«إنّني على استعدادٍ للنضال، نضالاً مستميتاً، مستعملةً كلّ الأسلحة التي أجدها في حوزتي. أناضل كالحيوان الجريح. إنّ كلّ غرائز البقاء في كياني تدخل الميدان» (من رواية «الساعة الخامسة والعشرون»
للروائي الروماني قسطنطين جيورجيو)


انتشر منذ سنتين تقريباً على منصّة «نتفليكس» مسلسلٌ إسرائيليٌّ خبيثٌ اسمه «فوضى»، يُصوَّر فيه الفلسطيني بأنّه سهل الاختراق، وأنّ حلمه هو العيش «الطبيعي»، وأنّ قضيّته مع الإسرائيلي هي قضيّة خلاف وثأر شخصي خالٍ من أيّة دلالة نضاليّة، وأنّه مستعدٌّ لأن يخون التنظيم الذي ينضوي تحت لوائه فقط ليصل هو نفسُه إلى إدارته، وأنّ الأسير يُرَوَّض في أسره ليُستخدَم في الخارج أداةً تجسسّية للعدو إلخ. طبعاً، هذا المسلسل ليس موجّهاً للذين يؤمنون بقضيّتهم حدّ الاستشهاد في سبيلها، بل قبل أي شيء آخر لأولئك الذين يعتبرون قتلَ الجهادي للمستوطنين «المدنيين» عملاً يدنو لمستوى الجريمة، والإرهاب، والعنف غير المبرّر، والذين هم أنفسهم امتدادٌ لذواتهم التاريخية التي اعتبرت في السابق أنّ الفلسطينيّ باع أرضه، وهم أنفسهم الذين لا يرون في مسار التطبيع الثقافي والسياسي والأكاديمي أيّ انحطاطٍ أخلاقي. وأنّى لهم أن يروا انحطاطاً أخلاقيّاً وهم يدينون كلَّ من يمنّي النفس في الارتقاء شهيداً؟
(رامة عامرية - رام الله)

إذا تفحّصنا كلّ عملٍ مقاوم، فرديّاً كان أم منظّماً، نلحظ بشكل جليّ أنّ المقاتل، قبل امتلاكه لأيّة قطعة عسكرية، يتسلّح بفورة ثوريّة جذرية عارمة ضدّ مخاطر استكانة القوّة الثلاث: استكانة القوّة في الوعي، استكانة القوّة في الإرادة، واستكانة القوّة عبر الزمن. وهي استكانات مترابطة مع بعضها البعض. فحين تفقد الثورة جوهرها الواعي بالتحرّر ومشروعها العقلاني الذي يقوم على مفاهيم جذرية، عندئذ لا يعود للإرادة ولا للعقيدة القتالية أيّ دور ملموس على الأرض، وكأنّ نوعاً من الغموض والضبابيّة يجثم على الروح؛ فلا هي تشكّل تغييراً حقيقيّاً في مسار المعركة فتُصاب بالأمل، ولا هي تؤثّر في العدو فتصيبه بالارتباك. وعند الحالة هذه يصبح الزمن أداة بيد الأعداء ليراهنوا عليه في إخماد نفوس الثائرين وصولاً لمفاوضات استسلاميّة، كالحالة العرفاتية المقيتة وما تلاها من تصرّفات انتهازية قام بها مدّعو الفكر اليساري، وعند هذا الحدّ تبدأ الفوضى.
