لم يكن ممكناً لأية دولة في العالم أن تحتمل قضية مصير نظام الحكم لأكثر من عشرة أعوام، أو أن تتبدى في مناخها السياسي أشباح المجهول من دون أن يكون هناك حسم. كان الرئيس الأسبق حسني مبارك يدرك - بخبرة الحكم الطويلة - الكلفة السياسية الباهظة للتوريث، وما قد يلحق بنجله الأصغر من مخاطر، لكنه ترك كل شيء يمضي، كأنه قدر مقدر. ذات مرة قال: «لن أضع ابني في الجحيم بيدي»، لكنه لم يبعده عملياً عن مرمى الجحيم ومخاطره. إحدى الحجج، التي ترددت تفسيراً لـ«التوريث»، أنه يضمن سلامة الأسرة بعد غياب الأب من ملاحقات قد تتعدد صورها. كان ذلك الاعتقاد بالذات العقدة الكبرى في قصة التوريث، وقد دفع ثمنه باهظاً.كان من شبه المؤكد أن مبارك لن ينقل السلطة في حياته لنجله، ما دامت صحته العامة تمكنه من أداء أدواره، فهو باق في منصبه حتى «آخر نفس وآخر نبض» بنص تعبيره، غير أن الضغوط العائلية تصاعدت عليه لنقل السلطة في حياته، لأنه إذا لم يحدث ذلك فلن تصل السلطة إلى نجله أبداً. بالوقت نفسه، كان نجله الأصغر يتحدث من حين لآخر عن نظام سياسي جديد، بينما هو موجود وفاعل بحقائق النظام الذي يترأسه والده، وهو نظام فردي، ولو لم يكن ابناً للرئيس لما كان له أية أدوار سياسية يعتد بها. بقوة الأمر الواقع أخذ جمال مبارك يمارس فعلياً صلاحيات رئيس الجمهورية في رسم السياسات العامة، يقرأ التقارير السيادية، يتابع أعمال الجهاز التنفيذي، ويتخذ قرارات استراتيجية على درجة عالية من الأهمية والخطورة.
لخّص «مشروع توريث الجمهورية» من «الأب» إلى «نجله الأصغر» أزمات النظام كلها ووضعه مباشرة أمام النهايات المحتمة. كان ذلك المشروع تعبيراً عن سطوة رجال الأعمال المتنفذين في صلب القرارين الاقتصادي والسياسي بزواج السلطة والثروة. في لقاء ضم عدداً من السفراء الغربيين رصدوا انتقال الطبقة الجديدة للسكنى في منتجعات تحيط بالقاهرة الكبرى، ومدى انعزال طبقة الأثرياء الجدد، التي تفتقد أغلبها «شرعية الثروة»، وأنها قد أصبحت منفصلة بثقافتها ومدارسها وجامعاتها وارتباطاتها الدولية عن المجتمع الطبيعي الذي تعيش قطاعات غالبة فيه تحت خط الفقر وتسيطر عليه ثقافة العشوائيات. مال السفراء الغربيون إلى سيناريو يرجح موجات فوضى في العاصمة المصرية يتدخل الأمن لسحقها بكل عنف وشراسة، مع بقاء الأثرياء الجدد في مأمن بعيد عن حرائق الغضب. وفق السيناريو الغربي كان الأمن والتوسع في دوره وحجمه من مقتضيات صيانة مصالح وثروات الطبقة الجديدة التي تمثل الظهير الاجتماعي لنظام الحكم. شيء من ذلك التوقع، الذي نشرته بحروفه في حينه، حدث مع تعديل لم يخطر ببال أحد وهو سيناريو الثورة الشعبية.
أخطر ما كان يحدث في مصر: الزواج السياسي بين سيناريو «التوريث» و«أباطرة الفساد».
كان الفساد في مصر قد تجاوز انحرافاً هنا بالسلطة ونفوذها، أو تجاوزاً هناك في مقتضيات قواعد النزاهة والكفاءة والشفافية، أو رشى تدفع بالملايين، أو وقائع نهب صريح للمال العام، إلى «الفساد المنهجي»، أو «الفساد المقنن» بلوائح ونظم وبالخاتم الرسمي. أخذ الفساد المقنن ينحر في البلد وثقته في نفسه وقدرته على الإمساك بمقاديره. وفي مناعة البلد وقدرته على التغيير، كأنه أصيب بضربة قاسية على عموده الفقري. كان ذلك صلب الأزمة المصرية المستحكمة، التي أفضت تداعياتها إلى إطاحة النظام كله وإزاحة سيناريو التوريث من فوق المشهد السياسي.
