المجريات الحاصلة في الحرب الأوكرانية لا تسير خارج المحدّدات العامة للتدخّلات العسكرية المماثلة. فالحرب هنا، مثلها مثل كلّ الحروب، التي تقع داخل الفضاء الجيوسياسي للدول العظمى، تتحدَّد بالأهداف التي تضعها الدولة الكبرى التي تقوم بفعل الحرب أو التدخّل العسكري، والتي غالباً ما تكون أوضح من الأفق الذي يُوضع للحرب من جانب «معسكر» هذه الدولة، أو حتى من المعسكر المقابل. ثمّة مسارات، بهذا المعنى، لا تتحرّك وفقاً لتوقّعات «المعسكرين»، وتبدو أكثر ثباتاً من النقاش المحموم الجاري حالياً لمعرفة من سيصرخ أوّلاً: روسيا، بسبب وطأة نظام العقوبات غير المسبوق والاصطفاف الغربي المُطلق لعزلها عن العالم، أو أوكرانيا، بتأثير الحصار المُطبِق الذي تفرضه آلة الحرب الروسية حول مدنها الكبرى وعلى رأسها العاصمة كييف. المسارات هنا تبدأ بالأهداف الموضوعة للتدخّل الروسي، ثمّ بأدوات تحقيقها، ولا تلبث، كما في كلّ حرب من هذا النوع، أن تصطدم بالتدخّلات المقابلة، من جانب المعسكر الآخر، إمّا على شكل مواجهة بالواسطة لتعذّر حصولها مباشرة، أو عن طريق حرب اقتصادية كما يحصل حالياً. وبالتالي، يبدأ عامل الوقت بالتحرّك، ليس بالضرورة لمصلحة الغرب، ومعه أوكرانيا، ولكن بما يجعل الجدول الزمني الموضوع «لتحقيق الأهداف» مفتوحاً، أو لنقل معلّقاً. وهو ما يفتح الباب، مع تعذّر تحقيق الأهداف بالعمل العسكري وحده، للأداة السياسية المتمثّلة في التفاوض.
المسار الميداني
المنظور الذي وضعته روسيا للتدخّل العسكري تجنَّب، منذ البداية، عامل المواجهة المباشرة، فاقتصر الاستهداف بدايةً، وعبر الصواريخ «الموجّهة» و«الدقيقة»، على البنى التحتية العسكرية، من مطارات وأنظمة دفاع جوي ومقارّ قيادة وسيطرة وقواعد عسكرية... إلخ. ثمّ، مع تقدّم القوّات لحصار المدن، توسّع إطار النار ليشمل الآليات العسكرية التي تستخدمها القوات الأوكرانية ومعها المجموعات القومية الموجودة بكثافة داخل المدن لحمايتها. غَلَبة استخدام سلاح الصواريخ لدى الطرفين، ولكن لدى الروس بشكل أساسي، جعلها تبدو كحرب صواريخ بالمقام الأوّل، على الرغم من كثافة حضور قوّات المدفعية الروسية التي تحاصِر المدن، ولكن ليس بفاعلية قتالية توازي القوّة الصاروخيّة المستخدمة بكثافة وعلى نطاق واسع. المُلاحَظ أيضاً غياب الاستخدام المتواتر لسلاح الطيران (ما عدا المسيّرات والطيران التكتيكي)، على اعتبار أنّ الضربات الصاروخية الأولى قد تكفّلت، ليس فقط بشلّ نظام الدفاع الجوي الأوكراني، بل أيضاً بإخراج كامل سلاح الطيران الأوكراني من الخدمة. وهو ما يجعل نطاق التدمير أقلّ، نسبياً، كون سلاح الطيران لا يتمتع بدقّة التصويب الصاروخي، ولكن ليس من دون دمار كبير في البنية التحتية، وأيضاً في الأرواح، على اعتبار أنّها حرب تجري في ظلّ وجود مدنيين محاصرين، حتى مع الخروج المليوني للاجئين باتجاه دول البلطيق في الطريق إلى أوروبا، وباتجاه روسيا بدرجة أقلّ بكثير.

