قضية الزواج المدني من أكثر القضايا التي تثير عواطف اللبنانيين، وبخاصة رجال الدين من جميع الطوائف لأنها تمس بهيمنتهم على حياة اللبنانيين في المضمارين الخاص والعام، والتي تجعلهم شركاء في القرارات السياسية والقضائية والاجتماعية التي تتخذها الحكومات. فالدستور الحالي، أي اتفاق الطائف عام 1989، أسّس المجلس الدستوري الذي أُنيطت به مراقبة انتظام القوانين الدستورية، إلا أن المثير هو نص الدستور على تقاسم السلطة بين الدين والدولة: «تأميناً لمبدأ الانسجام بين الدين والدولة يحق لرؤساء الطوائف اللبنانية مراجعة المجلس الدستوري في ما يتعلق بـ:1 – الأحوال الشخصية
2 – حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية
3 – حرية التعليم الديني».
هنا يتفق رجال الدين من جميع الطوائف على نبذ فكرة الزواج المدني. هنا، لا حياء ولا محاباة للغرب العلماني من قبل رجال الدين المسيحيين. هنا، الحياد يعني الوقوف والسهر على ديمومة النظام الطائفي عبر السيطرة على الأحوال الشخصية، ومنع حتى زواج مدني «اختياري».
إن تدخل الدين في قرارات الدولة، كما ينص اتفاق الطائف، يقف حائلاً أمام أي تطور باتجاه سيادة الشعب على قراره؛ فلا مكان لتطبيق مبدأ «المساواة أمام القانون»، إذ نحن أمام 18 قانوناً مختلفاً للأحوال الشخصية، إن لم يكن أكثر، كما لا مساواة بين المواطنين لأن الدستور لا يسمح بالترشح للانتخابات النيابية، أو تبوؤ أي مركز في السلطتين التشريعية أو التنفيذية، إلا بناء على الانتماء الطائفي المحدد لكل طائفة. وإن حصل أن انتمى اللبناني إلى البوذية، أو الهندوسية، أو الإلحاد، أو اللاأدرية، أو طالب بفصل الدين عن الدولة، فهو ممنوع من الترشح، وهو فعلياً غير لبناني، لأن شرط هوية اللبناني أن يكون مسلماً أو مسيحياً. وهكذا، كل من شطب عن هويته المذهب والملة، مُنع من الانتخاب، أي انتُزعت منه صفة المواطنة!
أمّا توقيع الدولة اللبنانية، ممثلة بالحكومة، على شرعة حقوق الإنسان التي تنص على حرية المعتقد، فهي من المظاهر المخادعة التي تهدف إلى إظهار لبنان أنه دولة متطورة وحديثة.
الركن الأساس لسيطرة رجال الدين والأحزاب الطائفية على الدولة هو الزواج الديني، وأي إلغاء لهذا الزواج سيعني حكماً إلغاء كل امتيازات رجال الدين من التدخل بكل شاردة وواردة في السلطة، وصولاً إلى تعيين أصغر أجير في مؤسسات الدولة. والأهم أنه سينهي الانقسام العمودي للمجتمع اللبناني بين الطوائف المتناحرة على السلطة، ويوحّد المجتمع الذي سيحوّل اهتمامه إلى البرامج الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل حزب من الأحزاب.
منذ أسّس الفرنسيون لبنان الكبير عام 1920، حصلت أربع محاولات لإرساء قوانين مدنية تؤمّن المساواة بين اللبنانيين، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل، المحاولة الأخيرة حصلت منذ ما يقارب الربع قرن، في عام 1998، من قبل رئيس الجمهورية إلياس الهراوي، وبالرغم من أنه طرح مشروع قانون لزواج مدني اختياري، غير إلزامي، إلا أنه أدى إلى ردود فعل عنيفة ومتطرفة، لم يشهد لبنان مثيلاً لها إلا إبان الحرب الأهلية عام 1975. ولم يعد الشغل الشاغل للإعلام المرئي والمسموع إلا هذا الموضوع، حتى إنه غطى على زيارة رئيس جمهورية فرنسا جاك شيراك للبنان في 5 أيار 1998، وزيارة كوفي أنان في 21 آذار من السنة نفسها والمدرج على جدول أعمالها الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان.