المسألة ببساطة هي أنّ كلّ عمل ثوري ينتهي بالتفاوض والاستسلام هو ادّعاء مزيّف للنضال. ما فعله العظيم باسل الأعرج في إعادة سرد وتسليط الضوء على أهمية المعارك التي خاضها الشعب الفلسطيني تاريخيّاً، ودراستها بحنكة المقاتلين، لم يكن شيئاً عارضاً، كان يعلم علم اليقين أنّ القوّة عندما تتحقق في الوعي تصبح مادّة صلبة قادرة على الفعل والتأثير، تأثيرها على مستويين: فردي في الميدان، وزمنيّ في التاريخ. يشحن وعي التاريخ النضالي إرادةَ المقاتلين في تجسيد التاريخ والمستقبل في عملٍ بطوليٍ حاضر وآنيّ، لأنّ الحاضر هنا هو نقطة التقاء بين ما جرى وما سوف يجري، فيصبح الزمن والحالة هذه أداة بيد المقاتلين لاستكمال ما بدأه أسلافهم من دون أن يسقط حقّهم عبر التقادم في الزمن، ومن دون أن يُحبطوا في حال ارتقاء أحدهم شهيداً، والمهزوم هو الذي يتعب ويستكين أولاً. هذه سلسلة منطقية لها بداية ونهاية، تبدأ من نقطة مشروعية وشرعية في الدفاع عن النفس لتنتهي بحتميّة حقّ تقرير المصير (هذه مفاهيم لا تحقّقها شرائع الأمم المتحدة ولا وثائق المفاوضات).
المستوطن الذي جاء إلى أرضنا، فلسطين، جاء محمّلاً بعقيدة همجية تربط بين الغاية الدينية والسلوك السياسي، وهي عقيدة الصهيونية. الحديث هنا لا يعني أنّ صراعنا صراعٌ دينيٌّ، الدين قد ينفع هنا كأداة في العمل النضالي لا كمسبّب ولا كغاية، بل صراعنا بين جلاّد مستعمِر وضحّية مستعمَرة. وقد عبّر غسان كنفاني عن هذا الصراع بأعمق ما يكون: «صراع بين السيف والرقبة»؛ فالمستوطن في هذه الحالة هو «جنديٌّ مدنيٌّ»، هو الجندي الذي لا يرتدي بزّة عسكرية فوق جلده، لكنّه الجنديّ الذي يلبس بنطاله «الجينز» المدنيّ ويحتلّ بيتك وأرضك وشوارعك. لا تغرّكم المظاهر، فالمحتلّ لا ملامح في هيئته ولا ثقافة حضارية في ممارسته، لبس بدلته الزيتية أو بنطاله الأزرق، هو هو في كلّ حال، محتلّ وُجِدَ لُيهزم، ونحن قوم وُجِدنا لنهزمه.
المسألة ببساطة كالتالي: لا تشكّل المستوطنات مركزاً للتمركز البشري فقط، بل هي في جوهرها ذات بعد عسكري هام لبقاء الاحتلال. فلا يكفي أن يتمّ احتلال مناطق جديدة وملء الفراغ الذي ينشأ بخلق الوجود المادّي السكّاني لها، بل الأمر يتخطّى ذلك ليصل إلى جعل المستوطنة مستودعاً للقوى البشرية المدرّبة تدريباً عسكريّاً متطرّفاً واللازمة للقوات المسلّحة، حيث أنّه من الضروري للاحتلال أن تشارك المستوطنة في عملية البناء العسكري وأن تشكّل مركزاً ينطلق منه الاحتلال خارج الحدود التي يحتلّها ليتوسّع محلّياً ثمّ بعد ذلك إقليميّاً ليحقّق «الوعد» الصهيوني. وكما يعبّر عبد الوهاب المسيري: «الاستيطان الصهيوني هو مشروع لا يمكن تنفيذه إلا بالعنف». لذا، لم يكن عبثاً أن يعترف إيغال ألون، أحد قياديي منظمة «الهاغانا» التي قتلت أبناءنا المقاتلين والمدنيين، وهو وزير سابق وعضو كنيست سابق، بأنّ «الاستيطان مهمّ جدّاً لرسم حدود إسرائيل، فمن دون المستوطنات لا يمكن الدفاع عن الوطن حتّى لو ضاعفنا عديد الجيش».
