فلنبدأ الحكاية باستخدام المثل العربيّ العاميّ، ولكنّه الفصيح جداً: «كل واحد على دينو الله يعينه». نحن لسنا ضدّ الدين، وبطبيعة الحال لا نُعارض التدّين، ولكنّ المُشكلة، لا بل المُعضلة، تكمن في تجيير وتجييش الدين للحصول على مكاسب ومطامع سياسيّة.
وفي هذا السياق لا غضاضة في التذكير بمقولة ابن رشد: «المجتمعات الجاهلة غَلّف لها كلّ شيء بالدين وستتبعك من الخلف، حتى لو كنت شيطاناً»، أمّا الشيخ محمد متولي الشعراوي فقد أرسى مقولته الشهيرة: «إنْ كُنتم أهل دين، فلا جدارة لكم بالسياسة، وإنْ كُنتم أهل سياسة، فمن حقّي أنْ لا أختاركم ولا جناح على ديني». نقول هذه الكلمات ونحن نُتابع عن كثب، وبألمٍ وحسرةٍ شديدين، ما يحدث في وطننا العربيّ، بعد أنْ بات مُستباحاً من قبل الإمبرياليّة والصهيونيّة، الأمر الذي يُذّكرنا بأنّ أحفاد الأحفاد، من الأعداء، كانوا السبّاقين في تجنيد الدين للتحكّم بالمواطنين، ومحاكم التفتيش التي نشطت في القرنين الـ15 والـ16، هي أكبر دليل على ذلك، فقد كانت مهمتها اكتشاف مخالفي الكنيسة ومعاقبتهم، في جميع أنحاء العالم المسيحيّ. ولكن خلافاً لما يحدث اليوم في العالم العربيّ، فإنّ محاكم التفتيش وضعها وطبّقها البابا غريغوري التاسع لقمع ما سُمّيت آنذاك جرائم البدع والردّة، وأعمال السحر، بكلماتٍ أخرى، السلطة الدينيّة العليا للمسيحيين هي التي كانت مسؤولة عن قمع المؤمنين بشكلٍ همجيٍّ وبربريٍّ، بذريعة الحفاظ على الدين. وفي أيامنا، تنظيم «داعش» بات الفيصل في هذه الأمور، في حين أنّ المؤسسة الدينيّة الإسلاميّة أوْ المرجعيّة، ونقصد مؤسسة الأزهر الشريف، تُعارض قولاً وفعلاً ما يقوم به هذا التنظيم الدخيل على تعاليم الدين الإسلاميّ. فلا يقبل أيّ عاقل، أنْ تُرتكب المجازر باسم الدين، ولا يُمكن بأيّ حالٍ من الأحوال أنْ يقوم «داعش»، المصنّف مع تنظيم «القاعدة» الإرهابيّ بأعمال تقشّعر لها الأبدان ويندى لها الجبين، ويقتل العرب والمُسلمين، لأنّهم يرفضون الرقص على موسيقى النشاز التي يعزفها أقطابه وعناصره. «داعش» وما لف لفّها من تنظيمات متأسلمة، حولّت الأمتين العربيّة والإسلاميّة إلى أمتين تقومان بتصدير الإرهاب، وشوهّت الصورة الناصعة للدين الإسلاميّ وللعرب والمسلمين، وبتنا إرهابيين في نظر السواد الأعظم من سكّان هذه المعمورة حتى نُثبت العكس.

