يعتبر الصراع الإيديولوجي السمة الأساسية للصراع بين الغرب الرأسمالي بقيادة أميركا والمعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي في فترة ما سمي بالحرب الباردة. فهو الساحة الأكثر تجسيداً لطابع الصراع الشمولي بين القوتين، حينما حسم الغرب الصراع لصالحه بسقوط الاتحاد السوفياتي اتجه العقل الغربي – الأميركي بالتحديد - إلى اعتبار ذلك السقوط انتصاراً حتمياً تاريخياً (مستورداً التعبير الهيغلي – الماركسي) لمدرسته الإيديولوجية ولمنظومته القيمية، لذلك اتجه لقولبة العالم كله - ومن ضمنه الوطن العربي - ثقافياً وفق هذه القيم فيما يصطلح عليه بالعولمة وأداته في ذلك الاختراق الثقافي.
الاختراق الثقافي في جوهره هو استهداف للقدرة الإدراكية الفردية والجمعية لدى الشعوب العربية بتسطيح الوعي لديها من أجل حملها على استيعاب القيم النيوليبرالية كالحرية الفردية وحقوق الإنسان ونهاية الايدولوجيا ونهاية القوميات... الخ باعتبارها مسلمات غير قابلة للنقاش أعطى التطور الهائل في عالم الاتصال والإعلام للاختراق الثقافي قوة استثنائية على اعتبار الإعلام هو من ابرز أدواته. في منطقتنا العربية لعب تمركز الثروة في منطقة الخليج التي تعتبر أساساً إقليمياً وظيفياً لمصلحة المشاريع الأميركية (مع الكيان الوظيفي الصهيوني) دوراً في تحويل الرأسمال الخليجي إلى أداة فعالة لصالح هذه المشاريع، خصوصاً بعد «الطفرة النفطية» في سنوات 1973-1974، وإن كان هذا الرأسمال الخليجي قد لعب دوراً كبيراً لجهة دعم المشاريع الاستعمارية في عز الحرب الباردة، مثل دعم خيار مصر السادات الاستسلامي، واختراق المقاومة الفلسطينية بدفعها لمعاداة سوريا باسم أوهام «استقلال القرار الفلسطيني»، ودعم عراق صدام للوقوف ضد إيران، إلا أن وظيفته قد تجسدت بشكل جلي من خلال الدخول على خط الاختراق الثقافي النيوليبرالي. وبدأت بالسيطرة على مواقع صناعة الوعي وتوجيه الرأي العام العربي من خلال الصحافة المكتوبة مثلاً: كبريات الجرائد العربية الصادرة في لندن وبعض البلدان العربية، أو مراكز دراسات، ودور النشر والأهم من ذلك سيطرتها على الفضاء الإعلامي السمعي البصري، استهدفت هذه السيطرة، من خلال برنامج مسطر لها من دوائر الاختراق الثقافي النيوليبرالي الغربي، ترسيخ أوهام القيم العولمية المعادية لمفهوم الدولة والمجتمع في أذهان المتلقين، عن طريق تزييف وعيهم لتقبلها كحقيقة مطلقة يكون هدفها الأخير هو الهيمنة ومنع أي نهضة عربية مستقلة.

استمرار العصبية
العشائرية والطائفية يُعتبر من أهم مظاهر فشل الدولة الوطنية بعد الاستقلال

يرسخ هذا الاختراق في ذهن المتلقي العربي وجود علاقة عضوية بين التنمية وبين الانخراط في المنظومة الاقتصادية النيولبراية العالمية القائمة على ترسيخ نظرية السيطرة للمركز المنتج والتبعية للأطراف، التي يقتصر دورها على توفير المواد الأولية واستهلاك ما ينتجه المركز. من هنا تأتي أهمية تسطيح الوعي وتنميطه من خلال السيطرة «الاشهارية» على الذوق الاستهلاكي للفرد، ما يؤدي حتماً لضرب الصناعة الوطنية (إن وجدت)، وتشجيع الاستثمارات ذات الطابع العقاري والمالي غير المنتج، ما يؤدي إلى خلق طبقات رأسمالية كمبرادورية مرتبطة بالخارج المهيمن، وكذلك ترسيخ مفهوم الديمقراطية اللبرالية كمرادف للنزوع الرأسمالي في الاقتصاد، والذي يعني استيراد «قوالب حداثية» جاهزة من غير إحداث عملية «التبيئة» الضرورية لهذا المفهوم في منظومتنا الفكرية، التي ما زالت محكومة بموروث تقليدي أساسه العشيرة والطائفة... الخ فتكون نتيجة هذا حتماً استمرار هذا الموروث نفسه بالتعبير عن نفسه، ولكن ضمن «مؤسسات حداثية». فيتحول الحزب السياسي مثلاً لمنبر للتعبير عن الطائفة أو العشيرة كما في كثير من البلدان العربية، والمجتمع المدني إلى طرف مواز للدولة ورافض لكينونتها وضاغط على أمنها وسيادتها بارتباطه غالباً بأجندة الخارج المسيطر، في خلط منهجي واضح ومتعمد بين مضمون السلطة السياسية ومضمون الدولة. وهذا يدخل في أولويات المشروع الامبريالي الأميركي القائم على استهداف الدولة الوطنية، وفي القلب منها وحدتها السياسية وترابط نسيجها الاجتماعي، الربط بين «الديمقراطية» والنهضة كان من الأوهام التي رسخها الاختراق النيوليبرالي في أذهان الناس. فهل يتخيل أي متابع أن الصين كان يمكن لها أن تتحول إلى ثاني قوة اقتصادية في العالم ومرشحة لأداء دور عالمي كبير لو أن «أحداث ساحة تياننمين» وصلت إلى مبتغاها في تقويض أسس النظام السياسي الصيني؟ يهدف الاختراق النيوليبرالي أيضاً، ومن خلال الفضائيات العربية الممولة من الرأسمال الخليجي إلى ترسيخ السلوك الاستهلاكي غير المنضبط في أذهان المتلقي من خلال قولبة وتنميط الذوق العام للفرد عن طريق ربطه بالنموذج الأميركي، المناقض للنظام القيمي العربي والقائم على حرية الفرد والاستهلاك المفرط والعنف... الخ. إن العولمة تهدف في الدرجة الأولى إلى إفراغ مفاهيم الدولة والوطنية ناهيك عن القومية من مضمونها للوصول إلى الهدف المحوري في المشروع الامبريالي الأميركي، وهو تفكيك الدول الوطنية بتحويل الاختلافات الاثنية والثقافية والدينية إلى تناقضات تستدعي التقوقع في هويات جزئية «تحت دولتية» في مواجهة أي نزوع نحو الوحدة أو الهوية الجامعة ،فتعمل وسائل الإعلام الممولة من الرأسمال الخليجي إلى تسفيه الفكر القومي والوطني والتقليل من شأن خيار المقاومة، مقابل تضخيم للحالات الطائفية وترسيخها في أذهان المتلقين.
ويهدف رأس المال هذا إلى توجيه الوعي الجمعي العربي نحو تقبل وجود الكيان الصهيوني من خلال عمليات إظهاره الإعلامي الممنهج للوجوه الإسرائيلية للوصول إلى حالة يترسخ معها التطبيع في إدراك الناس. ويمكن أن نعتبر، حالة القبول الجماهيري لاتفاقية كامب ديفيد في مصر والتي جاءت من خلال صناعة وهم الربط بين التنمية و»السلام» والعلاقة التضليلية بين إلغاء الاتفاقية وبين الحرب، نموذجاً صارخاً لهذا التوجيه. يستهدف الاختراق النيوليبرالي أيضاً الجيوش العربية باعتبارها الضامن لكينونة الدولة الوطنية وماهيتها من خلال الخلط المتعمد بين مواجهة الشمولية و»العسكريتارية» وبين استهداف المؤسسة العسكرية، كمؤسسة وطنية جامعة وعابرة غالباً للتناقضات الطائفية أو العشائرية أو الجهوية. ومن نافل القول تأكيد حقيقة أن رأس المال الخليجي باعتباره أداة من أدوات الاختراق الثقافي النيوليبرالي يمارس بالتوازي معه، لعبة مدروسة لاحتواء قوى الإسلام السياسي لمنعها من أي اتجاه نحو معاداة المصالح الأميركية ودفعها لمزيد من تبني الخيارات النيوليبرالية في الاقتصاد من جهة أو ردعها عن أي نزوع نحو العقلانية من جهة أخرى. يعبّر هذا الاحتواء، وإن بدا متناقضاً مع أهداف الاختراق النيوليبرالي عند البعض، عن حالة التناغم في الأهداف بين التيار الليبرالي وتيار الإسلام السياسي الرامية لتفكيك الدول الوطنية عن طريق ضرب الجيوش وإحداث الشروخ في الأنسجة الاجتماعية للشعوب العربية بترسيخ الطائفية وتقسيم المجتمعات العربية تقسيماً عمودياً على أساس علماني - ديني، يحرمها من أي تدافع ذي مضمون اجتماعي واقتصادي يشكل الرافد الجوهري للتنمية والنهضة.
لقد لعب احتكار الثروة العربية في الوطن العربي في يد كيانات وظيفية لمصالح المشاريع الاستعمارية البريطانية ثم الأميركية - هي الأقل مساهمة في المجال الحضاري العربي - إلى توجيه النخب الثقافية بما فيها بعض اليسارية والقومية نحو الترويج للمفاهيم النيوليبرالية واختراق الوعي والعقل العربيين، بما يخدم أجندات المشروع الامبريالي الأميركي في المنطقة بالقبول الطوعي بالهيمنة الأميركية وبمشروعية الوجود الصهيوني في هذا المشرق. وليس أمام أي مشروع ثقافي نهضوي من خيار سوى إحداث القطيعة الشاملة مع كل فكر يحمل شبهة التعاطي مع مصادر التمويل الخليجية، وبتأكيد الحفاظ على ماهية الدولة الوطنية المدنية وكينونتها (سوريا نموذجاً) وعلى خيار مقاومة مشاريع الهيمنة الاستعمارية وبعث مشروع نهضوي قائم على الهوية الجامعة وعلى المواطنة الرافضة لكل البنى الاثنية والثقافية والدينية التقليدية المتحكمة في منظومتنا الفكرية، وعلى الاستقلال التام عن المنظومة النيوليبرالية العولمية.
* كاتب جزائري