تكتيك الهجوم البرّي «المحدود»
الغطاء، الذي أمّنته قوات المدفعية المتقدّمة لحصار المدن في الجنوب الشرقي والوسط، أتاح لـ«قوّات المشاة» حرّية الحركة باتجاه المناطق في حوض الدونباس الخاضعة لسيطرة قوات كييف ومعها القوميون الأوكران. المعارك البرّية حصلت هنا فقط، وكذلك أمر التقدّم الميداني للمشاة، حيث لم تشهد أيّ منطقة خارج حوض الدونباس أيّ اشتباكات بالسلاحَين الخفيف والمتوسّط. وهو ما يفسّر أيضاً، ليس فقط انحصار التقدّم الروسي في هذه المناطق، بل أيضاً سرعة سقوط المدن الصغيرة والقرى التي تقع في الدونباس، على اعتبار أنّ من يقاتل هنا، ليس قوّات المشاة في الجيش الروسي، بل قوّات مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك التي تعرف هذه الجغرافيا جيداً، بحكم تحدّرها منها أوّلاً، والخبرة التي اكتسبتها ثانياً خلال حرب السنوات الثماني مع القوّات الأوكرانية والقوميين المتطرفين. انحصار التقدّم هنا يجعل من خريطة السيطرة الكاملة مقتصرة على حوض الدونباس، وخصوصاً أنّ التقدّم لحصار المدن في الوسط والشمال والجنوب يفتقر إلى وجود قوّات تقوم بمهامّ السيطرة الميدانية، كما تفعل وحدات دونيتسك ولوغانسك القتالية. وهذا لا يعبّر عن افتقاد الرغبة في احتلال المدن بقدر ما يشير إلى تكتيك عسكري، الغاية منه استعادة السيطرة الكاملة على حوض الدونباس وحده، بما في ذلك مدينة ماريوبول الاستراتيجية والمحاصرة على بحر آزوف، بحيث يكون الإطباق على الدونباس بالكامل، مع الاكتفاء بالتضييق على المدن الكبرى، وخصوصاً العاصمة كييف، بمثابة ورقة لجلب الحكم في كييف إلى مائدة التفاوض وهو في حالة، ليس فقط ضعف مع خسارة حوض الدونباس بأكمله، بل أيضاً استعداد للتنازل عنه لقاءَ فكّ الحصار عن كييف وأوديسا وخاركوف وباقي المدن الكبرى المحاصَرة. وهو ما يُعمَل عليه حالياً في المسار التفاوضي الذي ربطت موسكو منذ البداية تدخّلها العسكري به.
الحصيلة التفاوضية حتى الآن لا توحي بقرب تحقيق موسكو أهدافها، لأنّ العقوبات ليست الأداة الوحيدة المُستخدمة ضدّها


عقبة العقوبات
الربط بين الأمرين أخذ بالحسبان منذ البداية جنوح الغرب إلى سلاح العقوبات، وهو ما أبقى على المنظور قائماً ولكن من دون قوّة الدفع التي كان ممكناً تحقيقها لو لم يُستَخدم نظام العقوبات على هذا النطاق الواسع. انشغال روسيا بتفادي آثار العقوبات على المستوى الداخلي وَضَع تصوُّرها للحرب تحت ضغط كبير، بحيث أصبح ليس فقط حصار المدن بهدف جرّ كييف ضعيفةً إلى التفاوض مكلفاً، بل أيضاً خطّتها الأساسية لـ«تحرير» كامل حوض الدونباس عبر تأمين الغطاء لتقدّم قوات مقاطعتَي دونيتسك ولوغانتسك. التهاوي السريع لمدن الحوض الخاضعة لسيطرة قوات كييف والقوميين الأوكران لم يعد، بهذا المعنى، سهلاً فحسب، بل أيضاً بدون ثمن تدفعه الجبهة الداخلية يومياً من حياتها ومستوى معيشتها الذي أصبح ارتباطه بالميدان مضاعفاً بعد العقوبات. الغرب هنا وضع روسيا أمام معادلة رمزية يصعب تفاديها؛ فكلُّ تقدّمٍ في الميدان، وخصوصاً على جبهة الجنوب الشرقي، لمسافة متر واحد، سيُقابَل بحزمة عقوبات تعيد البلاد اقتصادياً سنواتٍ إلى الوراء، لجهة القدرة، لا على النفاذ إلى أسواق المال الدولية فقط، بل كذلك لناحية استحالة إتمام المعاملات المالية اليومية للمواطنين الروس. إجراءات التحوّط التي اتخذتها الحكومة الروسية كانت كبيرة، وخصوصاً لناحية إيجاد نظام بديل للمدفوعات والحفاظ على مدّخرات المودعين الروس عبر رفع أسعار الفائدة إلى 20 في المئة، وسواها من الخطوات الاقتصادية، ولكن الجهد المبذول هنا كان على حساب الميدان نسبياً. وهو ما قلّل من احتمال أن يكون موقف كييف في المفاوضات بالضعف الذي كان متوقعاً إبّان بداية التدخّل العسكري، أي حين لم يكن سلاح العقوبات قد استُخدم بعد على هذا النطاق الواسع.