■ ■ ■


وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال الذي لا مفرّ منه: القاعدة وتصنيفاتها المختلفة، أعلنت قولاً لا فعلاً الجهاد على الكفّار، وفق مفاهيمها ومبادئها، ولكن حتى كتابة هذه السطور لم يقُم أيّ تنظيم من هذه التنظيمات بتنفيذ عملية عسكريّة ضدّ الدولة العبريّة، لماذا؟ قبل الولوج في الإجابة على السؤال، من الأهميّة بمكان، التشديد، على أنّ السؤال المطروح لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال، توجيه دعوة لهذه التنظيمات الإرهابيّة بالقيام بأعمال «جهاديّة» ضدّ إسرائيل، رغم أنّ الأخيرة، هي التي تعيث فساداً وخراباً في مقدساتنا الإسلاميّة والمسيحيّة منذ إقامتها على أنقاض الشعب العربيّ الفلسطينيّ في النكبة المشؤومة عام 1948. علاوة على أنّ أركان دولة الاحتلال، يُواصلون انتهاك حرمة المسجد الأقصى المُبارك بشكل منهجيّ وممأسس وبصورةٍ يوميّةٍ، في ظلّ عجز وهوان من قبل الأنظمة العربيّة الرسميّة. وهذا يقودنا إلى المرحلة التالية: عندما بدأ تفوق «داعش» على أخواته في أجزاء من سوريا، سارع الإعلام الغربيّ والخليجيّ بالتغطية على «داعش» باعتباره صنيعة المخابرات السورية. طبعاً كل شيء محتمل في علم الاستخبارات. ولكنّ هؤلاء لم يتنبهوا إلى أنّ أيّ مراقب جاد يمكنه قراءة الترتيب الأميركيّ - الصهيونيّ لهذا التنظيم، الذي حظي بأكثر الدعم كي يُنجز ما عجزت جميع فرق المسلحين عنه، وهو كسر سوريا، كمُقدّمة لتدمير محور المُقاومة. وفي العراق، حيث يقوم هذا التنظيم بتحقيق الانتصارات، لا بدّ من تأكيد أنّ نظام نوري المالكي لم يكُن جزءاً أساسياً في معسكر المقاومة، ولكنّ موقع العراق هو المهم، وهذا المكان وهنا الزمان للاستعانة بمقولة الصهيونيّ الحاقد ديفيد بن غوريون، الذي يُطلقون عليه مؤسس الدولة العبريّة: إنّ عظمة إسرائيل ليست في قنبلتها الذرية ولا ترسانتها المسلحة، ولكن عظمة إسرائيل تكمن في انهيار ثلاث دول: مصر والعراق وسوريا. وعليه، لجأت الولايات المتحدة الأميركيّة وحلفاؤها إلى إعادة احتلال العراق كي تضرب قوس المقاومة، وإعادة الاحتلال هذه المرّة أخطر من الاحتلال الأميركيّ المباشر، لأنّها تتّخذ توظيف سنة العراق والسعوديّة والأردن ضدّ سوريّة والمقاومة، أمّا الحديث عن مساعدات أميركيّة لحكومة المالكي فهو زيادة في تغطية المشهد. ومن هنا، فالآتي في منتهى الخطورة والشراسة. ولا شكّ أنّ تركيا تلعب لعبة مخلب الناتو لمنع موقف إيرانيّ قويّ في العراق، علاوة على أنّها تعمل على استرضاء الأكراد. كما أنّه من غير المُستبعد أنْ تكون معركة العراق هي بمثابة تحدٍ غربيّ لروسيا بدرجة اشّد من التحدّي الأوكراني. بيت القصيد أنّ الإمبرياليّة لا تتوقف عن جرائهما إلا بسقوط الرأسمالية في العالم، ذلك لأنّ رأس المال يرى أن الحقيقة الوحيدة أنْ يقتُل أوْ يموت.

