"أن نعلن ونصرخ بأننا عرب ليس مباهاة بوراثة وليس نفياً للغير. إنه شكل من أشكال محاولة نفي ما ينفينا. إنه مدّ لتجديد حضورنا في التاريخ وفي الذات معاً. لقد واجهنا الوقيعة بيننا وبين الينبوع.. بيننا وبين أسمائنا. لقد تعرضنا لمحاولة سحق" (محمود درويش، الكتابة في درجة الغليان، مجلة الآداب، العدد 7، 1974)

اليوم بعد سبع سنوات وستة وثلاثين يوماً أخرج من صفة بلا هوية أو بدون جنسية، وأكتسب بالجنسية الكندية صفة "كندي". أود أن أشارك هذا الحدث معكم عبر خطاب أوجهه إلى السيد حسين السيد جمعة (1879-1934)، أعلم أنكم لا تعرفونه، وأنا مثلكم لم أكن أعرفه، ستتعرفون إليه من خلال حديثي معه، وستحبونه كثيراً، وستتفهمون لماذا اخترت الحديث معه اليوم.
إلى السيد حسين السيد جمعة،
ربما لا أحد يعرفك غيري، لا أقول ذلك تباهياً، بل أقولها حسرة، لأنك واحد ممن صنعوا تاريخ جنسيتنا، لكنك لا أحد في ذاكرتنا وتاريخنا. ودعني أخفف عليك ثقل هذا الوصف، وأقول لك إني كذلك وجدت وصف "لا أحد" أكثر وصف يناسبني حين وجدتُني في لحظة خاطفة من غير جنسية.
عثرت عليك، لكن ليس مصادفة، فمن يفقد جنسيته يبحث عن من يخفف وحدة حالته ووحشتها، والمحنة تَمس المحنة، رحت أبحث عن من يتماس معي في هذه المحن، وجدت اسمك يتردد في عرائض البحارنة المهاجرين في القصبة والمحمرة وعبادان والبصرة، من بين وثائق الأرشيف البريطاني، وفي أحد التقارير بتاريخ 14 مارس 1934 ورد التالي:
"سيد حسين بن سيد جمعة، بحراني، رفض التخلي عن شهادته البحرينية. فقام المسؤول الفارسي مرتضى بالجلوس عليه وضربه ضرباً مبرحاً لدرجة أنه توفي في اليوم التالي متأثراً بجراحه. كما أصيب زاير مهدي وسيد أحمد بن سيد ماجد بجروح خطيرة وكذلك الملا عبود بن ملا حسين من قرية بوري (البحرين). في النهاية، أخذ الفرس من البحارنة معظم أوراقهم البحرينية"*.
جاء والد الشاه محمد رضا بهلوي للحكم في 1925 بروح قومية متعصبة، منع الحجاب وضمّ كل الأقاليم التي كانت تتمتع بالاستقلال أو بحكم ذاتي مثل عربستان حيث كان يهاجر البحارنة.
أراد الشاه ضمّ البحرين، ووجد في البحارنة المهاجرين للمحمرة والقصبة وعبّادان ذريعة للضم، فصادر أوراقهم الثبوتية وضيّق عليهم ليمنحهم جنسيات إيرانية. لاحقهم في أملاكهم وحياتهم وهوياتهم، قاوموا ورفعوا العرائض وبعضهم هرب للبصرة ففقدوا أملاكهم. كانوا فوق 12 ألف بحراني أو يزيدون حسب ما تقول الوثائق البريطانية.

أيها السيد الشهيد،
في إحدى العرائض المرفوعة بعد مقتلك بثلاثة أشهر، اشتكى البحارنة من سلب أوراق جنسيتهم والهجوم على بيوتهم وسجنهم وضربهم "والشاهد قتل السيد حسين ابن السيد جمعة المتولد في البحرين".
صرتَ "شاهداً" بولادتك بالبحرين ورفضك الانصياع، وتمسكك بجنسيتك حتى الاستشهاد. صرت "شاهداً" على محنة جماعتك من المواطنين الذين اضطروا للهجرة بسبب المحن السياسية الواقعة على جزيرتهم وعليهم. لقد دافعت عن جنسيتك البحرانية، قدمت دمك على مذبح تثبيتها، كنت واحداً من آبائها المؤسسين، وبدمك كُتب قانون الجنسية في العام 1937، وبدمكم حفظ للبحرين استقلالها وهويتها.