اعتبر رجال الدين أن هذا الطرح، إن أخذ مساره للتنفيذ، سيهدم نفوذهم في السيطرة على الدولة ومؤسساتها


اعتبر رجال الدين أن هذا الطرح، إن أخذ مساره للتنفيذ، سيهدم نفوذهم في السيطرة على الدولة ومؤسساتها، فغالبية رجال الدين عندنا لا يأبهون لرسالاتهم الروحية قدر ما هم مهتمون بالتدخل في شؤون الدولة، فخطبة يوم الجمعة كما عظة يوم الأحد تدوران حول المستجدات السياسية، وتدفعان بالمؤمنين بتبني وجهة نظرهما كونهما يعرفان أكثر من الاقتصاديين والمتخصصين بالعلوم السياسية أو الإنسانية أو علوم الاجتماع. المعرفة والعلم لا يعودان مهمين هنا، ولا الرسالة الدينية المطالِبة بالرحمة والتسامح. هنا رجال دين يعملون لمصلحة طائفتهم ضد الطوائف الأخرى، لكن حين ينبري أحد كالرئيس الهراوي لتقديم اقتراح عادل بالنسبة للوطنيين اللاطائفيين، حينئذ تتكاتف كل الطوائف ضد أي طرح سيقضي على نفوذها، والأشد إيلاماً أن الدولة مستعدة للتضحية بجزء من مواطنيها الذين يريدون حياة وطنية، لا طائفية، فتمنعهم من دخول مؤسسات الدولة، وتمنعهم من المشاركة في الانتخابات وتهمّشهم، ما يجعلهم ينزحون إلى الخارج. هؤلاء اللاطائفيون ينتمون في غالبيتهم الساحقة إلى الفئة الوسطى المثقفة والمتقدمة علمياً والتي جرى تهجيرها خارج لبنان خلال أعوام الحرب الأهلية (1975-1990)، وها إن التهجير يطاول الفئات الوسطى المتعلمة مجدداً، فتتقدم للهجرة وعلى رأسها الجسم الطبي، من جراء فساد النظام الطائفي الذي أدى إلى انهيار البلد.

الموقف السنّي
منذ ما قبل الاستقلال، أي في عام 1936، رفض السنة رفضاً قاطعاً أي محاولة لإرساء قواعد الدولة المدنية. أسباب عدة تحدو بـ«الطائفة السنية» لاتخاذ مواقف متشددة في هذه القضية. المحاكم الشرعية السنية جزء لا يتجزأ من مؤسسات الدولة، بالرغم من إسباغ صفة «جمهورية» على الدولة اللبنانية كما نص الدستور. ولا يزال المفتون الشرعيون يأخذون رواتبهم الشهرية من الدولة، كأي مؤسسة حكومية أخرى، وكل قراراتهم القضائية تنشر في الجريدة الرسمية كقرارات ملزمة للحكومة. لذلك، أي قانون مدني، حتى لو كان اختيارياً، هو بالنسبة لهم المدماك الأوّل في اتجاه فصل الدين عن الدولة، لأنه سينشئ محاكم مدنية إلى جانب المحاكم الشرعية، قد تطغى مع الوقت على المحاكم الشرعية.
في 18 آذار 1998، طرح الرئيس إلياس الهراوي في مجلس الوزراء مشروع زواج مدني اختياري، فكانت النتيجة تصويت 21 مسيحياً ومسلماً بأحقية الزواج المدني الاختياري، ورفض 9 وزراء له، وتبيّن في ما بعد أن الوزراء التسعة من مسيحيين ومسلمين ينتمون إلى كتلة رئيس الوزراء رفيق الحريري، أي أن التصويت تم بناء على المصالح الشخصية للوزراء، وليس بناء على آرائهم التي يحاضرون فيها أمام اللبنانيين. وبالرغم من حيازة هذا الاقتراح أكثر من ثلثي الأصوات في مجلس الوزراء، رفض الحريري رفضاً قاطعاً الانصياع للقرار، وطلب من المفتي محمد رشيد قباني، الذي كان في زيارة إلى السعودية، العودة على جناح السرعة.