■ ■ ■


الولايات المتحدة الأميركيّة تعمل على توليد موجة قوميّة جديدة في العالم تقوم على تفكيك القوميات وتوليد دول قومية من إثنيات وطوائف تخدم مصالح الرأسمالية المعولمة من جهة، وتحتمي بها من جهة ثانية، وتقتتل مع محيطها من جهة ثالثة، وعليه، فهذه الموجة القوميّة الثالثة هي موجة قوميّة عميلة للمركز الرأسماليّ بخلاف الموجة الثانية، التي هي حركات التحرر الوطنيّ في منتصف القرن العشرين، والأولى موجة القوميات في أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر، وبالتالي فإنّ مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي وضعه «النازيون الجُدُد»، أيْ أميركا وحليفاتها هو النسخة التطبيقية لمشروع الرأسمالية المعولمة في تطبيق نظرية الموجة القومية الثالثة على صعيد عالميّ، أيْ تخليق دويلات تحت مسميّات قوميّة. وإدراكاً من قيادة المحافظين الجدد في واشنطن لأهمية ودور الجيش، كان أول قرارات الحاكم العسكري (بثوب مدني) الأميركيّ في العراق هو حلّ الجيش العراقي. وبالطبع اجتثاث البعث وهو ما تمسك به الحكم الطائفيّ الذي جاء مع الاحتلال. الأمر المهم والمفصليّ في هذا الصدد هو أنّ الجيش العراقيّ كان قد بُني كجيش للوطن العراقيّ وليس للطائفة السنيّة الحاكمة، وهو الجيش والأمن الذي قمع المعارضة من مختلف أهل العراق، ودافع عن العراق ككلّ سواءً ضدّ الانفصاليين الأكراد على تنوع ارتباطاتهم ودافع عن العراق في حربها مع إيران ولم ينشق في حرب طويلة دامية بغض النظر عن تناقض تفسيرات من الذي بدأ الحرب أو من الذي قام بها استباقياً. كما لم ينشق هذا الجيش حينما استعاد الكويت 1990، ورغم تعرضه للتدمير الهائل على يد العدوان الأميركي المعولم والمعرَّب ضد العراق. لهذه الأسباب أصرّ الاحتلال الأميركيّ على تفكيك الجيش العراقيّ، ذلك لأنّ مشروع احتلال العراق يقوم على ثلاثة عوامل: الاحتلال المباشر للعراق لأطول فترة ممكنة، يتبعه نظام طائفيّ قمعيّ وهش يعيش على اقتتال طائفيّ عراقيّ، ما يحول دون سيطرة نهائية للسلطة المركزيّة، وهي رخاوة يمكن أنْ تقود إلى تقسيم البلد، وهذا مكلف للعراق كما لو بقي الاحتلال الأميركيّ الذي بخروجه وفّر الكثير من قتلاه وتكاليفه، والأهّم هو تدمير العراق لأطول عقود ممكنة، طالما هو دولة عربيّة مركزيّة تُقلق إسرائيل من جهة، وأوّل من أمّمّ النفط من جهة ثانية، طبعاً إلى جانب تدمير سوريا ومصر، وإن بطريقة أخرى.

■ ■ ■


ولا يغرَّنًّ أحداً يوماً عُلُو الصوت الأميركيّ والغربيّ ضد «داعش» و«النصرة»، فالذي درّب وسلّح هؤلاء لن يسمح لهم بالعودة إلى أرضه، وقد يُعيد البعض ليجد المبرر للزعم أنّ هناك خطر «إرهاب» في أرضه، وبالتالي لتمويه دوره الخطر. كل هذا كذب، فالولايات المتحدة والغرب من ورائها هما مَنْ خلقا ويرعيان ويُسلّحان هؤلاء ويُقرّران تمويلهم بفوائض النفط وقبض ثمن تسليحهم عبر تشغيل شركاتهم. أمّا مزاعم القلق لدى جامعة الدول العربيّة فلا قيمة ولا مصداقية لها، بل ستكون سعيدة إذا ما انضمّت إلى الجامعة العربيّة دويلة جديدة هي العراق السنيّ. وهذا تقوية لأساس الجامعة، أيْ سايكس-بيكو، وبالتالي نجزم أنّ جامعة الدول العربّية هي مؤسسة تضبط إيقاع حركتها على الأوامر الأميركيّة والتنفيذ النفطيّ الخليجيّ المضادّة للقومية العربيّة، وهي في النهاية في خدمة إسرائيل، أزمة العراق سوف تطول، واحتمالات التقدّم للدولة ربمّا تبدأ من اختيار غير المالكي الذي لا تُجمع عليه حتى طائفته. وحتى ذلك الحين، ستبقى «داعش» وروافدها في وطننا العربيّ، تُطبّق الأجندات الإمبرياليّة والصهيونيّة، ولسان حالها يقول: تقدّموا، تقدّموا، يا عرب نحو العصور ما قبل الحجريّة!
* كاتب فلسطيني