هذا ما تتوجب مراجعته الآن حتى ندرك الحقيقة كما جرت فعلاً، لا كما حاول «الوريث القديم» أن يصورها. في شريط تلفزيوني مسجل قال إن عائلته جرت تبرئتها بحكم قضائي أوروبي. بمقتضى ذلك الحكم تم الإفراج عن أموالها المجمدة في بنوك أوروبية. لم تكن هناك براءة بالمعنيين السياسي والأخلاقي، لا للأب ولا لعائلته. ما حدث بالضبط أنه لم تكن هناك كفاية في الأدلة على خلفية إهمال جسيم في تقديمها للمحكمة الأوروبية. هذه مسألة تستحق التحقيق في مسؤوليتها. ثم: من أين لك هذا؟ لماذا أودعت الأموال في البنوك الأوروبية لا المصرية؟
الأخطر من ذلك كله توحش الفساد في بنية الدولة على نحو غير مسبوق. تماهى نظام مبارك مع مصر، كأنه يملكها ويقدر على توريثها، بل أخذ يكتبها على اسمه! بحسب إحصاء أجرته صحيفة «دير شبيغل» الألمانية قرب نهاية عصر مبارك فقد كان هناك 2600 مشروع و400 مدرسة تحمل اسمه! وهي أرقام تكشف عن نزعة ملوكية مستحكمة. كان عام 2005 نقطة تحول جوهرية في أزمة نظام الحكم. أدار الابن الانتخابات الرئاسية التي خاضها والده، وفرض هيمنته على المشهد السياسي. بدا الأب شبحاً من الماضي أرادت مسحة الدعاية أن تضفي عليه حيوية الشباب. كان كل شيء يوحي بأن نقل السلطة من الأب إلى الابن مسألة وقت.
في المؤتمر السنوي الثالث للحزب الوطني الذي التأم بنفس العام أخذ نجل الرئيس وأمين أمانة السياسات، وموقعه لا يخوله حق الحديث باسم الحزب وتوجهاته في مؤتمر صحافي عالمي، يتصرف كرئيس فعلي للبلاد، أو كرئيس مواز، منتشياً بإنجازاته في الانتخابات الرئاسية (!) التي بنى خلالها جهازاً انتخابياً حزبياً اعتقد أنه قوي وقادر على حسم الانتخابات التشريعية التالية.
لم ينف جمال مبارك – للمرة الأولى – في تصريحاته الصحافية احتمال ترشحه للمقعد الرئاسي في انتخابات عام 2011. قال إن «السؤال افتراضي، ولا يمكن الإجابة عنه في الوقت الراهن، لأن أحداً لا يعرف ما سيحدث بعد ست سنوات». لم يكن أحد يعرف فعلاً! خلافاً لتصريحات سابقة لم يستبعد خلافة والده. في نفس المؤتمر الصحافي قال إنه يرفض التوريث مثل المعارضة. أراد أن يقول بالالتفاف إنه سوف يترشح للانتخابات ويحتكم لصناديق الاقتراع، وأن الرئيس لن يعينه في المنصب. كان ذلك اقتراباً غير مسبوق من سيناريو «التوريث». حاولت فكرة التوريث أن تنسب نفسها لمشروع إصلاح سياسي طال انتظاره، غير أنها تصادمت مع الحقائق، فأي إصلاح ممكن في بنية النظام ينهي بالتداعي سيناريو «التوريث»، حيث يستند الابن في أدواره المتعاظمة التي يلعبها على علاقة الدم مع الرئيس. كان لافتاً في المؤتمر الرابع الصورة التي ظهر عليها جمال مبارك كرئيس فعلي يطرح التصورات والتوجهات الرئيسية، قبل أن يبدو الرئيس نفسه في خطابه الختامي متبنياً كلمات وتوجهات الابن وبنصوصها، في رفض الشرق الأوسط الجديد وتبني الاستخدام السلمي للطاقة النووية، من دون أن تسندها سياسات تضفي عليها شيئاً من الجدية والصدقية.
ظهر لكثيرين أن المؤتمر الرابع للحزب الوطني انطلاقة جديدة لسيناريو «التوريث»، فهو مؤتمر «الرجل الواحد»، وفكرة المؤتمرات السنوية نشأت - أصلاً - لتسويق صورة نجل الرئيس ودفعه خطوة بعد أخرى إلى مقدمة المسرح السياسي. كان ذلك انقلاباً معلناً على النظام الجمهوري. أسوأ ما جرى بعد ثورة يناير غياب أية مساءلة سياسية. لا فتحت ملفات ولا روجعت وثائق. في غياب المساءلة السياسية اختطفت الثورة وأطل الماضي مجدداً.

* كاتب وصحافي مصري