تمرّ هذه الأيام الذكرى الـ64 للوحدة المصرية - السورية في 22 شباط عام 1958، كتتويج لمرحلة من مراحل المدّ القومي والتحرّري العربي الذي انطلق من خلال مواجهة العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني) على مصر في خريف عام 1956، ومن خلال الحشود والحصار الذي كان مضروباً على سوريا من الشمال والجنوب والشرق وبعض الغرب، كما من خلال الثورة التحريرية في الجزائر التي انطلقت في 1/11/1954، ومن خلال المواجهة الشعبية الواسعة لحلف بغداد المشبوه ولمشروع أيزنهاور الاستعماري.لم يكن ميلاد الجمهورية العربية المتحدة يومها مجرّد استجابة لنداء تاريخي حملته الجماهير العربية وطلائعها الوحدوية فحسب، بل كان أيضاً ردّاً حاسماً من أمّة كانت تدرك أن تجزئتها هي الهدف الأكبر لأعدائها، وأن الوحدة القومية هي الضمانة، لا لاستقلالها وسيادتها فحسب، بل للوحدة الوطنية داخل كل قطر.
وأخطر ما في الانفصال الذي تعرّضت له الوحدة بين مصر (الإقليم الجنوبي) وسوريا (الإقليم الشمالي) أنه لم يكن مجرّد فعل استعماري رجعي استغلّ انقسامات وأخطاء في دولة الوحدة فقط، ولم يكن مجرّد إجهاز على أمل من أغلى آمال العرب في العصر الحديث فحسب، بل كان أيضاً محاولة لإظهار أن التجزئة هي الحقيقة الثابتة في أمّة تطمح إلى استعادة وحدتها. بل إن الوحدة وهمٌ متبدّد، كما أن التجزئة حق دائم لكل كيان، حتى ولو لم يكن هذا الكيان يمتلك الحد الأدنى من مقوّمات السيادة الوطنية والأمن القومي والتنمية المستقلّة. وهذا ما اتضح عبر العقود الستة التي تفصلنا عن مؤامرة الانفصال المشؤوم. حيث باتت التجزئة تفتيتاً، والهوية الجامعة هويات فرعية متناحرة، والسيادة الوطنية ارتهاناً للخارج، والأمن القومي مستباحاً من جهات عدّة، وبات مطلب الحفاظ على الوحدة الوطنية لكل قطر يتقدّم على أي مطلب آخر.
لقد كان ممكناً أن يهون الأمر لو أن الفرقة والتناحر قد انحصرا بين الحكّام والحكومات وحدهم، وهم الموجودون أصلاً لحراسة التجزئة، بسبب تعارض المصالح وصراع الذاتيات، ولكنّ الانقسام استشرى داخل المجتمعات نفسها، ليشمل الحركات الشعبية أيضاً، والاتحادات النقابية، والتيارات السياسية، والهيئات الأهلية، بل ليشمل الهوية الوطنية والقومية ذاتها التي باتت، بسبب التشظّي، مجموعة من الهويات الفرعية المتناحرة والعصبيات الضيقة المتنافرة.
وإذا كان المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي قد صوّر هوان البعض وقبوله الاستعمار بمصطلح شهير هو «القابلية للاستعمار»، فنحن اليوم أمام ما يمكن تسميته بـ«القابلية للانقسام»، إذ يسعى كثيرون، أفراداً وجماعات، في البحث عن نقاط الاختلاف مع الآخر لتعميقها وتأبيدها بدلاً من اعتماد النهج الوحدوي الجامع الذي يركّز على نقاط الاتفاق وينطلق لمعالجة موضوعات الافتراق.
في مواجهة «قابلية الانقسام» التي لا تنحصر بما هي العلاقات بين تيارات الأمّة وداخل كل تيار (وبين أحزابها والجماعات وداخل كل حزب أو جماعة) يجب أن نستعيد ما أعلنه رئيس الجمهورية العربية المتحدة الزعيم الخالد الذِّكر جمال عبد الناصر، وكأنه يرسم منهجاً للسلوك الوحدوي عامّة وعلى المستويات كافة:
«لقد قامت دولة كبرى في هذا الشرق، ليست دخيلة ولا غاصبة، ليست عادية ولا مستعدية، دولة تحمي ولا تهدّد، تصون ولا تبدّد، وتقوى ولا تضعف، توحّد ولا تفرّق، تسالم ولا تفرّط، تشد أزر الصديق، تردّ كيد العدو، لا تتحزّب ولا تتعصّب، لا تنحرف ولا تنحاز، تؤكد العدل، تدعم السلام، توفّر الرخاء لها ولمن حولها، وللبشر جميعاً بقدر ما تتحمّل وتطيق...».
ولعلّنا في استعادة هذه الكلمات المفتاحية، والتمعّن في معانيها ودلالاتها بعد 64 عاماً على إعلانها من قبل الزعيم الخالد الذِّكر، هو التعبير الحقيقي عن وحدوية كل وحدوي، وعروبة كل عربي، وإيمان كل مؤمن، وتقدّمية كل تقدّمي، وإنسانية كل قومي، بل إن ترجمة هذه الكلمات إلى برامج عمل، وإلى سلوك يومي، ما يحصّن مجتمعاتنا، وينير دروبنا، ويحفّز نهوضنا.
فالوحدة هي فعل نهوض أولاً وأخيراً، والنهضة هي فعل وحدوي بالضرورة. وحينها فقط نثبت أننا، كأمّة وكجماعات، نمتلك قابلية للوحدة لا قابلية للانقسام.
* الرئيس المؤسّس للمنتدى القومي العربي