عاد المفتي في اليوم التالي، وأرسل الحريري الوزير إلياس حنا ليمثله على المطار، كما أرسل رئيس المجلس النيابي نبيه بري، النائب صلاح حركة. تجمهر العديد من السنّة الذين أتوا لاستقبال المفتي، وعلى رأسهم الشيخ زكريا غندور، وأخذوا يعنّفون الوزيرين، فاضطرت الشرطة للتدخّل لوقف العراك الحاصل. كذلك، بادر جميع النواب السنّة، ومن دون أي استثناء، إلى شجب مبادرة الهراوي، ما أظهر أن التعصب الطائفي أقوى من الوحدة الوطنية، بخاصة أن الإسلاميين المتشددين في طرابلس أثاروا الشغب، واعتبر الشيخ مفيد شلق، رئيس هيئة القضاء السني، ومفتي جبل لبنان الشيخ محمد علي الجوزو، ومفتي البقاع الشيخ خليل الميس، أن الزواج المدني الاختياري هو قرار موجه ضد السنّة والدين الإسلامي، ويسهم بارتداد السنّة عن دينهم، وهدّدوا بفسخ أي زواج لامرأة سنّية من خارج ملّتها.
وتحوّلت مدينة طرابلس إلى قلعة للدفاع عن السنة برئاسة الجماعة الإسلامية، وحركة التوحيد، وجمع مفتي طرابلس، الشيخ طه الصابونجي، كل وجهاء السنة بمن فيهم وزير النقل في وزارة الحريري، الوزير عمر مسقاوي. وتم الاتفاق في هذا الاجتماع على اعتبار أي طرح لزواج مدني في لبنان، حتى ولو كان اختيارياً، يعني الإلحاد، وإلغاء للدين. وعلى إثر الاجتماع، طالب النواب خالد الضاهر، وفتحي يكن، وسعيد شعبان، وهو رئيس حركة التوحيد الإسلامي، باستقالة رئيس الجمهورية الفورية لأنه أهان مشاعر المسلمين.
رأت الجماعة الإسلامية ولجنة الإنقاذ الإسلامي أن إقرار الزواج المدني سيؤدي إلى حرب أهلية، واعتبرا أنها غير دستورية لأن السنة لا يوافقون عليها، وتضامن سنّة بيروت مع هذا الموقف، وأعلنوا الاعتصام في كل المساجد على الأراضي اللبنانية. كما أعلن مفتي طرابلس، الشيخ طه الصابونجي، الاعتصام المفتوح في الجامع الكبير في طرابلس، فاجتمع الآلاف مردّدين «خيبر، خيبر».
على إثر ذلك، توجّه وفد برئاسة الضاهر، والشيخ فيصل المولوي، والنائب السابق أسعد هرموش، إلى دمشق وقابلوا نائب الرئيس، عبد الحليم خدام، الذي طالب بسحب هذا القرار. إلا أن التظاهرات لم تتوقّف، وعمّت بيروت، فيما وقفت قوى الأمن عاجزة عن التدخّل في سعار طائفي.
في 30 آذار 1998، قرّرت الجماعة الإسلامية التظاهر في العاصمة بيروت، وجمعت 5 آلاف طرابلسي من أجل هذه الغاية، فيما تبرّع النائب مصباح الأحدب بتأمين الباصات كون عائلته تملك شركة سفريات من وإلى طرابلس. جالت الحافلات في شوارع بيروت وتوقّفت أمام مقر رئيس مجلس النواب نبيه بري، مستنكرين موافقته على الزواج المدني الاختياري.
خلصت القيادات السنية إلى رفض الزواج المدني للأسباب التالية:
أولاً، إن الأحوال الشخصية هي أحوال دينية تقرّرها المؤسسات الدينية لا الدولة اللبنانية.
