كمال ديب* فيصل الترك**نستعرض في هذه المقالة فشل سياسة لبنان الرسمية تجاه سوريا، أي سياسة «النأي بالنفس» ونأتي على دور حزب الله وفريق 14 آذار في حرب سوريا.
أولاً، ليس صحيحاً ما قاله الرئيس نجيب ميقاتي إنّ «الحكومة استطاعت من خلال سياسة النأي بالنفس أن تحيّد انعكاسات ما يجري في سوريا عن لبنان». فهو محق إذا كان يقصد أنّ لبنان الرسمي لم يحرّض ضد سوريا كما فعلت تركيا، ولم يساعد بشكل مفضوح الجماعات المسلحة كما فعل كل من الأردن وتركيا، وحافظ الاعلام الرسمي وكل ما صدر عن الحكومة اللبنانية ووزرائها على حدّ أدنى من السلوك الدبلوماسي. ولكن أعمال الدولة اللبنانية نفسها هي التي أوصلتها إلى الفشل في سياستها السورية.

فلبنان الرسمي لم يلتزم بواجباته تجاه سوريا بأن يكون حياد لبنان إيجابياً يحفظ العلاقات الأخوية ويسعى إلى حوار بين سورية والمعارضة، وليس نأياً مؤذياً.
ثانياً، يُشهد للرئيس ميشال سليمان أنّه طالب بالتزام الجميع إعلان بعبدا الذي توسّع في شرح سياسة النأي. ولكنّه قبل عامين قاطع الدولة السورية رغم أنّه كان أرفع مسؤول لبناني قادر على التواصل مع أعلى سلطة هناك. ثم تقرّب من السعودية، ما حُسب ابتعاداً إضافياً عن سوريا، ومارس انتقائية في بياناته لتوصيف ما جرى على الحدود بين البلدين. ويقع عليه لوم في أزمة اللاجئين التي ابتُلي بها لبنان لأنّ مصلحة لبنان العليا اقتضت أن يبقى الاتصال الهاتفي اليومي بين الرئيسين مفتوحاً للتعاون والتشاور على توفير حلول لمشاكل أصابت ملايين الناس. إنّها حقاً لمهزلة كيف عمد لبنان إلى مقاطعة سورية بتسرّع غير مدروس.
ثالثاً، لم تمنع الدولة الأطراف اللبنانية من التدخّل في حرب سوريا. فمن دخول عشرات الألوف من المسلحين، ومن تغطية رسمية لبواخر وشاحنات المعدات والأسلحة وتخفيف حواجز الجيش - رغماً عن قيادته - واستباحة عكار ووادي خالد وطرابلس، وحتى عندما ظهرت بذور إمارة قاعدية في الشمال وتصدّر المشهد الطرابلسي «قادة المحاور» وحلّت الكارثة، بقيت الدولة غائبة فيما بعض أجهزتها ورموزها يشارك في ما يحصل.
رابعاً، أدى الفلتان على الجانب اللبناني بسبب عدم تطبيق النأي بالنفس على الأرض إلى سيطرة الجماعات التكفيرية على المناطق المتاخمة لحدود لبنان في 2012 وباتت تشكّل خطراً داهماً على لبنان.
خامساً، صبّت فضائيات لبنانية معروفة الزيت على النار علناً كمشارك أساسي في الحرب الإعلامية على سوريا وتعاملت مع سكان بعلبك والهرمل وكأنّهم أعداء لها وأبرزت حملة السواطير داخل سوريا كأبطال وأجرت مقابلات مع تكفيريين لبنانيين.
8 آذار و14 آذار
بدل الالتزام بالنأي، كان تدخّل جماعة 14 آذار في سوريا مكتمل الجوقة منذ بدء الأزمة. ذلك أنّ هذا الفريق لا يخفي عداءه لسوريا منذ ولادته في آذار 2005 ولا حرج لديه مطلقاً، بل يعود عداء بعض رموزه لسوريا إلى عقود لأنّ سوريا سعت تاريخياً إلى ضم لبنان. كذلك أنّ بعض من كان حليفاً لسوريا قبل 2005 أخذ يتمنّى منذ سنوات أن تنفجر سوريا من الداخل أو أنّ «دورها جايي» بالغزو الأميركي كما حصل للعراق. كما أعلن فريق 14 آذار العداء لحزب الله، لأنّ نهايته كما حسب باتت قريبة، وكان الشعور نفسه في حرب تموز 2006. ورفع هذا الفريق وتيرة تهديده للحزب بحملة يومية تناغمت مع الإعلام السعودي والخليجي استعملت مفردات مذهبية تنتمي إلى العصر الحجري. ذلك أنّ الفتنة كانت مطلباً لشدّ العصبية المذهبية وخلق أرضية عدائية («نموذج الأسير» في صيدا وطرابلس).
ولم يغب نواب وفعاليات فريق 14 آذار عن الهواء وعلى مدار الساعة. وكانت شخصياته المحرّك الاساسي في تمويل وتحريض وتضليل وتسليح الشباب وارسال مجموعات جهادية في سوريا، وفي إدارة لعبة طرابلس خلف فزاعات «قادة المحاور».
