«أسود، لكنْ لم يعد أبداً عبداً»
ألكسندر بوشكين


ظلت مسألة اللون هاجساً أولياً وحاكماً للتصور الأفريقي - الروسي المتبادل، ولا سيما قبل عهد الاستقلال الأفريقي في ستينيات القرن الفائت. يتضح ذلك مبكراً في رد ألكسندر بوشكين، الأديب الروسي الأبرز ذي الأصول الأفريقية، على السخرية من أصوله في قصيدة يفخر فيها ــــــ بتحدٍّ واضح ــــــ بنسبه «الأرستقراطي القديم» رغم اضطراب روايات أصوله الأفريقية بين الحبشة وحوض بحيرة تشاد والكاميرون الحالية. كما أظهرت المقاربة الروسية للدعاية ضد عنصرية الولايات المتحدة إزاء الزنوج والمهمّشين، كما في فيلم «السيرك» (1936)، تصوراً رومانسياً متعاطفاً مع السود في مواجهة هذه العنصرية مع إبداء جمهور «السيرك»، في المشهد الختامي للفيلم، هذا التعاطف مع راقصة الفودفيل الأميركية ماريون ديكسون وطفلها الأسود غير الشرعي (الذي فرّت به من بلدتها الأميركية) ليضع نهاية لتخوفها المزمن من ابتزاز مدير السيرك الألماني بكشفه هذا السر خلال وجودهما في جولة في موسكو. وفي مستوى أعمق حضرت هذه المسألة بقوة في مخيّلة النخبة الأفريقية تجاه روسيا وإن تجسّدت في شكل تجليات وتناقضات أكثر تعقيداً من ارتباطات حركية براغماتية في الأحزاب والمؤسسات الشيوعية، إلى تبني رؤى روسية وتطويعها للقضايا الأفريقية، مثل الاستعمار وسيناريوات الاستقلال، مروراً بمراجعات إيديولوجية مضطربة، حتى مع ضبطها في سياقاتها التاريخية تماماً.

ماركوس غارفي: موسى الأسود واستلهام لينين
لاحظ فلاديمير لينين، في قراءة ثاقبة للغاية، أن الأقليات المقهورة تعكس في الغالب تقنيات البورجوازية بشكل أكثر مهارة مقارنة بغيرها من أقسام البورجوازية نفسها، وهي ملاحظة يمكن تطبيقها على الفترة التي عُرفت بـ«نهضة هارلم» في الولايات المتحدة وارتادت هذا الحراك جمعية تحسين الزنوج العالمية (UNIA) ورابطة المجتمعات الأفريقية، اللتان تأسّستا على يد ماركوس غارفي (1887-1940)، والذي طوّر أفكاراً مهمة وتأسيسية للوحدة الأفريقية منذ زيارته الشهيرة للندن في عام 1912 وكتاباته في دورية «African Times and Orient Review» التي كان يحررها المصري دوس محمد، ويمكن القول إنها تمثّل حلولاً وسطاً وقراءات توافقية في طبيعتها.

ملصق سوفياتي (1932)

