ليعذرني الربيع العربي وليعذرني كلُّ محبيه ومنظريه ومشجعيه ولتعذرني الثورات العربية الملونة وغير الملونة، النقية السلمية منها أو تلك التي صبغت الشوارع العربية بدم أبنائها الأبرياء. لتعذرني كل الثورات التي أطاحت بطغاتها في يوم وليلة، أو تلك التي أصابها الاستعصاء بسبب حمولتها الزائدة من التبعية والارتهان والارتزاق، أو تلك الثورات المرتدة التي نقضت ثورات مشبوهة، أو تلك التي ركبها الأغراب وتاهت في الأزقة والحارات الضيقة للفقراء بعد أن ضيعت طريق الظلمة والطغاة.
ليهدأ اليسار العربي وليهدأ منظروه ومفكروه وثواره القدامى المتقاعدين، العاملين حالياً بصفة منتحلة كمحللين ثقاة أفذاذ يرصدون حركة التاريخ وكلاعبي سيرك سياسي على حبل دقيق يتأرجحون فوقه من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين بحسب رغبة البترودولار ومشيئته. ليعطونا حيزاً مستقطعاً من وقتهم قبل أن يستمروا بتبشيرنا بحركةٍ هادرةٍ للتاريخ في المنطقة وتسليفنا مع أولادنا والأجيالَ المقبلة عقودَ خرابٍ وفوضى وتدميرٍ ودماء تصاحب كل الثورات الشعبية، وكل مفاصل التاريخ، وقتَ انزياح الجغرافيا وتبدل الخرائط مستشهدين بالثورتين البريطانية والفرنسية.
ليكفَّ قليلاً دعاةُ الديمقراطية وحقوق الإنسان وأصحاب المجتمع المدني عن إطلاق شعاراتهم ضد الطغاة ولتتوقف الجوقة عن عزف نغمَها «العولمي» الموحد ذي «الريتم» الرتيب الذي يعلو ويتهادى بحسب مايسترو «الهوا الغربي» وعلى سلمه الموسيقي.
ليهدأ الجميع وليمنحونا وقتاً وجيزاً نقتطفُ من أمسِنا القريب شيئاً مميزاً ننقشه للتاريخ، ننقشه على عقول أدمنت التبخير اليومي للحوادث الجسام من تاريخ المنطقة فلم تعد قادرة - مع كمِّ التاريخ المكثف اليومي الهائل - على رصِّ قطعِ تسلسل الأحداث في لوحةٍ معبرة واحدةٍ. أولئك الذين سخروا من مصالحات الطغاة، ووصفوها بالمسرحيات الكوميدية، فقادوا بلدانهم إلى ساحات تراجيديا وملهاة لا تصدق. ليترك لنا الجميعُ أن نتحدث قليلاً عن طغاتِنا... ولنناقش الدهرَ في مصائرهم، ولنعاتب من ساعد في سوق أقدارهم القاسية، وحضّرَ الكوارث والعقبات في طرقهم، ولنمسك من عنقه، كلَّ من شكّل الجوقةَ والرديدة في الغناء على نهاياتهم المأساوية العاثرة. ما كان لكلٍّ من شكسبير وهو يخطُّ مسرحيته الملك لير، أو لسوفوكليس وهو يرسم خطوط بطله أوديب في أساطيره الإغريقية، أو لهوميروس العظيم في الإلياذة والاوديسة، ما كان لهم جميعاً أن يجدوا قصةً تحاكي في دراماها وتراجيديتها وتناقضاتها وعبث الأحداث وصخب النهايات الصادمة فيها، كما سيجدونها ماثلةً أمامهم في ميثولوجيا الطاغية الذي سنتناوله في هذه الأسطر القليلة. ميثولوجيا تسوقُها الأقدارُ، بشكلٍ مذهل غير معقول وغير متوقع.

