تحتاج مصر إلى نظرة جديدة لسياستها الخارجية، فلسفتها وأولوياتها، تجدّد حيويّتها وقدرتها على المبادرة في أوقات عصيبة تومئ بتحوّلات عاصفة في العلاقات الدولية والإقليمية على السواء. بصيغة أخرى، فإنّ هناك حاجة ماسة إلى إعادة هيكلة السياسة الخارجية المصرية حتى لا تداهمنا التحوّلات المحتملة بأخطارها دون تحسّب، أو تفلت الفرص المتاحة وسط العواصف المنتظرة.هناك نظام عالمي جديد يوشك أن يعلن عن نفسه عقب الأزمة الأوكرانية يطوي حسابات دولية ويؤسس لأخرى، إذا لم نكن متأهبين بما يكفي لما هو مقبل فإننا قد نكون أحد ضحاياه.
وهناك تطور إقليمي جوهري يطل من العاصمة النمسوية فيينا بالتوصل المحتمل لاتفاق بشأن المشروع النووي الإيراني، إذا لم نكن مدركين بما هو ضروري أنّه يترتب عليه تحولات استراتيجية وأمنية في بنية الإقليم كله فإن الفرص المتاحة للتمركز فيه قد تتبدّد بأسرع من أي توقع.
نحن أمام اختبار حقيقي للإرادات والتحالفات والمصالح قرب انهيار نظام عالمي استنفد زمنه وقدرته على البقاء وبمواجهة انقلابات إقليمية تطل علينا مشاهدها الأولى. الأزمة الأوكرانية تكاد تضاهي من حيث الأجواء المشحونة الأزمة الكوبية عام (1962)، التي لاحت خلالها سيناريوهات حرب نووية مدمرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق. أسّست الأزمة الكوبية للحرب الباردة، التي استندت على توازن الرعب النووي وكرّست بالوقت نفسه للانقسام الحاد في النظام العالمي بين معسكرين متضادين إيديولوجياً واستراتيجياً وعسكرياً واقتصادياً.
بأي نظر على قدر من التبصّر فإنه يصعب توقع حرب باردة جديدة. هذا عالم انقضى. لا الولايات المتحدة تملك مقومات القوة العظمى على النحو الذي فرض قيادتها للتحالف الغربي أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. نموذجها الديموقراطي تحيطه تساؤلات وشكوك. أزماتها الداخلية تنذر بانفجارات عرقية محتملة. الشروخ تضرب بنية التحالف نفسه والشكوك في مستقبل حلف «الناتو» حاضرة.
جرت محاولات دؤوبة لإضفاء شيء من التماسك على الأداء الغربي العام في الأزمة الأوكرانية، لكنها لم تخف عمق التناقضات الداخلية في ترتيب المصالح والأولويات والتحالفات كما تبدّى ذلك واضحاً في أزمة الغواصات، التي اعتبرتها فرنسا «طعنة في الظهر» عندما فسخت أستراليا، بتحريض أميركي مباشر ومعلن، عقد شراء 12 غواصة فرنسية. لم تكن تلك محض خسارة تجارية بقدر ما كانت تعبيراً عن عملية تهميش متعمّدة للدور الفرنسي باستراتيجية المحيطين الهندي والهادي والمواجهة مع الصين.
بنفس النظر، فإن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي السابق بنموذجه الإيديولوجي واتساع نفوذه الدولي. هذه روسيا جديدة تحرّكها بالأساس مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية دون اعتبار كبير لأية معايير إيديولوجية أو أخلاقية في بناء سياساتها الخارجية. بتقدير عام، فإن اللاعب الروسي أقرب إلى كسب الجولة الأوكرانية بالنقاط، يلوّح بالحشد العسكري كأنه على وشك الغزو دون أن يكون قد قرّر ذلك فعلاً، ما يريده بالضبط منع «حلف الناتو» من التمركز عند محيطه الأمني الاستراتيجي. أكسبت سرعة الحركة والتصرّف والمناورة اللاعب الروسي نفساً إضافياً ومكّنته من أن يكون في وضع تفاوضي أفضل رغم أحاديث العقوبات الأميركية والأوروبية.
بصورة أو أخرى سوف تُطوى صفحة الأزمة الأوكرانية بتسوية سياسية يتأكد فيها الطلب الأمني الروسي قرب حدودها والنفوذ السياسي الغربي على أوكرانيا. في مثل هذا السيناريو المتوقّع، فإن روسيا بوسعها، إذا ما مضت خطوات أوسع وأكبر بالتحالف مع الصين بقوتها الاقتصادية والعسكرية، أن تمثّل قطباً موازياً للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، دون أن يكون القطبان بديلين للقوتين العظميين السابقتين. نحن في عصر القوى الكبرى، لا القوى العظمى. هذه حقيقة سوف تؤكد نفسها بالمدى المنظور.