وندّعي هنا أنّه لولا تدخّل فريق 14 آذار الواضح والمتعدّد الوجوه في حرب سوريا ومنذ البداية، لما سارت الأمور كما حصل (وفود أكثر من مليون لاجئ، دخول لبنان السيارات المفخخة، تعطيل الدولة، تخريب طرابلس، 7.5 مليار دولار خسائر اقتصادية سنوياً، دخول حزب الله بقوة في الحرب السورية، إلخ). ذلك أنّه ومقارنة بفريق 14 آذار الذي كان سبّاقاً ومنسجماً كأسنان المشط تجاه سوريا، فإنّ جماعة 8 آذار التزمت بموقف خفر في 2011 ثم توقفت عند حدود استيعاب ما يجري وفضح ما تفعله الجماعات المسلحة هناك إعلامياً.
أمّا موقف حزب الله فقد تدحرج من التوهّل من «دعم نظام ينهار أمام ثورة شعبية»، إلى استيعاب ما يجري وخصوصاً ضلوع الخارج العربي والغربي والاسرائيلي في تدمير سوريا ثم مضت أشهر طويلة قبل أن يدخل الميدان. يعني أنّ الفرصة كانت متاحة لمدّة عام لـ14 آذار لمدّ اليد للتعاون مع حزب الله والعمل معاً للنأي بلبنان وتطبيق إعلان بعبدا. ولكن 14 آذار عمل على إغلاق الأفق على الحزب داخل لبنان في كل المناطق على أساس أن نهايته قريبة. ثم أخذت الجوقة تعزف لحن إعلان بعبدا على الحزب فقط.
دخول حزب الله
بعد عام من الحرب في سوريا وقد انتشرت الفوضى على الحدود بسبب تخلّي الدولة اللبنانية عن دورها (كما حدث في جنوب لبنان منذ 1968)، طرقت الجماعات المسلّحة مناطق المقاومة في البقاع وجنوب لبنان وباتت سيطرتها على المناطق المحاذية للبنان تمهّد لتحويله ساحة «جهادية». فوسّعت أعمالها الاستفزازية وفتحت معركة تطهير مذهبي وأرسلت سيارات مفخخة إلى مناطق الكثافة الشيعية في لبنان وقامت بعمليات خطف استهدفت لبنانيين شيعة. ولم يكن عمل هؤلاء اعتباطياً بل جاء ضمن خطة ممنهجة لحصار الحزب والقيام بأعمال تجسسية على معسكراته وطرق امداداته، وفق برنامج ميداني يرصد مواقع المقاومة ومعسكراتها والطرق التي تستخدمها. فلو كانت المسألة فيلماً سينمائياً لسأل المشاهدون الحزب: ماذا تنتظرون؟
ولضيق المجال، لا داعي لذكر العمليات العسكرية التي خاضها حزب الله إلى جانب الجيش السوري وانصاره، والتي أوقعت الهزيمة بالمسلحين على امتداد حدود لبنان. فغيّرت مجرى الأمور وأزالت ظاهرة المسلحين من الجانب السوري بعد قطع الامدادات عنهم وهروبهم وقتل عدد كبير منهم، وثانياً بتحقيق الأمن على الحدود اللبنانية وسقوط إمارة طرابلس.
انعكاسات على الداخل اللبناني
تخلّت الدولة اللبنانية عن جنوب لبنان منذ عام 1968 فانتظر الأمر صعود مقاومة لبنانية تتصدى للعدوان. وتخلّت الدولة اللبنانية مرّة ثانية عن مناطق في البقاع والشمال، فكانت المقاومة جاهزة للتصدي للعدوان هناك أيضاً. ومدلولات ما حدث منذ عام إلى اليوم بعيدة جداً بالنسبة للبنان:
ـ فشلت سياسة النأي بالنفس.
ـ خاض فريقان لبنانيان حرباً في سوريا ففاز فريق هو حزب الله.
ـ صمت فريق 14 آذار أخيراً حول دور حزب الله في سورية، وانخرط في حكومة وحدة وطنية برئاسة تمام سلام.
ـ خرج الرئيس ميشال سليمان من قصر بعبدا وفشل البرلمان في انتخاب رئيس جديد.
ـ حصلت انتخابات رئاسية في سورية فاز بها الرئيس بشار الأسد. ثم سمّى الأسد العماد ميشال عون كمرشحه المفضّل لرئاسة الجمهورية، ما ذكّر بتسمية الرئيس حافظ الأسد للعماد إميل لحود عام 1998.
ـ هدأ الوضع اللبناني لجهة السيارات المتفجرة والحرب الإعلامية الموتورة.
وتبقى نقطتان مهمتان: أولاً أنّ حزب الله عاجز عن توظيف انجازاته الاقليمية داخلياً لأنّ امتداده في لبنان مذهبي وليس علمانياً في ساحة موزّعة طائفياً أصلاً كقالب الحلوى. لقد جلب الأمن والاستقرار لحدود لبنان الجنوبية والشرقية والشمالية ولكن ليس له سوى أن يقدّم هذه الانجازات للدولة اللبنانية والجيش اللبناني. وثانياً، ليس معلوماً أنّ ما حققه في سوريا هو انتصار فعلاً أم جولة. ذلك أنّ الأطراف الداخلية في لبنان والقوى الاقليمية والدولية تتحضّر لمرحلة جديدة من حرب سوريا.
* أستاذ جامعي ــ كندا
* * صحافي ــ برلين