وفي المقابل، فإن رؤية غارفي للشيوعية عكست نظرته البورجوازية بشكل واضح؛ إذ رأى أنها «من خلق الإنسان الأبيض لحل مشكلاته السياسية والاقتصادية» وأنها ليست معنية إطلاقاً بالتحرر الاقتصادي أو السياسي للسود، بل برفع قدرة الكسب للطبقة الدنيا من العمال البيض، معتبراً أنها «نظرية خطيرة للإصلاح الاقتصادي والسياسي لسعيها لوضع الحكم في يد جماهير بيضاء جاهلة غير قادرة على هزيمة تحاملها الطبيعي نحو الزنوج والشعوب غير البيضاء الأخرى». قبل أن يلاحظ أنه في «جنوب أفريقيا وشرقها وجنوب غربها يمارس المستعمرون البيض الأفقر حالاً التمييز الأكثر خبثاً والاضطهاد بحق الأهالي لسرقة حقوقهم. وفي كل مكان فإن المستعمرين الفقراء والرجال البيض الفقراء هم من يقومون بالعمل القذر ضد الزنوج. وأولئك هم من استهدفتهم الشيوعية». كما لم تكن انطباعات غارفي الروسية راديكالية حتى قياساً لأعوام سابقة؛ فقد رفضتها جماعة إخوة الدم الأفريقي (ABB) منذ عام 1919 باعتبارها غير كافية لتبني الثورة الروسية وحشد الزنوج وراء «حركة بلشفية سوداء» دعت لها باستمرار دوريتهم «The Crusader».
لكن رغم إعلان غارفي مراراً معارضته للشيوعية كحركة إصلاح، فإنه نعى لينين عند وفاته (1924) علناً باعتبار أنه «مؤسس الاتحاد السوفياتي» ووصفه في افتتاحية دورية «Negro World» بأنه «ربما كان أعظم إنسان في العالم في الفترة 1917-1924»، وأعلن أن «UNIA» قد أرسلت برقية لموسكو «تعبّر فيها عن أسف وتعزية 400 مليون زنجي في العالم» (قدّرهم جورج بادمور بعد نحو عقد بقرابة 250 مليون زنجي)، وتحدّث غارفي نيابة عن الزنوج بأنهم يرثون لينين لأن روسيا قدّمت أملاً عظيماً ليس للزنوج فحسب بل لشعوب العالم الأضعف. واعتبر مؤرخون ومفكرون أن عمل غارفي لا يُعد تراجعاً مروعاً عن رؤاه المبكرة لكنه مجرد مثال على نزعة ساذجة للدرامية ورغبته الأنانية/ المغرورة للارتباط برجال العصر المهمّين في العالم.
وتتسق تلك الرؤية المضطربة مع خلفية فكر غارفي في المجتمع الأميركي في الربع الأول من القرن العشرين وموقفه الانسحاقي أمام «انتصار الإنسان الأبيض الأميركي»، بتعبير غارفي نفسه، الذي نال حريته بعد تضحيته بآلاف الجنود الذين حاربوا وسقطوا تحت قيادة جورج واشنطن «ونيل أميركا وإنكلترا وفرنسا السلام مع العالم ومع أنفسهم» بهزيمتهم ألمانيا (في الحرب العالمية الأولى) وفوزهم بالحرية والديموقراطية. وانتقد الزنوج لاعتقادهم أن بمقدورهم نيل الحرية دون بذل الدماء موجهاً خطابه إلى بني جلدته بالتمييز بين الحقوق السياسية والحقوق المدنية التي يمكن نيلها بالمساعي الدستورية، والحرية التي لا يمكن نيلها إلا ببذل الدماء، ليس في الولايات المتحدة لكن «في ساحة معركة أفريقية»، لأن أفريقيا هي «البلد الذي منحه الرب لآبائه الأولين، وأنها أغنى قارة في العالم، وأنها البلد الذي قدّم الحضارة للجنس البشري وجعلت الرجل الأبيض ما هو عليه».
وعكست جهود غارفي لمنافسة شركة «فايرستون للمطاط» في ليبيريا وعمل «UNIA» في إنتاج المطاط (1924)، وإلقاء تبعات فشل مساعيه على وليام ديبوا ووشايته به لدى الرئيس الليبيري حينذاك تشارلز كينغ، سطحية رؤية غارفي للنخبة الأفريقية في ليبيريا باعتبارها مجرد دمية في يد «الأميركيين الأفارقة»، وتجاهل متعمّد لازدراء كينغ لغارفي وأنصاره على خلفية جهودهم لإعادة «قوى عاملة من الولايات المتحدة إلى ليبيريا»، في تبنٍ لرؤية الخروج التوراتية، والضغط لدى الإدارة الأميركية في هذا الصدد بالتزامن مع رفض الأخيرة تقديم أية مساعدات لمنروفيا في ذلك الوقت.

