عندما ترى ضرورة لذلك. وهذا لا يلغي مسؤولية حكومات من العالم الثالث عن دورها في دعم واحتضان الحركات الإسلامية المتطرفة. من هذا المنطلق، فإن عدم الإقرار بتعدّد الثقافات والانتماءات في المجتمعات الإسلامية والعربية، يسهم في تصعيد وتيرة التعصّب والعنف المذهبي. وهذا بحد ذاته يحط من قيمة العقل السياسي والفكر الديني التنويري المعتدل، الذي يقر بضرورة التغيير والانفتاح على الآخر. وفي الوقت ذاته يُثبّت ادعاء بعض المنظرين الذين يؤكدون أن الغرب فقط يتمتع بالقيم الديمقراطية، بينما الشرق هو موطن الاستبداد والعنف والتخلف. ويأتي هذا في سياق توصيف الصراع الدائر في العديد من دول العالم، وأيضاً سوريا وبعض الدول العربية، على أنه صراع ديني. وهذا يعني إبعاد الصراع عن جذره السياسي. وليس في هذا دفاعاً عن الأطراف الجهادية، بل نقد لنمط التفكير والتحليل الذي تحاول أن تكرسه مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الغربية، وأن تحوّله الحكومات إلى فعل مادي تقوده بذاتها أو بالوكالة. وهذا ما اشتغل على تأكيده صموئيل هنتنغتون في كتابه «صراع الحضارات»، وفرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ». فالأول يدّعي أن كافة الصراعات البشرية تحمل في طياتها بعداً دينياً، بل أكثر من ذلك، أن محرّكها على الدوام هو الدين. بينما الآخر يرى أن التطور التاريخي توقّف عند المرحلة الرأسمالية، وكافة أشكال التطور المقبلة لن تكون إلا في إطار النمط الرأسمالي. وكلاهما يشتغل على تكريس ثقافة أحادية تغلق أبواب التطور الاجتماعي، وتصادر المستقبل، وتتجاهل الاختلاف والتنوع الاجتماعي، وأسباب الأزمات السياسية والاقتصادية في العالم العربي على نحو خاص. وتكمن إشكالية الهوية الأحادية، في أن حواملها الاجتماعية تعمل على محو الهويات الأخرى وتناهض التنوع الثقافي والتعددية، إضافة إلى ذلك فإن القصور المعرفي وهيمنة العصبيّة العشائرية على العقل السياسي، يُعدّان من مكونات التخلف والأحادية، اللذين يحُدّان من قدرة الفرد على تبنّي الخيارات المستقلة. إن انتشار الفكر السلفي الأصولي يسهم في كبح الاختيار العقلاني ويهدد التعددية الثقافية والاختيار الديمقراطي الحر. وهذا يقود إلى تعميق ثقافة العنف والصراعات المذهبية. ومن المعلوم أن التيارات الأصولية والإصلاحية والإسلام التقليدي تستمد شرعيتها من علاقتها الخاصة بالتراث، لكن قيادة التيارات الإسلامية المتطرفة ترفض دور التطور، وتأثيره في مصادرها المعرفية وشرعيتها التراثية. وهذا يقود إلى المزيد من التقوقع والانغلاق العقلي.
أخيراً: تقع على الإسلام الإصلاحي مسؤولية إعادة بناء الفضاء الديني التنويري بالتزامن مع إعادة بناء المجال السياسي على المبادئ الحديثة: المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وإلاّ فإنه سوف يُعاد إنتاج العنف الذي يرتبط بتضخم الأصولية. وهذا ما يحصل في ظل عجز الحركات الأصولية عن تسيير الدولة لحظة انتقالها من موقع المعارضة إلى السلطة، إذ كشفت في مصر تحديداً، عن هدفها في طمس مفهوم دولة المواطنة. وكان هذا كافياً لتوليد العنف. ومن يقرأ الأدبيات الأصولية في تنظيرها للدولة الإسلامية، أو الاقتصاد الإسلامي، يمكنه أن يستنتج بسهولة، أنها مبادئ فضفاضة وفي أحسن الأحوال نوع من الطوباوية.
* باحث وكاتب سوري