من هنا يأتي وعي المقاتل في أهمّية تنفيذ عمليته البطولية في المستوطنات، فهو لا يخلخل أمناً فرديّاً للمستوطن المدنيّ فقط، بل الأهمّ أنّه يزعزع كياناً وحشيّاً بذاته. ولتعرف أنّك منتصر حتّى قبل أن تنتهي الحرب، يكفي فقط أن ترى كيف يمكن لعملية دهس صغيرة، أو لسكّين بسيطة، أو لرشّاشٍ ذخيرته معدودة، أن تهزّ أمنَ كيانٍ له ما له من ترسانة عسكرية واستخباراتية واستيطانية وتكنولوجية وشبكة عملاء وجواسيس ومطبّعين، وقدرة تدميرية هائلة، وقوى دولية داعمة له، على المستوى المادّي والتقنيّ وعلى مستوى القانون الدولي المضلِّل. حين ترى مثل هذه المفارقات فأنت حتماً منتصر حتّى لو وقفت الدنيا بأسرها في وجهك. الأمر لا يحتاج لمعادلات فيزيائية معقّدة، حين يعي المقاتل أهمّية ما يقوم به، يصبح الدهس والطعن وإطلاق الرصاص من مسافة صفر ثمّ الاستشهاد بعدها، بمثابة ترسانة عسكرية، لأنّ كلّ أداة حربيّة، مهما عظُم شأنها، إن لم تحمل قيم وأهداف صاحبها وتعكس مفاهيمه الجذرية، بل إن لم تكن هي نفسها مسلّحةً بإرادة قتالية حقيقيّة، تصبح خردة بكل ما للكلمة من معنى.
هذا هو معنى تكثيف الوعي الحادّ بأهمّية القوّة، أن تراكم وتراكم بلا ملل ولا كلل، أن تتحكّم بالزمن لحظة استشهادك. على العالم بأسره أن يفهم أنّ الفلسطيني، وهو يحمل ما يحمل ويذهب لأيّة مستوطنة ليقتل مدنيّاً أو عسكريّاً لا فرق، فهو في لحظة تجلٍّ واعية؛ واعٍ لدرجة أنّه لكي يصبح حرّاً عليه أن يمارس على الأقلّ بعض العنف الذي مُورس ضدّه، وواعٍ لدرجة أن يشاء خلاصه بالشكل الأمثل: كسر ما كان سبب معاناته، عرف أنّه طالما بقيت تلك المستوطنات آمنة فلن يكون مصيره سوى أن يظلّ تحت الاحتلال والحلّ لا يكون إلاّ بكسر أمنها.

الجحيم الأرضي
في مطلع العام 1968، قرّرت المقاومة الفيتنامية أنّه من بعد اليوم لا يجب أن يمرّ يومٌ من دون شنّ هجمات على الجنود الأميركيين. و كما يذكر جون روبرت في كتابه «حرب العصابات المقاوِمة- بديلاً عن الحرب»، أنّه في اليوم الأول من هذا العام أسقطت المدفعية الفيتنامية قاذقة قنابل أميركية، وبعد ثلاثة أيام قصفوا بالصواريخ قاعدة عسكرية ضخمة فأصابوا ثماني طائرات. وتوالت أخبار إسقاط الطائرات وتدمير الدبابات وتفجير المعسكرات الأميركية، ولم يعد هناك مهرب للجنود الأميركيين، فهم إن تقدّموا اعترضتهم الغابات والأحراش التي جهّزتها المقاومة الفيتنامية بجميع أنواع الكمائن والأفخاخ الحادّة بحيث من يسقط فيها ميت لا محالة، وهم إن بقوا في مواقعهم هاجمهم الفيتناميون من كلّ حدب وصوب، حدّ أنّه، والقول لروبرت، حدث مراراً أن طلبت الثكنات والمراكز العسكرية النجدة من الجنود الأميركيين الذين في الميدان والذين بدورهم كانوا يطلبون النجدة من تلك القواعد في الآن نفسه. إذا نظرت لما كان يجري في فيتنام نظرة عابرة فلن تفهم ما جرى، بل ينبغي الغوص عميقاً في ما كان يفكّر فيه كلّ مقاتل فيتنامي واجه أعتى جيوش العالم. ما جرى هناك يجري الآن؛ لقد أدرك الثوار الفيتناميون أنّ الثورة دامية بطبيعتها، إن لم تَقتل تُقتل، هكذا ببساطة، فلا مكان فيها للمجاملات والمزاح، وأن تَقتل يعني أن تعمل على إفقاد المستعمِر قدرته على الاستمرار في المواجهة، ويعني أيضاً أن لا تراعي عواطف وحساسية المثقفين غرباويّي الهوى، وأن تدوس في طريقك للنضال كلّ فلسفات الأنجزة وأفكار الطابور الخامس.
