يوم الـ 18 من كانون الثاني 1985 لم يكن يوماً عادياً في تاريخ السودان الحديث. فهي المرّة الأولى (والأخيرة) التي يتم فيها إعدام رجلٍ على خلفيّة أفكاره ومعتقداته، وبشكل رسميّ اتخذته الجهات القضائية في الدولة، استناداً إلى «حكم الردّة» في الشريعة الإسلامية. ليس غرضنا هنا استعراض سيرة ومراحل حياة المفكر الإسلامي السوداني الراحل، فهي طويلة، وإنما التركيز على كتابه الأهم في حياته والذي أصدره في طبعته الأولى عام 1967 وعنوانه «الرسالة الثانية من الإسلام» الذي طرح فيه فكرة جريئة، غير تقليدية، وذات أهمية بالغة. قدّم محمود محمد طه حلاً جذرياً لإشكالية الإسلام والمعاصرة، والتناقض الظاهر بين الإسلام كدين وشريعة والدولة المدنية الحديثة.

الفكرة التي شرحها طه في كتابه تقوم على أساس أن هناك «إسلامَيْن» أمامنا، لا إسلاماً واحداً! الأوّل، إسلام الفترة المكّية من حياة النبي محمد والتي دامت حوالي 12 سنة. وهذا الإسلام المكّي هو الأصل والأساس، وهو جوهر الدين ورسالة الله للإنسان. إنه إسلام الأفكار والمبادئ العامّة. وأهم ما يميّز إسلام الفترة المكّية هو التسامح وقبول الآخر والمساواة والمحبّة بين الناس والعدل والرحمة. وفي الفترة المكّية كان النبي مستضعفاً، محاصراً ومطارداً ولم يكن مسؤولاً عن إدارة دولة ومجتمع ولا عن الاقتصاد والسياسة والقضاء كما صارت الحال في الفترة الأخيرة من حياته. وفي الفترة المكّية كانت آيات القرآن تنزل لتغرس عقيدة الإيمان بالإله الواحد في النفوس ولتبرز عظمة الخلق ومصير الإنسان بعد الموت. الإسلام المكّي إذاً هو الإسلام الحقيقي، الخالد والباقي، والجدير بالالتزام .
وأمّا الفترة المدنية من حياة النبي، والتي دامت أكثر قليلاً من عشر سنين منذ هجرته من مكّة إلى وفاته، فيمكن القول إنها الإسلام «الطارئ» أو «الظرفي» أو «المؤقّت» أو «المرحلي» أو سمّها ما تشاء! ففيها انهمك النبي في حروب وصراعات؛ أوّلاً ضد قبيلته الأم قريش ثم على مستوى جزيرة العرب كلّها، وقد اضطر إلى ذلك اضطراراً بعد أن فشلت كل جهوده الدعوية بالحسنى والموعظة الحسنة ولاقت صدّاً ورفضاً وآذاناً صماء. وفي الفترة المدنية أيضاً كان على النبي، مرغماً، أن يتصرّف كرجل دولة مسؤول؛ يجد حلولاً لمشاكل جماعة المؤمنين، وينظّم أمورهم، ويواجه مخاطر الأعداء وتهديداتهم. ونظراً للدور المستجد الذي صار النبي يلعبه كان ضرورياً أن يأتي بإجراءات وأحكام وتشريعات وتعليمات تناسب الظروف المتغيّرة والتطورات المتسارعة التي تحصل كل يوم. ومن هنا أتت آيات الجهاد وأحكام القتال والغنائم، والتشريعات المتعلّقة بوضع المرأة في ذلك المجتمع العربي البدوي، والتعامل الواقعي مع الرقيق والعبودية. كل ذلك استجابة لمتطلبات الواقع وضغط الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المتغيّرة.
