«مع خالص احترامي، فإنّ هذا ليس مكاناً مثل العراق وأفغانستان اللذين عرفا عقوداً من الحروب. إنها مدينة متحضّرة نسبياً، أوروبية نسبياً. حيث لا ننتظر وقوع أمر مماثل»(مراسل قناة CBC NEWS أثناء تغطيته للحرب في أوكرانيا)

ليست العنصرية مجرّد شعور زائف بتميّزِ وتفوّقِ عرق على عرق آخر أو جماعة على جماعة أخرى. ليست العنصرية مجرّد تعصّب وموقف نفسي يعتقد به البعض و«ينفيه العلم ويشجبه الأدب و(يُعتَبرُ) خطراً اجتماعياً» كما جاء في ميثاق الأمم المتحدة. العنصرية أداة مهمّة من أدوات النظام الرأسمالي التي استخدمها منذ بداية ظهوره لتشكيل التراكم الأوّلي، وما زال يستخدمها حتى اليوم، ولا يستطيع الاستمرار دون استخدامها. هذه الأداة الضرورية أساسية لبقاء الرأسمالية ولاستمرار عمل هذا النظام. فهي أداة لمكافحة ميل معدّل الربح نحو الانخفاض عبر التمييز في الأجور والمداخيل بين العمالة البيضاء العالية الدخل والعمالة الملوّنة والسوداء الرخيصة، وبالتالي هي أداة لتشكيل وتراكم فائض القيمة. كما أنها من أهم أدوات الرأسمالية لتقسيم الطبقة العاملة وعزل كل جزء عن الآخر. في هذه المادة، سنحاول الغوص في ما وراء العِرق واللون والمعتقد لندرك حقيقة العلاقات الاقتصادية التي تقف خلف العنصرية، ولنصل إلى حقيقة أن اتخاذ موقف مضاد للعنصرية يعني بالضرورة الوقوف ضد الرأسمالية الغربية (الأوروبية والأميركية الشمالية). فالرأسمالية الاحتكارية اليوم لا تجد سلاحاً لمقاومة قوى التاريخ (تاريخ زوالها)، ولبقاء استمرارها، أفضل من سلاح العنصرية وسلاح تذكية الحروب.

العنصرية أداة الرأسمالية لتحقيق التراكم الأولي
إن جذور التمييز والاضطهاد العنصريين ترجع إلى حاجة المستعمرين الأوروبيين، منذ القرن السادس عشر، إلى تبرير ما يقومون به من سلبٍ واستغلال مستمرّين لضحاياهم الملوّنين في كل أنحاء الكرة الأرضية، كما يوضّح نايف سلّوم. هذا السلب والنهب والاستعباد كان له الدور الحاسم، لاحقاً، في تشكيل التراكم الأوّلي للنظام الرأسمالي. فاقتلاع السكان الأصليين من مواطنهم واستعبادهم ودفنهم أحياء في المناجم في أميركا، وغزو الهند الشرقية ونهبها، وتحويل أفريقيا إلى ساحة محميّة لصيد ذوي البشرة السوداء، كان كله يمثل فجر عهد الإنتاج الرأسمالي، وفق كارل ماركس (رأس المال). كانت العنصرية في ذلك الوقت محاولات تبرير لوحشية استغلال المستعمِر للمستعمَرين، عن طريق نشر خرافات تفوّق الرجل الأبيض وتكريسها، من أجل تحقيق الدفعة الأولى لانطلاق نمط الإنتاج الرأسمالي. وفي ما بعد تم توارث أداة تشكيل فائض القيمة (العنصرية) مع مرور الأجيال واختلاف الحقب التاريخية. فلقد باتت اليوم أداة مطواعة وضرورية لقوى وأنظمة اجتماعية تمثّل مجموعات هائلة من أصحاب المصالح الخاصة التي، وفق سلّوم، تستفيد، بطريقة مباشرة وسافرة، من استمرار وجود قطاع معزول من الطبقة العاملة.

