ترد جملة «الأمّة الإسلامية» في أغلب الكتابات والخطب العربية من دون تفسير ماهيتها، ويتبادر إلى ذهننا العديد من الأسئلة التي هي بحاجة إلى أجوبة من أجل البحث العلمي الذي يفرض قواعد تحديد المفاهيم.كلمة «الأمّة» في الإسلام ليست مرادفاً لمعنى «الأمّة الحديثة» (nation-state)، بالتالي تثير لغطاً حول مضمونها، فهي لا تعني أرضاً جغرافية محددة، ولا إثنية خاصة بها كالدين اليهودي مثلاً، بالتالي التعريف الوحيد لـ«الأمّة الإسلامية» هو جماعة المسلمين حيثما وجدوا، لا رابط بينهم إلا الدين الإسلامي كرسالة روحية لا علاقة لها بمسار الدول الحديثة، أو مصير شعب معين، بالتالي استحالة دراسة هذه الأمّة بشكل علمي كونها لا تتناول منطقة جغرافية محددة.
فنحن نستطيع أن ندرس، مثلاً، تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام، أو بعد الإسلام، لأنه يتناول دولة واضحة المعالم جغرافياً، يعيش ضمن حدودها مجتمع ذو حضارة خاصة به، إذ لا مجال لكتابة التاريخ، أي تاريخ، من دون تدوين الزمان والمكان، وإلا أصبح منفصلاً عن الواقع الموضوعي. لذلك أي حديث حول «الأمّة الإسلامية» عليه أن يحدّد زمان ومكان هذه الأمّة، وإدراج «الأمّة الإسلامية» من دون تحديد جغرافيتها يعني إخراجها من التاريخ بشكل كامل. فماذا تعني عناوين مؤتمرات كـ«الإسلام والغرب»؟ أو «الأمّة الإسلامية وأوروبا»؟ نستطيع مقارنة الإسلام بالمسيحية أو البوذية أو الهندوسية، لكن كيف نقارن بين مفهوم ديني وبقعة جغرافية؟
علاوة على ذلك، يتم تناول موضوع «الدولة الإسلامية» من دون تحديد هوية الشعب الممسك بسلطتها، وكأن هذه الدولة الإسلامية تؤمّن المساواة التامّة بين شعبها والشعوب المسلمة الأخرى التي تسيطر عليها. هنا أيضاً تعمية للتناقضات الناتجة من رؤية كهذه. فالثورة ضد الكنيسة الكاثوليكية في نهاية القرون الوسطى حصلت لأن شعوب أوروبا رفضت سيطرة روما عليها بالرغم من أنها كانت تدين بالمسيحية!
تصح مقابلة الشرق والغرب بشكل عام، وكذلك تبيان مقارنات بين الأديان على صعيد الكتب المقدسة، لكن حين ندرس حقبات تاريخية، فنحن في الحقيقة لا نعاين أدياناً بل مجتمعات، ونظرتها إلى نفسها كما نظرتها إلى الآخرين، ومن ضمنها تراثها الديني الذي هو جزء منها. إذ لا وجود لإسلام من دون مسلمين، ولا وجود لمسيحية من دون مسيحيين، ويتم فهم الدين بحسب درجة تطوّر المجتمع المتواجد فيه هذا الدين؛ فإذا كان المجتمع متطوّراً نظر إلى دينه بشكل راقٍ، أمّا إذا كان المجتمع متخلّفاً تحوّل دينه إلى خرافات، أو أداة للقمع، أو التكفير، أو القتل، انسجاماً مع البيئة التي نشأ فيها. فلا أحد يستطيع أن يقرأ كتاباً من دون عينين، والعيون دائماً ملوّنة بلون بيئاتها.
وليس أدل من ذلك حضارة الإمبراطورية المسيحية في القرون الوسطى، التي سيطرت فيها شعائر الجن والشعوذة ورفض العلم، واحتقار المعرفة، وقتل العلماء واضطهادهم باسم الدين المسيحي الذي ادعى استحواذه على كل أشكال المعرفة، بينما اختلفت نظرة الخلافتين الإسلاميتين، الأموية وأوائل العباسية، عن المنحى الغربي إبّان سيطرة الكنيسة المسيحية على أوروبا، وفصلت تماماً بين الدين والعلم بما فيه إدارة الدولة، فكانت الدواوين، وترجمات الكتب الإغريقية والفارسية للاستزادة من المعرفة. ولم يعتبر أحد آنذاك أن الترجمة، أو دراسة الفلسفة والعلوم، توازي الكفر بالدين. هذه النهضة العربية إبّان هاتين الخلافتين كانت نتيجة تطوّر المجتمع العربي واحتكاكه عبر الفتوحات الإسلامية بحضارات متقدّمة كبلاد فارس، والهند، ما أدّى إلى رؤية منفتحة تجاه الدين، وحدود الدين، فتم اقتباس الرياضيات والطب من الفرس، والأرقام والتصوّف من الهند، فيما أرقام منطقة الهلال الخصيب انتقلت إلى أوروبا حيث لا تزال سائدة.
لم ينحدر هذا المنحى إلا مع دخول الأتراك الجيش، وهيمنتهم على بغداد في عصر الخليفة العباسي الرابع المتوكل، الذي رفض أي تأويل أو تفسير للنص القرآني، واضطهد العلماء، وحرق كتبهم، ومنع تدريسها على أساس أن جل المعرفة في القرآن. ومنذ ذلك الحين تبادلت الإمبراطوريتان المسيحية والإسلامية الأدوار؛ ففيما باشرت دول أوروبا تأسيس نهضة علمية بعيداً من التأويلات الدينية مع نهاية القرون الوسطى، تبنّت المؤسسات الإسلامية في العالم العربي النظرة المسيحية القروسطية الرافضة للعلم والمعرفة خارج النص الديني، وتم إرجاع مجمل الويلات التي أصابتنا إلى عدم التزامنا بالدين الإسلامي.
* باحثة وأستاذة جامعيّة