نزعة علمية شديدة الصرامة ميّزت الحركة الصهيونية في قراراتها وسياساتها. الجيل الصهيوني الأوّل، المؤسّس، كان يستند إلى الدراسات العلمية المتخصّصة عند رسم خططه وبرامجه. هذه «العلميّة» والعقلانية أفادتهم كثيراً بلا شك وجعلتهم ينجحون في تحقيق أهدافهم، وخصوصاً أن الطرف الآخر في مواجهتهم، العربي، كان يتصرّف بطريقة انفعالية حماسية في أكثر الأحيان. الصهاينة الكبار، من أمثال وايزمان وبن غوريون كانوا يقومون بتقدير موقف، وحسابات ربح وخسارة، ودراسة الاحتمالات، ووضع خطط بديلة وسيناريوهات محتملة، ويدرسون الإمكانات المادية والتفاصيل العملية عند اتخاذ قراراتهم. وهذا ما جعلهم «واقعيين» إلى أقصى حد، وإلى درجة إسقاط الاعتبارات الإنسانية، أو جعلها ثانوية، من حساباتهم. لديهم هدف وخطة تمت دراستها وانتهى الأمر، ولا مجال للعواطف بعد ذلك. هم درسوا ويعلمون ما هو الأصوب، وعلى «العامة» التنفيذ. قسوتهم هذه وصلت إلى حدود ممارسات لاإنسانية قاموا بها تجاه رعاياهم، إن جاز التعبير، من اليهود الذين ادّعوا تمثيلهم والدفاع عنهم.فيما يلي نستعرض خمسة نماذج لتوضيح ما نقول:
نبدأ من موقف بن غوريون أثناء مناقشة «قانون العودة» في الكنيست. مباشرة بعد إعلان قيامها أقرّت إسرائيل ما يسمّى بـ«قانون العودة لليهود»، وهو الذي يسمح لأي إنسان يهودي حول العالم بالقدوم في أي وقت كمهاجر إليها والحصول فوراً على الجنسية الإسرائيلية. واستناداً إلى سجلات الكنيست الإسرائيلي، فإنه أثناء مناقشة مشروع القانون أصرّ زعيمهم الأكبر ديفيد بن غوريون على إضافة فقرة ملحقة بالقانون تسمح للحكومة بعدم قبول أي شخص تشتبه أنه «يسبب خطراً على الصحة العامة». وعندما قال أحد الأعضاء إن على إسرائيل من ناحية أخلاقية قبول جميع اليهود بدون استثناء، حتى المرضى منهم، رفض بن غوريون بشدة وأكّد على «النوعية» المطلوبة من المهاجرين اليهود. أصرّ بن غوريون أنّ المهاجر المطلوب هو «مهاجر منتج»، أي «القادر على المساهمة في مشروع بعث الدولة اليهودية». نجح بن غوريون في فرض رؤيته، وبعد أن تمّ تمرير القانون بالصيغة التي أرادها، قدّم شرحاً لموقفه، فقال: «عندما لا يكون اليهود في بلدٍ ما مهدّدين بالإبادة، لا ينبغي على الدولة أن تقبل بقدوم المرضى وكبار السن. فقط في حالات خطر الإبادة يمكن أن نسمح لهؤلاء بالهجرة».
وفي تشرين الثاني 1951 أقرّت الحكومة الإسرائيلية، بالتعاون مع الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية، سياسة «المعايير» لاختيار المهاجرين اليهود القادمين إليها. ونصّ القرار على ما يلي: أن يكون 80% من المهاجرين من الشبان والشابات الرواد (العزّاب) أو من المتزوجين من ذوي الحرف والمهرة ممن أعمارهم دون الــ 35 عاماً، على أن يلتزموا كتابياً بالموافقة على العمل الزراعي لمدة سنتين على الأقل. الــ 20% الباقية هم ممن لا تنطبق عليهم المعايير أعلاه، ولكن لهم أعضاء عائلة (أقرباء) موجودون في إسرائيل وقادرون على إعالتهم.
على أن يخضع جميع المرشحين للهجرة لفحوص طبية شاملة للتأكد من انطباق المعايير الصحية عليهم.

وفي كتابه «JEWS in ARAB COUNTRIES: The Great Uprooting» يتحدث الكاتب الفرنسي من أصل يهودي مغربي، جورج بن سوسان، عن المرحلة الأولى من هجرة يهود المغرب التي بدأت عام 1949، والتي كانت تتم بتنسيق وترتيب مع سلطات الحماية الفرنسية. فيقول إن حكومة إسرائيل عبّرت عن استيائها من «نوعية» المهاجرين اليهود الذين بدؤوا يصلون إليها. ومن ثم قامت بتعيين طبيب محترف، اسمه فجرمان، وأرسلته إلى المغرب ليتولى مهمة «انتقاء» من يهاجر من أوساط اليهود ومن يبقى. وكان الدكتور فجرمان صهيونياً متعصباً ومقتنعاً بأن «إسرائيل ينبغي أن تستقبل اليهود الأصحاء الذين سيفيدون الدولة، وليس الذين سيكونون عبئاً عليها». بدأ فجرمان عمله باستبعاد جميع المتقدّمين للهجرة ممن تبيّن إصابتهم بأمراض السفلس والتراخوما والسّل، بشكل فوري، قبل الانتقال إلى بقية المعايير. نشاطات الدكتور فجرمان والعمل الذي قام به أثارت سخط السلطات الفرنسية ما دفع مدير الخدمات الطبية في سلطة الحماية الفرنسية إلى الكتابة لرؤسائه: «إن المسؤولين الصهاينة ينتقون المهاجرين الذين هم بحالة صحية ممتازة، ويتركون المرضى والعجزة لنا».
أصرّ بن غوريون أنّ المهاجر المطلوب هو «مهاجر منتج»، أي «القادر على المساهمة في مشروع بعث الدولة اليهودية»