جورج بادمور: النموذج الروسي واضطرابات نقد الإمبريالية
لعب ماركوس غارفي (إلى جانب وليام ديبوا)، خلال الفترة التي تلت تسوية الحرب العالمية الأولى مباشرة، دوراً رئيساً في تشكيل توجهات أفريقيا نحو المستقبل، وأكدت أفكار غارفي على العناية الفائقة بفكرة العرق أولاً. وكان تصاعد استقطابات الإيديولوجيات الأوروبية والرأسمالية في العالم دافعاً للسود، ولا سيما في الشتات، لدراسة الماركسية والاشتراكية. وحثّ تصاعد مكانة الاتحاد السوفياتي دولياً وقبول السود في الدولية الشيوعية دعاة الأفروعمومية لاستكشاف الاشتراكية كوسيلة محورية لتوحيد أفريقيا ومستقبلها. ولفت مؤرخون إلى طبيعة هذه الرؤية عند غارفي باعتباره أن الاشتراكية والتضامن المحتمل بين عمال العالم «أداة ما يمكن أن تحل مشكلة العرق».
وقد تبنّى بادمور (1902-1959)، الذي التحق بالحزب الشيوعي الأميركي في عام 1927، في مرحلة مبكرة من حياته القصيرة نسبياً رؤية شيوعية لتفسير تاريخ «الزنوج المضطهدين» في المستعمرات الأفريقية وداخل العالم الجديد، كما افتتح تقديمه لكتابه «The Life and Struggles of Negro Toilers»، الذي وضعه لصالح اللجنة النقابية الدولية للعمّال الزنوج بلندن (1931) ونشرته مجلة «.R.I.L.U» (التابعة للدولية الحمراء للنقابات «بروفينترن») برؤيته أن قمع الزنوج، الذين قدّرهم بنحو 250 مليون نسمة، يأخذ شكلين أولهما قمعهم كطبقة، وقمعهم كأمة (أو عرق)، وربط الأخير بأساسه في العلاقة الاجتماعية الاقتصادية للزنوج في ظل الرأسمالية وأنه يتركز في الولايات المتحدة ولا سيما في «حزام الولايات الجنوبية» وفي اتحاد جنوب أفريقيا، ورؤيته أنه لا فرق بين الإمبرياليين سواء أكانوا أميركيين أم إنكليزيين أم فرنسيين أم بلجيكيين أم غيرهم من القوى الاستعمارية المعروفة. وكان بادمور قد سافر في عام 1929 إلى موسكو حيث ساعد في تنظيم المؤتمر الدولي للعمال الزنوج (هامبورغ، 1930) وعزّز موقعه كرئيس للجنة النقابية الدولية للعمال الزنوج (ITUCNW).
وقدّم بادمور عملاً مدرسياً بارزاً بلور فيه أفكاره الشيوعية في مرحلة مبكرة عن «كيف تحكم بريطانيا أفريقيا» (1936) بدأه ــــــ بما يتّسق مع تفسيره للتاريخ الأفريقي ــــــ بتناول تجارة الرقيق والمرحلة التالية لها وقدّم ملخصاً حول «الإمبريالية الاقتصادية» معتبراً أن احتلال أفريقيا يعكس «التوجه الكامل لتطور الإمبريالية الاقتصادية»، وأن رغبة القوى الأوروبية الاستعمارية في ضم أراضي أفريقيا بعد قرون من «الاتصال» التجاري جاءت في فترة تاريخية معينة في تطور الرأسمالية في القرن التاسع عشر عندما تطورت الثورة الصناعية على نحو كافٍ في أوروبا الغربية على نحو قاد لطلب على موارد خام خاصة لا يمكن الحصول عليها من الدول الغربية، وأسواق خارجية لتصريف الفائض السلع. ورافق الإمبريالية الاقتصادية التدخل العسكري والبحري. ولفت، في تفسير تاريخي متماسك، إلى أن الإمبريالية نظام طفيلي اقتصادياً وسياسياً، تقوم به قوى قليلة بالغة التطور صناعياً ومسلّحة تقنياً بشكل جيد تعيش على غالبية سكان الكرة الأرضية.
ارتبطت مخيّلة النخب الأفريقية عن روسيا، في الفترة المعنية هنا، بطبيعة تكوين هذه النخب في «العالم الجديد» في ظل معاناة طبقية وعنصرية مزدوجة


