لا شك أن تجربة السنوات الماضية من التفاهم القائم بين الحزب والتيار حملت الكثير من الاختلافات في وجهات النظر في قضايا أساسيّة شكّلت ضربات قويّة لهذا التفاهم، وكان آخرها مقاطعة جلسات مجلس الوزراء والموقف منها، ما وضع التفاهم على طاولة الحوار بين الطرفَين، فما هي الخيارات المتاحة أمامهما؟ولنُجيب عن هذا السؤال يجب أن نحلّل انطلاقاً من الخلفية لدى كل منهما التي دفعت إلى التفاهم. بالنسبة للتيار كان الشعور السائد في البيئة المسيحيّة أن دولة ما بعد الطائف ليست دولتهم. ولهذا الشعور أسبابه التاريخيّة، أهمّها أن الغرب الذي اعتمد المسيحيّين في لبنان كرأس جسر إلى شرق المتوسط، منذ الحقبة العثمانية، قد أسقط هذا الدور، خصوصاً بعد حرب 1967 وصعود مشروع التوطين للفسلطينيّين الذي لولا رفض سوريا له لكان أمراً واقعاً ولكان المسيحيّون، وربّما غيرهم، حالياً يعيشون في الدول الغربية. وعبثاً حاول العديد من قادة المسيحيّين إقناع الغرب بإعادة إنتاج دور جديد لهم من خلال تقديم عروض وخدمات لا زلنا نشهد بعضاً منها إلى اليوم لكن دون جدوى.
لقد لجأ التيار الوطني إلى خيار آخر عبر طرح «المشرقية» واعتماد أصالة الوجود المسيحي في بلاد الشام، فتوجّه إلى سوريا، حيث الكتلة الأكبر من المسيحيّين في شرق المتوسط، متجاوزاً تاريخاً من الصراع، بعد أن أقام تحالفه مع حزب الله، الطرف القوي والوحيد الذي لم يكن شريكاً فعلياً في حكومات ما بعد الطائف، والتي اتّهمها التيار أنها همّشت الحضور المسيحي في السلطة، وكان الرهان أن هذا التحالف سيُعيد إنتاج سلطة جديدة تكون أكثر توازناً وأكثر إنصافاً مع المسيحيّين.
في المقابل، فإن حزب الله، الطرف الثاني في التفاهم، قد رأى في التيار حليفاً قوياً وقادراً على إعطاء المقاومة بُعداً وطنياً في بيئة لطالما كانت بعيدة منه. بحيث يشكّل التيار عمقاً استراتيجياً له، خصوصاً أن الحزب لا يمانع مطلقاً دعم التيار في إعادة التوازن للدور المسيحي الوطني في لبنان، لكنه كان يخطو كالطفل في أولى خطواته متمسّكاً بمن حوله وبنظرية الدوائر الطائفيّة التي اعتمدها كبديل من ضابط الإيقاع السوري الذي أمّن ظهر المقاومة. ورغم أن هذه النظرية أثبتت فشلها في عدوان تموز 2006، فقد ظلّ الحزب يحبس نفسه داخلها، وهنا تكمن نقطة الاشتباك مع التيار الذي أراد من الحزب دعمه في مواجهة أقطاب الطائف، بمن فيهم أطراف حليفة له، ما وضع الحزب في حالة من التجاذب والبحث عن تسويات بدت مستحيلة.
الحوار قائم اليوم بين الطرفين، والأسباب التي دفعت للتحالف بينهما ما زالت قائمة. لا بل إن الحاجة لكليهما للتفاهم قد ازدادت. فالتيار الذي أحرق مراكبه مع الجميع ليس أمامه سوى الحزب. كما أن الحزب لا يمكن له أن يتخلّى عن التيار ومحاصرة نفسه داخل حدود الطائفة، خصوصاً على أبواب انتخابات يهدف من خلالها الأميركي إلى وضع الحزب في أضيق دائرة ممكنة، ما يشكّل دافعاً لدى الحزب لتعزيز حضوره وتحالفاته في أوسع مدى ممكن. ما يعني دعماً للتيار، وليس العكس. ولذلك، فإن الطرفين بحاجة إلى رسم خطوط جديدة في آليات التعامل بينهما، بحيث لا يسمح الحزب بمعاقبة التيار وإضعافه بما يخدم المطلب الأميركي، وبحيث يكون التيار أكثر مرونة وأكثر تفهّماً لواقع الحزب. وإلا وجد الطرفان نفسيهما في حالة عزلة تامة، ولا يبقى أمام الحزب إلا خط الدفاع الأخير: «الميثاقية»، وهي أبغض الحلال.

* كاتب لبناني