ثانياً، أكد المفتي قباني أن الزواج المدني هو اختراع غربي هدفه تدمير المجتمع والعائلة، كما أنه يقود إلى الإلحاد.
ثالثاً، رأى المجتمعون أن الزواج المدني يقود إلى دولة علمانية ستزرع البذور لانتشارها في الدول العربية الأخرى.
رابعاً، تم التأكيد أن الزواج المدني يقود إلى قوانين وضعية من عمل البشر، بينما القوانين الإلهية أفضل بكثير وأعلى مرتبة.
بناء عليه، يُعتبر كل من يقدم على الزواج المدني كافراً.

الموقف الشيعي
في البدء، لم يظهر رجال الدين الشيعة أي موقف تجاه اقتراح رئيس الجمهورية، لا سلباً ولا إيجاباً، ما اضطر المفتي قباني إلى طلب اللقاء برئيس المجلس الشيعي الأعلى، محمد مهدي شمس الدين، لحضه على اتخاذ موقف موال لموقف السنّة. وفي الأصل، لم يكن موقف شمس الدين مغايراً لقباني، فهو جاهر مراراً أنه ضد الدولة العلمانية التي تطالب بفصل الدين عن الدولة، معتبراً أن القوانين المدنية تعني تلقائياً إلغاء المحاكم الشرعية الطائفية. إضافة إلى ذلك، أكد شمس الدين أنه ليس للحكومة، أو مجلس النواب، أي حق في مناقشة موضوع الزواج المدني. وافق أعضاء المجلس الشيعي الأعلى على ما قاله رئيسهم، فالحياة الخاصة للبنانيين هي من صلاحيات رجال الدين المنتمين إلى الطوائف المتعددة. وأوضح شمس الدين هذا الأمر في أحد خطبه قائلاً: «إن دور الأحزاب العلمانية هو الاهتمام بالأمور السياسية كقوانين الانتخابات، وإدارة مؤسسات الدولة، وفرض الضرائب، لكن لا حق لهذه الأحزاب التدخل في أمور الزواج والطلاق والإرث»، لكن لم يصل موقف الشيعة إلى مجاراة مفتي السنة بالتكفير.
علاوة على ذلك، لم يتخذ الشيعة موقفاً موحداً من القضية كما فعل السنة، فبينما رفض حزب الله الزواج المدني، وصرّح إبراهيم أمين السيد، وهو أحد نواب كتلة الوفاء للمقاومة آنذاك، أن أي طرح للزواج المدني يعني ترسيخ الإلحاد، وكذلك فعل محمد حسين فضل الله، الذي أفتى أن كل رجل، أو امرأة، يتزوج مدنياً فهو زان، إلا أن رئيس المجلس النيابي، ورئيس حركة أمل، نبيه بري دعم الاقتراح. وتميّز محمد حسن الأمين عن بقية رجال الدين مطالباً بتأسيس دولة مدنية، تماماً كما يفعل اليوم أحمد قبلان، مؤكدين أن النظام الطائفي يقف عائقاً أمام التطور.
إذاً، نرى انقساماً صحياً بين الشيعة، فمن جهة، غالبية رجال الدين الشيعة ضد الزواج المدني، ومن جهة أخرى، رجال السياسة والمثقفون مع الزواج المدني الاختياري. لقد أكد رئيس المجلس النيابي إبان الطائف، حسين الحسيني، أن رجال الدين يستعملون الطوائف ويتلاعبون بها، معتبراً أن لبنان ليس دولة دينية، وأن على رجال الدين والطوائف الاعتراف بأولوية الدولة وحقوق المواطن. لكن الحقيقة أن دستور الطائف ذو وجهين، وجه مدني ووجه ديني، يتصارعان على السلطة، ولم تلغَ الصفة الطائفية عن اللبناني في الطائف.