كل المآخذ التي تسجل
على القذافي قد تكون أحياناً هي ذاتها أفضل ايجابيات شخصيته الخلافية

ليس دفاعاً عن الطغاة وليس لتقديسهم ولكن هو رصدٌ لأقدارهم القاسيةِ، ولتسجيلِ العبر ومحاكاة التاريخ، ومناقشة أولئك الذين ساقوا تلك الأقدار إلى بلادهم من دون دراية بالنتائج الآتية. أقدم ذلك كما يقرأ هواة الأساطير الإغريقية واليونانية مصائرَ الأبطال الغريبة، ويتعجبون من الخطوط التي ترسمها صراعات الآلهة المتنافرة في عالم الأساطير، ويتعاطفون مع نهايات أبطالهم المؤلمة، من دون أن يؤمنوا بعوالم الأساطير أو آلهتهم العجيبة المتحاربة، وإن كانت دروس التاريخ حاضرةً يعيدها القدر في كل فترة بشخوص جديدة على المسارح ذاتها. سننتقي من ميثولوجيا (أساطير) حياة القذافي بعض النثرات المتفرقة:
الشاب العشريني المترقي لرتبة ضابط عقيد ساقته أقداره وهو يقود ثورة الفاتح من أيلول عام 1969 مع ثلة من رفاقه الضباط الليبيين متمثلين التجربة المصرية، تجربة الضباط الأحرار في مصر بقيادة جمال عبدالناصر وقيامهم بثورة 1952، كلتاهما أطاحتا بالملكية في كلا البلدين. على الملك فاروق في مصر وعلى الملك إدريس السنوسي الأول في ليبيا.
معمر محمد عبدالسلام بن حميد أبومنيار القذافي من قبيلة القذاذفة نشأ كما تحكي كل الأساطير من عائلة بدوية فقيرة في قرية تسمى «جهنم»، ودرس وكدح وتأثر بكل التجارب القومية العربية. فقرأ الفكر القومي العربي من كتابه الكبار في سوريا ومصر، وناضل في شبابه لتحقيق جزء مما قرأه، وذهب في بعثات دراسة - وهو ضابط - إلى بريطانيا إبان الحكم الملكي السنوسي ليعود بعدئذٍ ويخطط لثورة بيضاء (قبل أن تصبح خضراء) مستفيداً من خروج الملك السنوسي للذهاب في رحلة استجمام إلى اليونان وتركيا، لتتحول ليبيا من ملكية دستورية تحت الهيمنة الغربية المتمثلة في القواعد الأميركية إلى جمهورية عربية ليبية شكلت دعماً حقيقياً لحركة التحرر العربي بعد هزيمة 1967. إذ طردت القواعد الأميركية وعملت على رفع عوائد النفط الليبي من 50 في المئة إلى ما يقارب 79 في المئة. وبدأت بإجراءات استملاك شعبية ثورية.
إنَّ من قالَ للقذافي ذاتَ يومٍ: «ليش أنتْ من جابك... صحيح قللي أنتْ من جابك؟».
كان الحريُّ به أن يسألَ نفسه وأن يتذكر ما سمعه من والده عن أولئك الذين مهدوا لهم الحكم وجلسوا معه على باخرة كبيرة، وأخذوا عليهم المواثيق الغلاظ، أنهم سيملّكونهم الحكم بشروط، فلا يكاد يأتي ملكٌ جديد إلاّ ويقدم مبادرةً عربيةً جديدةً (كسابقاتها في فاس وبيروت) لتتفضل الدولةُ الراعيةُ الحاميةُ، صاحبةُ الكرسي العالي في واشنطن بالموافقة على الوافد الجديد.