كتابه الأهم في حياته والذي أصدره في طبعته الأولى عام 1967 وعنوانه «الرسالة الثانية من الإسلام» طرح فيه فكرة جريئة غير تقليدية وذات أهمية بالغة


والخلاصة من ذلك كلّه أن الإسلام الحقيقي هو إسلام الفترة المكّية، إسلام العقيدة، الإسلام الموجّه للفرد، قبل الجماعة. وأمّا إسلام الفترة المدنية وما به من أحكام وتشريعات فلا يلزمنا ولا يناسب عصرنا ويمكن اعتباره تاريخاً أو تفاصيل. ومجرّد إلقاء نظرة إلى عناوين فصول الباب الخامس من الكتاب تفي بالغرض:
- الجهاد ليس أصلاً في الإسلام
- الرق ليس أصلاً في الإسلام
- الرأسمالية ليست أصلاً في الإسلام
- عدم المساواة بين الرجال والنساء ليس أصلاً في الإسلام
- تعدّد الزوجات ليس أصلاً في الإسلام
- الطلاق ليس أصلاً في الإسلام
- الحجاب ليس أصلاً في الإسلام
-المجتمع المنعزل رجاله عن نسائه ليس أصلاً في الإسلام
في عام 1983، قرّر الديكتاتور الذي يحكم السودان منذ 1969 بالحديد والنار أن يتقرّب من الاتجاه الإسلامي في السودان، وبالتحديد «الإخوان المسلمين». طبعاً كانت لجعفر النميري أسبابه التي لن نخوض فيها الآن. وفي أيلول 1983 أعلن النميري تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في السودان، وهو ما اشتهر بـ«قوانين سبتمبر». وظهر النميري بنفسه على شاشة التلفزيون وهو يكسر أوّل زجاجة خمر على الأرض وسط جماهير حاشدة تهتف له وللإسلام وللشريعة! نال النميري تأييد الإسلاميين، وخصوصاً جناح حسن الترابي من «الإخوان» الذين أثنوا عليه وهلّلوا له (علماً بأن النميري كان قبل أشهر قليلة جالساً في اجتماع سرّي مع وزير الدفاع الإسرائيلي شارون يناقش معه تفاصيل الدور الذي سيقوم به لتهجير يهود الفلاشا الإثيوبيين إلى فلسطين المحتلة عبر السودان، وقبض منه 30 مليون دولار رشوة).
ولكي يظهر النميري جدّيته وصرامته في الدين ومدى التزامه بأحكام الشريعة التي أعلنها، قرّر أن يحكم بالإعدام على محمود محمد طه بتهمة «الردّة» عن الإسلام (كان طه قد عبّر علناً عن معارضته لقوانين سبتمبر وقوانين تطبيق الشريعة التي أعلنها النميري). رتّب الديكتاتور الأمر مع جهاز القضاء، فوجّهت لطه تهمة إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة والخروج من الملّة عن طريق رفض أركان الإسلام وأحكامه الثابتة، أي «الردّة» بحسب القوانين الجديدة.
وعندما قدّم أمام المحكمة، وكان في الـ 76 من عمره، لم يضعف ولم يتراجع رغم علمه بالحكم الذي ينتظره لو تمسّك برأيه. قال بكل شجاعة في قاعة المحكمة «أنا أعلنت رأيي مراراً في قوانين سبتمبر 1983 من أنها شوّهت الشريعة، وشوّهت الإسلام، ونفّرت عنه... يضاف إلى ذلك أنها وُضِعت واستُغِلت لإرهاب الشعب وسوقه إلى الاستكانة عن طريق إذلاله... ثم إنها هدّدت وحدة البلاد». بل وأعلن عدم اعترافه بشرعية المحكمة والقضاة الذين يحاكمونه، فقال إنهم «وضعوا أنفسهم تحت سيطرة السلطة التنفيذية، تستعملهم لإضاعة الحقوق وإذلال الشعب، وتشويه الإسلام، وإهانة الفكر والمفكرين، وإذلال المعارضين السياسيين... ومن أجل ذلك، فإني غير مستعد للتعاون مع أي محكمة تنكّرت لحرمة القضاء المستقل ورضيت أن تكون أداة من أدوات إذلال الشعب وإهانة الفكر الحر والتنكيل بالمعارضين السياسيين».
بعد هذا الكلام من طه، صدر الحكم: الإعدام شنقاً حتى الموت! ونفّذ الحكم خلال أيام معدودات بعد أن صادق عليه الرئيس المؤمن المتمسّك فجأة بالشريعة جعفر النميري. ومن مهازل التاريخ أن القضاء السوداني، وبعد حوالي سنة من سقوط النميري عن الحكم، أعلن تراجعه وقرّر إلغاء حكم الإعدام الصادر بحق المفكر محمود محمد طه!
* كاتب من الأردن