مسار التفاوض
المسار التفاوضي، الذي بُوشر العمل به منذ أسبوعين أو أكثر، هو حصيلة «التعادل» بين مسارَي الميدان والعقوبات، بل حصيلة الرجحان النسبي لكفّة روسيا، على اعتبار أنّ الإلحاح على التفاوض إنما يأتي من جانب كييف. وهو ما يعني أنّ العقوبات لم تأت أُكُلها تماماً، حتى وهي تُستخدم من جانب الرئيس الأوكراني كمنصّة إضافية للتصعيد ضدّ روسيا، إلى جانب المنصّات الأخرى الخاصّة بحلفائه الغربيين. على أنّ الحصيلة التفاوضية حتى الآن لا توحي بقرب تحقيق موسكو لأهدافها، لأنّ العقوبات ليست الأداة الوحيدة المُستخدمة ضدّها من جانب الغرب وأوكرانيا، بل ثمّة بالإضافة إليها ملفّ التسليح، الذي لا يجري تسريعه لاستنزافها ميدانياً فحسب، بل لتعقيد مهمّتها في توظيف ما حقّقته حتى الآن، ميدانياً، لمصلحة الحلّ السياسي الذي يناسبها في المسألة الأوكرانية. وما يناسبها هناك، بعيداً عن المبالغة الخاصّة باجتثاث النازية من أوكرانيا أو نزع سلاحها بالكامل، هو ما تطرحه على الوفد الأوكراني المفاوض، لجهة التزام كييف بالحياد السياسي بينها وبين الغرب، أي لناحية التعهّد بالتخلي عن هدف الانضمام إلى «الناتو». وهو ما يجعلها ليس فقط بمثابة منطقة عازلة أو محايدة، بل أيضاً يضع سلاحها، حتى من دون نزعه نهائياً، في إطار مماثل، وإن بسياق مختلف لسلاح الدول الغربية المحايدة الأخرى، مثل السويد أو فنلندا.

خاتمة
التحييد هنا، إذا أمكن انتزاعه بالتفاوض، سُيضاف إلى ضمّ القرم المُراد الاعتراف بها كجزء من روسيا، والإقرار معهما باستقلالية حوض الدونباس، بعد الإطباق عليه ميدانياً بالكامل. لتغدو المعادلة لا مجرّد تحييد أوكرانيا، وإنما «فدرلتها» غير المعلنة، وبالتالي يتحقّق، تلقائياً، الهدف الذي يبرُز في سردية روسيا على نحو متكرّر، والمتمثّل في اجتثاث النازية من أوكرانيا، حيث يستحيل تصوّر وجود المجموعات القومية المتطرّفة هناك، وبدرجة أقلّ سيطرتها، سياسياً وعسكرياً، بدون الغطاء الذي يمثّله الانتماء العضوي إلى الغرب، سواء عبر الحلم بالانضمام إلى «الناتو»، أو من خلال الضوء الأخضر، المُعطى غربياً، للممارسات التمييزية ضدّ الأقلية الروسية، أو الناطقة بالروسية، في الدونباس.