يتأكد يوماً بعد آخر أن قول الحقيقة مرٌّ، وتزداد مرارته في أوقات الحروب، ويختلط ويتداخل مع قضايا أخرى تتعلق بمعنويات الناس والمقاتلين والموقف من الشائعات والحرب النفسية التي يشنها العدو. هنا، يغدو الخيار صعباً بين التزام الصمت وقول الحقيقة، ولكن السكوت يقود إلى الكوارث كما تؤكد تجارب التاريخ، ولذلك لا بد من قول الحقيقة ولكن بطريقة حذرة تراعي الظروف الخاصة التي يعيشها البلد المعني.
فبعد مرور أكثر من أسبوع على استيلاء تحالف داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام) ومليشيات النقشبندية بقيادة عزة الدوري نائب صدام حسين ومليشيات أخرى على الموصل وتكريت ومدن أخرى، ومن خلال مراقبة دقيقة للأحداث، يظهر أن كلام الإعلام العراقي والصديق للعراق يبالغ كثيراً في انتصارات الجيش والقوات الداعمة له من العشائر. في المقابل، فإن الإعلام المعادي للعراق وللنظام الحاكم فيه بالغَ هو الآخر في أدائه المنحاز للمتمردين وفاحت الروائح الطائفية منه يميناً وشمالاً، حتى يمكن القول إن هذا الإعلام تكفل بشنّ حرب نفسية حقيقية لمصلحة داعش وحلفائه خرج فيها على كل القيم الأخلاقية والمهنية، وقد حازت قنوات «الجزيرة» القطرية و«العربية» السعودية و«الشرقية» التي يملكها أحد أقطاب إعلام النظام العراقي السابق، و«البغدادية» التي يملكها رجل أعمال عراقي ملتبس العلاقة مع الحكم، وتبث من مصر التي قررت سلطاتها الرسمية أمس الخميس 19 حزيران إغلاقها بشكل نهائي. وحتى فضائية «دبي» الحكومية التي كانت معادية لـ«داعش» لأنها مدعومة من غريمتها قطر، اختلف أداؤها وتخلت عن بعض الاعتدال والموضوعية اللذين كانت تتمتع بهما. وقد حافظت فضائيات عربية أخرى وخصوصاً الكويتية والمصرية والجزائرية على توازنها وموضوعيتها، ومع ذلك، فقد نجحت المؤسسة الأمنية العراقية من جيش وشرطة بدعم من بعض العشائر خلال الأيام الثلاثة الماضية في المحاور التالية:
ــ منعت سقوط مدينة تلعفر المختلطة والتي يقترب عديدها السكاني من نصف مليون، يشكّل التركمان الشيعة غالبيتهم، وحافظت على مصفى بيجي لتكرير النفط بجهد جهيد، وطهرت بلدات صغيرة عدة، وأوقفت تقدم المتمردين باتجاه بغداد وأبعدت المتمردين عن مركز سامراء لمسافة 20 كليومتراً.

لبعث الدوري دور
صغير ورمزي بهدف توفير الغطاء السياسي العربي والسعودي خصوصاً

ــ ألحقت القوات الحكومية وخصوصاً سلاح الطيران بالمتمردين خسائر فادحة بشهادة مراقبين أجانب، كما أحرزت نجاحات ملموسة ولكنها لم تخرج عن إطار التطويق وتوجيه الضربات.
ولكن الجيش لم يحقّق أي هدف هجومي استراتيجي آخر كالتقدم نحو الموصل أو تطهير تكريت مع أنه تقدم في أحيائها الشمالية منذ يومين. أي أنّ الجيش لم يتحوّل حتى الآن إلى الهجوم، وما يزال في حالة دفاع وتنظيم واستجماع القوى. فهل دخل الوضع حالة «الاستنقاع» السياسي والعسكري، ما ينذر بأن المعركة ستطول كثيراً كما توقعنا منذ البداية. لقد انكشف جيش ما بعد 2003 على حقيقته كمجمع مترهل لضباط مسنين يتسلمون رواتب وامتيازات ضخمة رغم أنهم لم يثبتوا كفاءتهم ولا إخلاصهم للمؤسسة العسكرية الجديدة، بل وانكشف بعضهم كأعضاء في خلايا نائمة بإمرة الدوري وداعش.