أيها السيد الشاهد،
أخاطبك اليوم، لأني أريد أن أتأكد أني لم أخن جنسيتي ولم أفعل ما يسيء لها. لم أجد أكثر من دمك الشاهد أحتكمُ إليه. أنا مصاب في وجودي مثلك، لا أشعر أن تسوية وضعي القانوني تعالج وضعي الوجودي، بكل ما فيه من مشاعر وأحاسيس وانتماء واطمئنان ودفء وألفة. أشعر بامتنان لبلد منحني صفة تحفظ كرامتي وحرية حركتي، لكني لا أستطيع أن أنتمي إليه، ليس لنقص فيه، ولا لعيب في عقده الاجتماعي، بل لأني كائن "ميت قانوني" أي كائن ما فوق القانون وما بعد القانون، كائن تتحدد هويته بأشياء أكثر من القانون، فأنا أنتمي لبحر ونخل وأرض وذاكرة وأكل ورائحة وقبور ومخطوطات وجدات وسلامة سلوم وصباح عبد الحسين وعشرات الأشياء الصغيرة التي تضج في قلبي ومخيلتي وتستفز أدمعي.

أيها السيد البحراني
كان المطلوب منك أن تستجيب لرجال الشاه البهلوي، تكون شاهداً له لا عليه، لكنك أبيت إلا أن تكون شاهداً لبحرانيتك، وهذا ما أريد أن أطمئن منك عليه، هل ما أنا عليه اليوم بالجنسية الكندية: شاهد لبحرانيتي أم شاهد عليها؟
تمّ الحكم عليَّ بالإعدام المعنوي بإسقاط جنسيتي، وتم الحكم عليك بالإعدام الحقيقي بالضرب والتعذيب حتى الموت، الحكمان وجهان لعملة واحدة، يبقى الإعدام شاهداً في الحُكمين على محنة جماعية وعذابات تاريخية.

في المحن الكبرى، تكون الحياة على المحك، لا خيار أمامك إلا الموت، يموت شيء منك أو فيك، تُعدم الحياة فيك، لكنك تمنحها للآخرين، وهذا ما فعلته أنت، فكان حقاً علينا أن نتذكرك، ويكفيني في هذا اليوم أن تكون جنسيتي الكندية التي سأظل أعرّفها دوماً بأنها: إعدام الدكتاتورية لجنسيتي البحرينية، يكفيني أن تكون هي السبب في عثوري عليك "وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ".

لولا فقدي لجنسيتي ما رحت أنقّب في التاريخ بحثاً عن أمثالك، أنا سعيد أن يتحقق هذا الفعل "أعثرنا على السيد حسين السيد جمعة" بهذا الفعل "أسقطنا جنسيتك يا علي الديري". هكذا يكون مس المحنة بالمحنة، وهذا يطمئنني أني لم أخن تلك الجنسية التي كتبْتَ قانونها بدمك.

أيها السيد
مازال أحفاد الذين عاشوا محنتك يتخطفهم الخوف، لكن هذه المرة من وطنهم نفسه، والجنسية التي استماتوا في التمسك بها، بعضهم حُرم منها، وبعضهم أسقطت منه، وبعضهم يُنتقص منه استحقاقها، كما هو الأمر مع البحارنة الأقحاح الذين عادوا للبحرين من هجرتهم إلى المحمرة. أعاهدك أن يكون كتابي القادم حكايتك وحكاية الجماعة التي تخطّفَتْها الهجرة تلو الهجرة.

* معاملة البحرينيين في بلاد فارس، المكتبة البريطانية IOR/R/15/2/486
رسالة مؤرخة في 14 مارس 1934

* كاتب بحريني