يصف الجنود الأميركيون الذين شاركوا بالحرب على فيتنام تجربتهم بأنّها جحيمٌ عاشوه في الدنيا قبل الآخرة، فأينما ولّوا وجههم كان ثمّة موتٌ يتربّص بهم باستمرار، كانت المقاومة الفيتنامية لهم بالمرصاد، في الشوارع والمدن والأحراش والغابات، في الأجواء والخنادق، في الواقع وفي الكوابيس، لم يدعوا لهم هنيهةً من الوقت كي يشعروا بالأمان المؤقّت. لذلك لم يكن مستغرباً أن يفرّ الجنود الأميركيون ويصبح أقصى حلمهم أن يبقوا أحياء، وأن ترفض العديد من الكتائب العسكرية المشاركةَ في القتال، وأن يتركوا جثث رفاقهم القتلى/القتلة متناثرين أشلاء فوق الأرض. يذكر أوليفر نورث، الذي كان قائداً لفصيل عسكري في فيتنام قبل أن يخدم في البيت الأبيض لخمس سنوات في مجلس الأمن القومي، في مذكّراته «تحت النار»، أنّ الحالة المعنوية للجنود الأميركيين في فيتنام قد انهارت تماماً، وارتفعت معدلات تعاطي العقاقير المخدّرة، وزادت نسبة الفارّين من التجنيد، وانتشرت عمليات الاغتيال بين صفوف الضباط، ورفضت وحدات بأكملها خوض المعارك. ويضيف (وهنا جوهر المقاومة): «كنّا إذا احتلّينا اليوم قرية أو مدينة فيتنامية، علينا في اليوم التالي أن نقاتل لإعادة احتلالها واسترجاعها من أيدي الفيتناميين الذين حرّروها».

خاتمة
يجادل منظّرو فلسفة الدين بأنّ الممارسات الطقوسية في بعض الأديان، كالتبرّك بالحجر أو التضرّع لوثن، ليست ممارسات تعبّدية للجماد بذاته، بل للمفهوم «المقدّس» الذي «يتجلّى» عبره (كالكعبة والحجر الأسود، كتمثال السيدة العذراء والسيد المسيح، كحائط المبكى، كالتماثيل في الأديان الأخرى،... إلخ). والمجاهد الذي يحمل مِديته أو رشّاشه ويُردي قتلاه من الأعداء، مدنيين كانوا أم غير مدنيين، لا يقوم بفعله «المقدّس» هذا لرغبة دفينة في داخله في ممارسة القتل والأذى (ربّما يصحّ هذا في أماكن أخرى خارج ميادين النضال)، ولكنّ فعله هو ترجمة مؤمنة بالمفاهيم التي تتجلّى في العمل النضالي: الحرية والكرامة.
يستشهد المجاهد في هذا السبيل، وقد يرقى من دون أن يرى بلاده وقد تحرّرت، لكنّه بفعله الذي لا يفوقه قداسةً أيُّ دينٍ أو عرفٍ أو فلسفةٍ، مات حرّاً لأنّه حين حمل رشّاشه ومضى في درب الانعتاق عرف أنّه ميتٌ لا محالة ولكنّه كان حرّاً بما فيه الكفاية ليختار كيف يموت.

* كاتب لبناني