من حق مصر وواجبها أن تمد الجسور مع الأطراف كافة، تحدد مواقفها وفق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية دون أوهام أنّ تحالفاً استراتيجياً يضمّها إلى الولايات المتحدة ودون افتعال مشاحنات بقصد أو من غير قصد مع روسيا أو الصين. في المراجعات الضرورية لا بد أن نجيب على سؤال: لماذا زادت الفجوات مع الصينيين والروس في أزمة السد الإثيوبي؟ أحياناً نعطي إشارة للحركة في اتجاه قبل أن نمضي في اتجاه آخر دون تحسّب لردّات فعل الحلفاء المفترضين.
وفي المراجعات الضرورية تتبدّى خشية أن تتصوّر «الدولة العبرية» بالمناورات العسكرية المشتركة مع عدد من الدول العربية أن الفرصة قد حانت للمضي قدماً في التطبيع دون أدنى اعتبار للقضية الفلسطينية. كان مأساوياً أن تحتفل السفارة الأميركية بذكرى الهولوكوست في أحد فنادق القاهرة، فيما يعاني الفلسطينيون أبشع أنواع التنكيل والتمييز العنصري، دون أن يعترض أحد، أو أن يتساءل عن موقف المحتفلين من الجرائم التي ترتكب بحق الإنسانية في فلسطين المحتلة.
لا يمكن لأية دولة أن تتطلع لدور قيادي في الإقليم دون أن تكون القضية الفلسطينية على رأس أولوياتها.
وفيما تستحق المراجعة والضبط طبيعة العلاقات مع الصين، الحليف الاستراتيجي السابق خمسينيات وستينيات القرن الماضي، إذا لم ندرك أنّ القوى الكبرى ليست مولات تجارية للبيع والشراء وتبادل المنافع العابرة، فإننا لن نستوعب أسباب واعتبارات بكين التي دعتها أثناء اجتماع مجلس الأمن إلى دعم إثيوبيا على حساب مصر رغم عدالة قضيّتها في أزمة سدّ النهضة.
إعادة هيكلة السياسة الخارجية يعني بالضبط المراجعة وتصحيح السياسات وإطلاق المبادرات وتجديد شباب المؤسسة الديبلوماسية العريقة. بصياغة أخرى، فإنها إعادة بناء للهيبة في زمن جديد ومختلف. لا يعني ذلك أن نغادر معسكراً لننضم إلى آخر. العالم الجديد لا يعرف المعسكرات المغلقة، الانفتاح على القوى الدولية المتعددة مسألة أساسية في أي نقاش أو مراجعة.
بقدر تحسين الصورة في الداخل تتأكد هيبة قضاياك في الخارج. الصورة مسألة سياسات لا دعايات، إذا ما تحسّنت أوضاع الحريات العامة وحقوق الإنسان فإنه يمكن لمصر أن تتطلع للالتحاق بالعالم الجديد من موقع قوة نسبي بلا ثغرات يمكن توظيفها بمقتضى المصالح المتعارضة.
أخطر ما يمكن أن يعترض مصر، فيما العالم يتغيّر، التحديات التي تداهم أمنها ومصالحها عند حدودها المباشرة أو في محيطها العربي بأثر إعادة بناء النظام الإقليمي إثر مباحثات فيينا.
جرت مفاوضات معلنة سعودية إيرانية في أربع جولات على الأقل بالعاصمة العراقية بغداد، توصّلت إلى تفاهمات، لكنها لم تأخذ الطريق إلى نهايته بانتظار ما قد يحدث في فيينا.
في المسافة ما بين التفاهم الممكن والتصعيد الجاري، لم تتقدّم مصر بأخذ زمام المبادرة، لا حاورت إيران في العلن الديبلوماسي كما فعلت مع تركيا لتخفيض منسوب التوتر بالحوار الصريح حول المخاوف المتبادلة، ولا أخذت خطوة حاسمة في إعادة دمج سوريا بعالمها العربي قبل قمة الجزائر، رغم أنّ أطرافاً عربية عديدة تفتح نوافذ العلاقات مع دمشق.
بأي نظر تاريخي فإن سوريا مسألة أمن قومي مصري. في غياب المبادرات بالملفات الملغمة تعطلت لغة الكلام بين اللاعبين الإقليميّين. راوحت الأزمة الليبية مكانها رغم المبادرات الدولية على الحدود الغربية. وتفاقمت الأزمة السودانية بالوقت نفسه على الحدود الجنوبية.
لا يبدو في الأفق حل لمعاناة غزة رغم فتح معبر رفح بصورة أكثر انتظاماً. الملف اليمني معطل حتى تتضح نتائج مباحثات فيينا وما يجري بعدها من توافقات وتفاهمات تحتاج باليقين دوراً مصرياً أكبر وأكثر فاعلية. الملف اللبناني يكاد أن يذهب بالبلد إلى المجهول فعلاً لا مجازاً، وبقوة الأمر الواقع معطل هو الآخر.
أين المبادرات؟ هناك تعطيل عمدي من دول يفترض أنها حليفة لأية أدوار مصرية. هذا وضع لا بد أن ينتهي. إعادة هيكلة السياسة الخارجية المصرية وتجديد شبابها وتوسيع قدرتها على إطلاق المبادرات في قضايا وأزمات الإقليم المتفاقمة كافة مسألة تكاد أن تكون وجودية.
* كاتب وصحافي مصري