عام 2006، نشرت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية قصة تبعث على الأسى من أيام هجرة يهود المغرب في الخمسينيات. في تلك الفترة كان مبعوثو «الموساد» المكلّفون بملف الهجرة يجولون في مناطق سكن اليهود في المغرب ويزورون العائلات ويقومون بإقناعهم بالهجرة عن طريق الوعود بحياة أفضل بعد أن يبهروهم بالحديث عن إسرائيل وكم هي جميلة ورائعة. والقصة تدور حول عائلة مكونة من ستة أطفال وأمهم الأرملة التي زارها مندوب «الموساد» الصهيوني واتفق معها على تفاصيل الهجرة. وبالفعل قامت المرأة ببيع أثاث بيتها البسيط وكل ما تستطيع بيعه استعداداً للرحيل النهائي. وعندما حضر المندوب في الموعد المحدد لاصطحابهم فوجئت المرأة المسكينة به وهو يخبرها بأنه لن يصطحب اثنين من أبنائها! فالمندوب لم يكن يعلم أن من بين الأطفال الستة كانت طفلة تعاني من نوع من الشلل في ساقيها، وولد يعاني قصوراً عقلياً. وهكذا قام بإخبارها في آخر لحظة أن التعليمات التي لديه تمنع هجرة المرضى والمعاقين، وبالتالي عليها أن تترك الطفلين وتهاجر مع بقية الأطفال! هكذا بكل بساطة قال لها المندوب الصهيوني: اتركي هذين المعاقين هنا، ولتهاجري مع البقية! لم تصدق الأرملة المسكينة ما يحصل وشعرت بهول الصدمة ولم تلبث أن انفجرت بالبكاء الشديد وهي تستعطفه أن يسمح لها بأخذ كل أولادها معها. ولمّا رفض وبقي على جموده صرخت في وجهه بأعلى صوتها أنها لن تترك طفليها خلفها، وليذهب هو إلى الجحيم! وبالفعل غادر المندوب الصهيوني وبقيت المرأة تبكي بحرقة بعد أن أصبحت بلا مأوى ولا أثاث ولا شيء سوى أطفالها البائسين، مثلها تماماً.
ولا بد أيضاً من الحديث عن «عملية مورال» التي نفذها «الموساد» في المغرب عام 1961. وملخّصها هو أن إسرائيل قامت بنقل 530 طفلاً من يهود المغرب (أغلبهم بسن 10 إلى 12 سنة؟، وإن كان بعضهم بعمر 7 سنين!) إليها، وحدهم دون أهاليهم. فصل، بطريقة ما، الأطفال عن أهاليهم ونقلوا إلى سويسرا على أساس «الالتحاق بمعسكر للنشاطات الصيفية» ومن هناك نُقلوا إلى تل أبيب. واليوم، تعترف إسرائيل بهذه العملية ولكنها تعرضها بفخر على أساس أنها عملية «إنقاذ» لهؤلاء الأطفال اليهود! أسئلة كثيرة تُطرح بهذا الشأن: أي خطرٍ كان يتهدّد الأطفال (واليهود بشكل عام) في المغرب عام 1961؟! لم يكونوا يتعرّضون غلى هجمات ولا اعتداءات ولا أي شيء، بل كانوا يتمتعون بالحماية التامة والرعاية من أعلى المستويات في البلد (الملك). فما الذي يستدعي فصلهم عن أهلهم ونقلهم بتلك الطريقة المريبة إلى «إسرائيل»؟ ثم كيف تم فصلهم عن أهلهم؟ كيف قبلت أمهاتهم أن يذهب أبناؤهنّ ويبقين؟ هذا أمر مخالف للفطرة الإنسانية ولا يمكن تفسيره بأنه تم «إقناع» الأهالي والأمهات بذلك. من المؤكّد أنه تم خداعهنّ أو تضليلهنّ بطريقة ما، أو بالتهديد والضغوط. لا يمكن أن يكون الأمر قد تمّ بشكل طبيعي وسلس. والأطفال أنفسهم يستحيل أن يقبلوا بترك أهلهم والسفر إلى بلد بعيد لا يعلمون عنه شيئاً، إلا أن يكونوا خُطفوا أو شيء من هذا القبيل.
ونختم بمثال من ليبيا: في المرحلة الأولى من عملية هجرة يهود ليبيا، والتي كانت تتم بالتنسيق مع السلطات البريطانية، حصلت إعاقة مفاجئة في تدفّق اليهود المهاجرين كان سببها الجانب الإسرائيلي الذي صار يطلب معالجة اليهود المصابين بمرض التراخوما وغيره قبل أن يركبوا السفن للهجرة. كما أنّ إسرائيل رفضت استقبال 800 من كبار السن وطلبت من سلطات بريطانيا أن يهاجر اليهود «اللائقين صحياً» فقط. ولكن الذي حصل أنّ اليهود الشبان والأصحّاء رفضوا أن يهاجروا من دون أن يصطحبوا معهم أقرباءهم من المرضى وكبار السن، فاضطرت إسرائيل للموافقة في النهاية.
ليس هناك مجال للمشاعر والعاطفة عند عتاة الصهاينة. البشر عندهم أدوات وأرقام ووسائل يتم استعمالهم لتحقيق الهدف المرسوم. ولو كان هناك بُعد أخلاقي أو إنساني في عملهم، كما يدّعون، لما كانوا مهتمين فقط بالشبان والأصحاء من اليهود الذين يمكن الاستفادة منهم كجنود وعمّال ومزارعين، بينما المرضى وكبار السن «لا داعي لهم»!

* كاتب و باحث من الأردن