وفي سفر ضخم قدّم بادمور طرحاً جريئاً بعنوان «أفروعمومية أم شيوعية؟» (1956) تطرّق فيه، في خمسة أجزاء، إلى مسائل بالغة التنوع (مثل الاستعمار الأوروبي وانتشار الحركات الشيوعية في أقاليم أفريقيا المختلفة من بينها الشمالي الأفريقي) وبأساليب سرد متماسكة ودقيقة للغاية. اختتمه بادمور بنقاش مهم حول الشيوعية والقومية السوداء منطلقاً من تبنّي تصور لينين لمناهضة الإمبريالية. ولفت في ملاحظة جدلية إلى أنه قبل وقت طويل من «دخول الشيوعية الروسية مسرح التاريخ العالمي صاغ نيقولاي لينين، أبو البلشفية والعبقري المرشد للثورة الروسية، الإطار العريض للاستراتيجية والتكتيكات التي تبناها حزبه في التعامل مع الأقليات العرقية والشعوب التابعة داخل الإمبراطورية الروسية»، وأسهب جوزيف ستالين في بسط المسألة في كتابه عن «الماركسية والمسألة الوطنية والاستعمارية» (1913)، ولاحظ بادمور في نقاشه أن النتائج السياسية لسياسة لينين الوطنية والاستعمارية، ولا سيما منح حق تقرير المصير للقوميات غير الروسية، كانت ملهمة وذات نتائج نفسية على هذه القوميات وغيرها في الشرق، كما عزّزت جهود مواجهة القوى الرجعية التي كانت تتلقّى أموالاً من الحكومتين البريطانية والفرنسية.

ما بعد النص
ارتبطت مخيّلة النخب الأفريقية عن روسيا، في الفترة المعنية هنا، بطبيعة تكوين هذه النخب في «العالم الجديد» في ظل معاناة طبقية وعنصرية مزدوجة، ورؤيتها لأفريقيا وحاجتها إلى نموذج راديكالي للتحرر من قبضة قوى الاستعمار السياسية والاقتصادية والثقافية. واتّضح ذلك في رؤية غارفي توظيف الشيوعية الروسية، وارتباطاتها بالحزب الشيوعي الأميركي، لصالح قضيته الأولى: رفعة العرق الزنجي، وما تطور عن أفكاره لاحقاً في ما عُرف بالصهيونية السوداء التي التقت تماماً، سواء عن وعي أو بدونه، بمصالح الإمبريالية الأميركية، بتعريف نقد غارفي نفسه، في مأسسة مشروعات إعادة «الأميركيين الأفارقة» إلى «أرض أسلافهم»، وانحسرت رؤية غارفي للمشروع الروسي- الشيوعي، في مجملها، إلى رغبته المظهرية، التي طالما انتقدها ديبوا علناً في أكثر من موضع، في الزعامة وتبني خطاب شعبوي لم يفلح في التغطية على سياساته اليمينية حتى وفاته (1940).
واستكمل بادمور، المؤرّخ المعروف بارتباطاته الحركية اللصيقة بكل من الدولية الشيوعية والحزب الشيوعي الروسي ونظيره الأميركي، هذه المخيّلة الأفريقية في قفزات إلى الأمام بتقديم مشروع فكري شيوعي شبه متكامل بصبغة أفريقية مهمة في سياقها التاريخي وذروة حماسة حركات التحرر الأفريقي في القارة في الأربعينيات والخمسينيات. لكن بادمور لم يخرج، في مناهضة عملية للأفكار الشيوعية وتقارب مع مصالح الإمبريالية الأميركية، من دائرة «الصهيونية السوداء» التي ظل يدعمها، واعتبر، حسب خطاب مهم وجهه إلى ديبوا (3 كانون الأول 1954)، أن دعم اليهود لدولتهم نموذج يجب أن يحتذيه الأميركيون الأفارقة في مشروعات عودتهم لأفريقيا، في تعبير عن إعجاب مفرط ودائم بالتجربة «اليهودية» كما تجسد في موقفه المتحفظ إزاء تجربة ثورة يوليو التحررية بعد حرب السويس 1956.
عموماً، فإن ملامح هذه المخيلة تظل ناقصة مع تدارك حقيقة أن فكر هذه النخب الأفريقية «في الشتات» وتأثيراتها وامتداداتها داخل أجزاء من القارة الأفريقية تظل ضيقة وغير معبرة كلية عن «تيار أفريقي رئيس»، بل وتظل رؤيتها الرومانسية للقارة الأفريقية كـ«كتلة جغرافية وسياسية واحدة» اختزالاً مزمناً في فكر هذه النخب، وينسحب بالتالي على مخيّلتها لروسيا الشيوعية كنموذج أو حليف محتمل للقارة أو قوة كبرى غير إمبريالية.

* باحث مصري متخصّص في الشؤون الأفريقية