يلاحظ أيضاً، أنّ المؤسسة السياسية الحاكمة بقيادة «التحالف الوطني» بدت مشلولة ومذعورة، وما يهمها في كل اجتماع لزعماء الكتل هو كيل المديح لفتوى الجهاد الكفائي، ولم تُقدِم على طرح أي حلول أو معالجات سياسية واجتماعية أو إصدار قرارات قوية وتصالحية كالعفو عن سجناء أو ما شابه ذلك. وكان خطاب المالكي الأخير ميتاً سياسياً، وفيه إلحاح غريب على ضرورة بقاء «العملية السياسية» حيّة ومستمرة رغم أن هذه العملية هي التي قادت الى هذا الخراب الكبير والعواقب الوخيمة الأخرى المقبلة. أما قراره الذي صدر عصر يوم الخميس 20 حزيران وحوَّل فيه كبار الضباط من رتبة عميد فما فوق إلى الخدمة الفعلية، وأعتقد أن المقصودين بهذا القرار هم ضباط جيش النظام السابق ممن رُفِضَ قبولهم في الخدمة سابقاً، فهو قرار صائب من بعض الجهات ولكنه لا يخلو من المخاطر، وقد تأخر كثيراً وليس من المنتظر أن يغيّر كثيراً من واقع الحال على الأرض عسكرياً وسياسياً سريعاً.
من جهة أخرى، تؤكد شواهد كثيرة على الأرض، أن دور البعث أو للدقة دور الدوري ومليشياته النقشبندية، قد بولغ به وضُخّمَ كثيراً بعد أحداث الموصل وحتى الآن. فداعش هو الذي يسيطر عملياً على الأرض وينفذ برنامجه. دمر التماثيل والنصب، شكّل ثمان محاكم شرعية، وهذه التصرفات لا علاقة لها بتجربة وفكر البعث وعموم الأحزاب العراقية. فالبعث الصدامي أو الدوري مهما كان دموياً ودكتاتورياً ومشبوهاً في علاقاته الخارجية، ولكنه لم يبشر أو يمارس فكراً ظلامياً كفكر وممارسات داعش، وهذا ليس دفاعاً عن هذا الحزب بل محاولة لقراءة الواقع بموضوعية. وأخيراً فإن داعش هو الذي استولى على أموال المصارف، وهذا أمر لا يمكن لأية قوة أخرى لها وزن ملموس أن تسكت عنه. وأخيراً فإن مسلحي داعش هم من يقاتلون ويؤسرون ويتم تصفيتهم هنا وهناك ومن بين عشرات الكوادر العسكرية والسياسية هناك ثلاثة أسماء أو أكثر قليلاً من قوى أخرى غير داعش منها واحد من «كتائب ثورة العشرين» التي يتزعمها حارث الضاري. ولكن لبعث الدوري دور صغير ورمزي بهدف توفير الغطاء السياسي العربي والسعودي خصوصاً.
من هذا الواقع يمكن أن نستنتج أن ما يقال عن دور رمزي لداعش ودور كبير للبعث والعشائر وغير ذلك هو كلام مبالغ فيه إن لم يكن أوهاماً كبيرة ستضر بالعراقيين في هذه المدن الخارجة على سيطرة الدولة الآن قبل غيرهم.
بكلمات أخرى: إن ما يجري في الموصل والمدن الأخرى يعني أنّ داعش هو من «يستخدم» بعث الدوري وليس بعث الدوري هو من يستخدم داعش!
إن دور نائب الرئيس الأميركي جوزيف بادين وأقطاب العملية السياسية العراقيين في تنفيذ خطة تقسيم العراق ليس بخاف على أحد، ولكنه مغلف بعبارات لا تثير الشبهة. فمنذ يومين، ساد الجبهات وخطوط القتال في العراق هدوء مريب، حدث ذلك مباشرة بعد اتصال هاتفي أجراه بايدن بأقطاب المحاصصة الثلاثة المالكي والنجيفي والبارزاني. فهل وافق أقطاب المحاصصة الطائفية على مشروع بايدن لتقسيم العراق الى ثلاث دويلات طائفية. وما الدليل على ذلك؟
ــ إن المالكي مشغول عسكرياً بالدفاع عن المناطق الشيعية أو التي يشكل الشيعة فيها غالبية سكانية كتلعفر، وعن المناطق التي تمثل أهمية خاصة للشيعة كسامراء إضافة إلى أكبر مصفاة في البلد في مدينة بيجي.