الموقف الماروني
من بين المسيحيين، تصدى البطريرك مار نصر الله بطرس صفير لاقتراح الهراوي، كما فعل العديد من السياسيين الموارنة. وأوضح الموارنة الرافضين للزواج المدني موقفهم بقولهم إن الحرب الأهلية أضعفتهم، وأدت إلى هجرة الآلاف منهم، بالتالي، أي حديث عن زواج مدني يعني تحوّل المسيحيين إلى مسلمين عبر الزواج، بخاصة زواج المرأة المسيحية التي يسمح به الإسلام لكنه يمنعها عن المرأة المسلمة. هذا الموقف مغاير تماماً للموارنة ما قبل الحرب الأهلية، حيث كانت الطبقة الوسطى المسيحية هي المهيمنة وتعمل لترسيخ مفهوم الدولة المدنية.
سبب آخر يثير خوف الأكليروس الماروني، هو منع الطلاق عند الموارنة بعكس المذاهب المسيحية الأخرى، ما يؤدي إلى تحوّل العديد من الموارنة إلى الإسلام للطلاق من زوجاتهم؛ هذا التزاوج سيؤدي إلى القضاء على المسيحيين بنظرهم. ولقد تبنى هذه النظرة رئيس الرابطة المارونية، أرنست كرم، الذي أكد وجوب استمرارية تقاسم السلطة بين المسيحيين والمسلمين.
هكذا، ومن وجهة نظر الموارنة، أي طرح للدولة المدنية يعني انتصار الإسلام، لذا، لم يختلف موقف البطريرك صفير عن المفتي قباني، ففيما هذا الأخير أطلق صفة الكفار على المتزوجين مدنياً، أصر صفير على حرمانهم الطقوس المقدسة.

الأحزاب المدنية أو العلمانية لا يُسمح لها بأي تمثيل في مؤسسات الدولة، فهي خارج السلطة، كما أنها خارج المجتمع أيضاً


وفيما اصطفت الطائفة السنّية برجالها ونسائها ورجال دينها رافضين رفضاً قاطعاً أي نقاش حول دولة مدنية أو زواج مدني، ودعمت بشكل مطلق موقف الرئيس الحريري، انقسم المسيحيون بين موقف رئيس الجمهورية والبطريرك، وساندت هذا الأخير العديد من الهيئات والأحزاب المارونية كالقوات اللبنانية، والاتحاد المسيحي الديموقراطي، وحركة حقوق الإنسان. وبدا انضمام رئيس حركة حقوق الإنسان، وائل خير، إلى هؤلاء، غريباً، كون حركته تعنى بحماية حرية الفرد، وحقه في الاختيار، كما بدا غريباً انضمام الكتلة الوطنية إلى القوات اللبنانية، بينما كان رئيس الكتلة، العميد ريمون إده، يطالب بالعلمنة في خمسينيات القرن الماضي!
في المقابل، وجد بطريرك الروم الأرثوذكس، أو الكنيسة الشرقية، أن رد فعل السنة والموارنة سببه رفضهم لفصل الدين عن الدولة، وعدم الفصل يؤدي إلى انعدام الإبداع والتطور في لبنان. ويتماشى هذا الموقف مع غالبية الروم الأرثوذكس الذين يفضلون الدولة المدنية.
خلق هذا الوضع نزاعاً دستورياً بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، فاقتراح الزواج المدني الاختياري أظهر ثغرات كبيرة في دستور الطائف، لأنه لا يقدّم حلاً في حال حصول خلاف بين هاتين الرئاستين. فاستناداً إلى الطائف، لا يستطيع رئيس الجمهورية إقالة رئيس الوزراء كما كان يفعل قبل الطائف، كما أنه لم يعد على رأس الهيئة التنفيذية في الحكومة، لأن صلاحياته أصبحت منوطة بمجلس الوزراء مجتمعاً، وإقالة مجلس الوزراء ممكنة في حالة واحدة فقط ألا وهي تصويت ثلثي مجلس النواب، وهذا أمر تحقيقه في غاية الصعوبة. ثغرة أخرى لم يلحظها الدستور؛ خلوه من أي تدبير في حال رفض رئيس الوزراء التوقيع على اقتراح حصل على أكثرية الأصوات في مجلس الوزراء، إذ إن الطائف لا يعطي مهلاً زمنية لرئيس الوزراء للتوقيع على القوانين.