العنصرية أداة الرأسمالية لتراكم فائض القيمة ولتجزئة الطبقة العاملة
كما يوضح سمير أمين (التراكم على الصعيد العالمي)، تتلقّى الطبقة العاملة في دول المراكز لقاء عمل ذي إنتاجية مساوية لعمل الطبقة العاملة في الأطراف تعويضاً وسطياً أرفع. أي ببسيط العبارة: يكون أجر العمّال في دول المراكز المتقدّمة أكبر من أجر العمّال في دول الأطراف المتخلّفة مع أنهما ذوا إنتاجية متساوية. ولأن رأس المال يعاني من مرض ميل معدّل الربح نحو الانخفاض، يقوم رأس المال في دول المراكز باستيراد يد عاملة منشأها الأطراف لمكافحة هذا الميل (في زمننا الحالي يُجبِرُ رأس المال في دول المراكز اليد العاملة في دول الأطراف على الهجرة قسراً نحو دول المراكز الآمنة من خلال تذكية الحروب في دول الأطراف)، فيستقبل رأس المال اليد العاملة المهاجرة واللاجئة في بلاده ليدفع لها أجراً أقل وليحقق من خلالها فائض قيمة مطلق أعلى، ويخصّها بأشق المهام ليحقق من خلالها فائض قيمة نسبي أعلى، ويستعملها، فضلاً عن ذلك، لكي يضغط على سوق العمل في المركز.
والضغط يكون من خلال استخدام اليد العاملة المهاجرة أو اللاجئة لزيادة عرض اليد العاملة أمام طلب الشركات في سوق العمل بغية تخفيض الأجور بشكل عام. فتتمظهر هذه العملية اجتماعياً وكأن اليد العاملة المهاجرة أو اللاجئة (المستوردة) هي السبب في تخفيض الأجور. فينشأ الحقد بين اليد العاملة المحلية واليد العاملة المهاجرة واللاجئة، فيدعم رأس المال هذا الحقد ويربطه بالميول العنصرية في المجتمع وينمّيها بين العمّال ويستخدمها كأداة لمصالحه الخاصة. هنا تنقسم الطبقة العاملة إلى عمّال بيض وعمّال ملونين وعمّال سود. وهنا يكون رأس المال قد ضرب عصفورين بحجر واحد؛ فقد كافح ميل معدّل الربح نحو الانخفاض من خلال زيادة فائض القيمة المنهوب من اليد العاملة المهاجرة، وفي الوقت ذاته يكون قد قسّم الطبقة العاملة إلى جماعات متناحرة على أساس العرق والدين واللون... إلخ. وهنا، لن يستطيع العامل الأبيض أن يطالب بحقوقه لأن بديله الملوّن متوفّر في السوق وبسعر أرخص، ولن يستطيع العامل الملوّن أن يطالب بحقوقه لأنه إذا ما تساوى أجره بأجر العامل الأبيض المحلّي سيفقد خاصيّته المميّزة التي يتم على أساسها شراء قوّة عمله، ألا وهي العمل بأجر أقل. ولن يتوحّد العمّال في طبقة واحدة بسبب التزاحم على العمل.
ولا بد لنا ها هنا، لفهم هذا الانقسام في الطبقة العاملة العالمية، من ربط الإمبريالية، أي الرأسمالية الاحتكارية، بالانتهازية في طبقة العمّال وأحزابها في البلدان الرأسمالية الغنيّة، وما يعنيه هذا من انقسام في الطبقة العاملة العالمية. نستشهد بقول لينين في كتابه «الإمبريالية»: إن الأرباح الفاحشة التي يبتزّها رأسماليّو فرع من فروع صناعية عديدة، أو بلد من بلدان كثيرة... تمكّنهم اقتصادياً من رشوة فئات معينة من العمّال وبصورة مؤقته أقلية من العمّال كثيرة إلى حد ما، ومن جذبهم إلى جانب بورجوازية فرع صناعي معيّن أو أمّة معيّنة ضد جميع الآخرين. واشتداد التناحر بين الأمم (...) من أجل تقسيم العالم يشدّد هذا الميل.

إنسانية الرأسمالية: الإنسان في المراكز والأشباه في الأطراف والغرباء في أطراف الأطراف
ما يلفت الانتباه في كلام مراسل «CBC NEWS» ومراسلين آخرين أثناء تغطيتهم للأحداث هو أنهم لم يعترفوا بالأوكرانيين كأوروبيين! هم ليسوا مثلهم. فالأوروبيون هم «الإنسان الخالص» والأوكرانيون ليسوا «الإنسان الخالص»، كما أنهم ليسوا مثلنا نحن «الغرباء» في سوريا ولبنان والعراق واليمن وأفغانستان وإيران وشرق آسيا... إلخ. فالأوكرانيون بالنسبة إليهم «كائنات شبيهة» بالإنسان الخالص (الأوروبي)، يشبهونه بعيونهم الزرقاء وشعرهم الأشقر! لكم هو مفاجئ ذلك! يا لتفاهة هذه الحضارة!
خلف هذا الكلام السخيف علاقة اقتصادية بات من السهل شرحها بعد كل ما قيل: تتجزّأ الطبقة العاملة اليوم في أوروبا وأميركا الشمالية إلى:
1- فئة من الطبقة العاملة تقدّم فائض قيمة لرأس المال في المراكز (العمّال البيض).
2- فئة من الطبقة العاملة المهاجرة من الأطراف، تعمل بأجر أقل وتحقق فائض قيمة أعلى من الطبقة العاملة المحلية (أشباه العمّال البيض).
3- فئة من الطبقة العاملة المهاجرة من أطراف الأطراف وهي الأدنى من حيث الأجر والأعلى من حيث تحقيق فائض القيمة لرأسمال المراكز (الغرباء).
وعلى هذا الأساس يكون رأس المال قد جزّأ الطبقة العاملة أكثر، وفتح لنفسه مجالاً أوسع للتحكم بالمعروض من اليد العاملة في سوق العمل. أي أنه قادرٌ على التحكم في هذه السوق كما يحلو له، كما أنه قادر على تحديد الأجور على هواه.

خاتمة
ما نراه اليوم ليس عنصرية أفراد أو مجموعات معيّنة محدودة. كما أن العنصرية ليست من الآثار الجانبية لعملية الإنتاج الرأسمالية التي يمكن إهمالها، بل العنصرية هي الرأسمالية الغربية ذاتها (الأوروبية والأميركية الشمالية). وإن كُنتَ تقف ضد العنصرية موقفاً حقاً، فعليك أن تقف ضد الرأسمالية الغربية. وإذا ما دار سؤال في البال عن سبب تخصيصي للرأسمالية الغربية (الأوروبية والأميركية الشمالية) فقط دون سواها في متن المقال، فلأن هذه الأدوات (العنصرية وتذكية الحروب) لم تٌستخدَم في الرأسمالية الاحتكارية الآسيوية (اليابانية) حتى اليوم. العنصرية هي الرأسمالية الاحتكارية الغربية.

* كاتب سوري مقيم في ووهان الصينية