ــ لا توجد أيّ عمليات تقدم أو تطويق أو تطهير للمدن التي سيطر عليها تحالف داعش والنقشبندية وآخرين، وحتى الطيران الحكومي لا يستهدف تجمعات داعش داخل هذه المدن، وهذا يعني أن المالكي ينفذ الجزء الخاص به من مشروع بايدن. البارزاني، من جانبه اكتفى بالدفاع عن المناطق ذات الغالبية الكردية بل وانسحب من قرية بشير التركمانية الشيعية وسمح لداعش بارتكاب مجزرة هناك، وواصل ضخ نفط الإقليم عبر تركيا إلى دول عدة منها إسرائيل، فهو يتصرف كرئيس دولة مستقلة منذ زمن طويل. أي أن البارزاني يقوم بتنفيذ الجزء الخاص به أيضاً. أما النجيفي فليس بيده سوى إصدار البيانات الرافضة لممارسات داعش والقيام بالزيارات الإقليمية وحضور الاجتماعات بين رؤساء الكتل، ولكنه أحبط محاولة إعلان حالة الطوارئ في بداية التمرد المسلح فهو إذن ينفذ الجزء الخاص به من ذلك المشروع الأميركي الإجرامي.
ثمة أيضاً تصريح البولاني وزير الداخلية السابق والحليف الجديد للمالكي، الذي أفاد بقرب شن هجوم كاسح على محاور عدة خلال الساعات المقبلة وقد مر على هذا التصريح وقت، ولم نسمع شيئاً عن هذا الهجوم الكاسح. ما معنى ذلك؟ وإلام ستنتهي ساحة تبريد الجبهات ضد المتمردين التكفيريين؟ الواضح أنّ دور المالكي يوشك على الانتهاء، فقد قام بحصته. الدليل على ذلك لا نجده في تصريحات كتلة آل النجيفي من أن «التحالف الوطني «الشيعي» بدأ البحث عن بديل له وقدم خمسة أسماء». فهذا التصريح قد يكون مبالغاً فيه، ولا يخلو من استباق الأحداث، بل نجد الدليل في رد فعل عصبي وحاد من قيادة كتلة المالكي «دولة القانون»، وجاء على شكل تصريح يوحي بأن واشنطن قررت فعلاً عدم التصويت للمالكي وطالبت باستبداله وقد جاء في تصريح أحد نواب هذا الائتلاف «إن الادارة او الكونغرس الأميركي ليس من حقه التدخل في شؤون العراق وفرض رأيه على العراقيين في اختيار رئيس الوزراء»، مشيراً الى ان «العراقيين يرفضون هذا المنهج ولن يكونوا عبيداً بيد اميركا أو دولة اخرى». حسناً، ها قد تذكر ائتلاف المالكي أخيراً أن أميركا تتدخل في الشأن العراقي... ولكن، ما الذي لم تتدخل فيه أميركا في العراق حتى الآن؟ ومن المتسبب بكل مصائب العراق طوال السنوات الماضية؟
آخر ما يمكن أن نختم به بخصوص تنفيذ مخطط بايدن لتقسيم العراق هو ما قاله مؤسس الجيش الإسلامي العراقي أحمد الدباش لصحيفة «ديلي تلغراف» يوم السبت 21 حزيران، وكشف فيه علناً خطوات تنفيذ التقسيم حين قال: «نحن نقاتل مع داعش جنباً إلى جنب فعدونا واحد ونستهدف إجبار المالكي على التنحي أولاً، ثم نتفاوض على تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق للحكم الذاتي». والدباش سجين سابق ساهم بدموية ندر مثيلها في الاقتتال الطائفي ضد المدنيين، ثم أطلق الاحتلال الأميركي سراحه بضغط سعودي كما تقول المصادر العراقية بسبب علاقاته القوية بمخابرات المملكة.
* كاتب عراقي