في هذا الوضع، تحوّل الاقتراح إلى مشادة بين رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، أعلن على أثرها الحريري أنه لن يتم التجديد للهراوي، فيما هدّد هذا الأخير بأنه سيتقدّم باستقالته إذا لم يتم تغيير رئيس الوزراء! هذا الصراع هو نتيجة الحرب الأهلية التي قلبت موازين تراتبية الطوائف. فمنذ الاستقلال وحتى عام 1990، كان الموارنة على رأس الهرم، لكن انهزامهم وتشتتهم أدى إلى المناصفة بينهم وبين المسلمين كما لحظ الطائف. وفعلياً تساوت القوى المارونية، والسنية، والشيعية، فاستحال الوضع إلى أوليغارشية أو ترويكا طائفية في نزاع دائم على السلطة.
ولقد أظهر النقاش في المجلس النيابي، حول الزواج المدني الاختياري، وإلغاء الطائفية السياسية، أن النواب غير مهتمين بالشأن العام أو قضية فصل الدين عن الدولة قدر اهتمامهم بالتصويت بحسب ما يناسب بقاءهم في سدة الهيئة التشريعية! فبشارة مرهج مثلاً، وهو روم أرثوذكس، وينتمي إلى حزب البعث، وهو عضو في لجنة حقوق الإنسان، ومواقفه إجمالاً علمانية، وقومية عربية، إلا أنه صوّت ضد هذا المشروع التقدّمي لأن الحريري هو الذي نصبه وزيراً للداخلية، وكذلك فعل باسم السبع الشيعي، لأنه ينتمي أيضاً إلى كتلة الحريري.
أمّا السنّيان، النائب فاروق البربير، رئيس مستشفى المقاصد، وغازي سيف الدين، رئيس حزب البعث، فلقد صوّتا لصالح إلغاء الطائفية السياسية، والزواج المدني الاختياري، لأنهما كانا مدعومين من سوريا.
لم تتناول هذه الدراسة موقف العلمانيين الذين يريدون فصل الدين عن الدولة لأن لا تمثيل لهم على صعيد السلطة اللبنانية. فكل من يتقدّم للانتخابات النيابية عليه أن يتقدّم على أساس دينه وملّته. اتفاق الطائف حدّد فئتين فقط بمقدورهما الوصول إلى السلطة والتمثيل السياسي: إمّا مسيحيون أو مسلمون، فقط، ما يعني أن الأحزاب المدنية أو العلمانية لا يُسمح لها بأي تمثيل في مؤسسات الدولة، فهي خارج السلطة، كما أنها خارج المجتمع أيضاً، كون رجال الدين يستحوذون على القرارات عبر الأحوال الشخصية. هي دائرة محكمة الإغلاق لنظام طائفي يتحكم بالشأنين العام والخاص، فلا عجب ضمور واضمحلال الأحزاب اللاطائفية. إزاء هذا الوضع، تم دعم الزواج المدني الاختياري عبر مبادرات فردية، فانبرى الآلاف من الطلاب للتوقيع على عريضة تطالب بإقرار الزواج المدني الاختياري وإلغاء الطائفية السياسية، كما تم توقيع عريضة أخرى من قبل الأحزاب المدنية اللاطائفية ونقابات العمّال، ولجنة حقوق المرأة، والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، ووقّع أيضاً 26 محامياً من مدينة النبطية عريضة تطالب بحق المواطنين في حرية اختيارهم لما يرونه مناسباً، فإمّا زواج مدني أو ديني. ولسوء الحظ، انتشر على الطرقات المتعصّبون والمتشددون المدعومون من بعض رجال الدين، فأسكتوا الجميع ومنعوا اللبنانيين من مناقشة الموضوع بهدوء ومنطق.

* باحثة وأستاذة جامعيّة