إن القذافي الذي أسمى بعضَ أنجالهِ سيفَ العرب وسيفَ الإسلام، جاءته ضربات الغدر والخيانة من أهل سيوفه المذكورة على التوالي، تخلى عنه العرب في محنته الأولى مع ريغان، عندما طبقوا الحصار عليه وفق الوصفة الغربية الأميركية لقرابة عقد من الزمن، حتى كفر المسكينُ بالعروبة والعرب، قبل أن يشترك الجميع عربهم ومسلميهم في توجيه ضربة الغدر الأخيرة القاضية وكأن حلقتهم حوله كتلك التي أحاطت بيوليوس قيصر، وسفكت دمه على يد أعزّ أصدقائه. والحقيقة أن نهاية القذافي اشترك فيها الجميع (إن تقصيراً وإهمالاً أو نقص رؤية أو لتقديمِ درسٍ كارثي أول أو لتآمر وخيانة)
لقد تقاعست الدول العربية (التقدمية) بما فيها سوريا والجزائر ولبنان واليمن وسجلت انسحاباً مخزياً أو صوتاً خافتاً لم يسمع، أو غياباً في وقت غير مبرر، ولم يدركوا جميعاً أو فرادى أنّ المحطة التالية آتية سريعاً إلى ديارهم. لم يكن لإيران دوراً أقل انسحاباً أو تخاذلاً مما فعله السابقون رغم أنّ القذافي لطالما راعى العلاقات الثنائية ووقف مع إيران في مفاصل تاريخية معروفة مهمة، كان للإيرانيين أحصنتهم في السباق الجاري قبل أن تخذلهم حصائدُ القوافل الإسلامية الأولى.
القذافي الذي شرّع أبوابَه طوال فترة الثمانينيات لكلِّ ثوار العالمِ ومنهم الفلسطينيين واحتضنَ حركاتِ التحررِ الفلسطيني (الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية - القيادة العامة) قبل أن يصلَ إلى خلاصته التي رماها ذات يومٍ في وجوهِ كل فدائيي العرب: «إن ثوار فلسطين لا يعاملونا إلاّ كما يعاملوا جهاز الصراف الالكتروني»، الرجل قدم لفلسطين كما لم يقدم كثير من العرب.
القذافي الذي قاد الثورة وغيّرَ شكلَ الدولة الليبية أكثرَ من مرة، وكانت كلُّ تسميةٍ جديدة وتوجهٍ جديد علامةً فارقة على صدمة «إغريقية» جديدة، عمل على توحيد البلاد ورفع المستوى المعيشي لليبيين بشكل ملحوظ، وأعلن سلطة حكم الجماهير في نظرية عالمية ثالثة موازية للرأسمالية والماركسية. الرجل الذي شكلّ اللجان الثورية في المجتمع القبلي الليبي للعمل على رفع المستوى الثوري لشعبه، كان هو ذاته ضحية شعبه ورفاقه في ثورة مُركّبةٍ فصلها «الناتو» واجتمع فيها غدر الأقرباء والأصدقاء والحلفاء وكلَّ من هبّ ودب.
قبِلَ الرجلُ أن يكونَ وزيرَ دفاعٍ في أي بادرة وحدة عربية، وانتقل من فشل لآخر فشل مع تونس بورقيبة وكذلك مع سوريا والعراق ومصر والأردن... الرجل كان عروبياً متأثراً بكل التراث العربي التقدمي قبل أن يتبنى خطاباً إسلامياً «أخضر»، وأصبح داعية ومبشراً إسلامياً وينتقل لبسط نفوذه في القارة السمراء، ويستطيع في فترة وجيزة أن ينشأ الاتحاد الأفريقي ويتمتع بنفوذ واسع فيه، خصوصاً بعد أن نجح الأفارقة - حيث فشل العرب - في فك الحصار الأميركي عن ليبيا في التسعينيات.
إن كلَّ المآخذ والمثالب التي تسجل على القذافي قد تكون أحياناً هي ذاتها أفضل ايجابيات شخصيته الخلافية، (الكتاب الأخضر، نظرية إسراطين، هوس الرجل وشخصيته الهستريائية، طريقة لباسه وعيشه، تقلبه الإيديولوجي...) ستخضع حتماً لاسترجاع من الأجيال المقبلة التي سيصدمها الواقع، وستنبش عن نوستالجيا الحنين للمشاريع الماضية والكاريزمات السابقة.
ما يسجل للقذافي أنه حارب الإمبريالية الأميركية ما وسعته قدرته، لم يكن الرجل في سعيه إلاّ صادقاً، قبل أن تخذله ظروفُه ومحيطه وشركاؤه وأصدقاؤه، بعد أيام قليلةٍ من نهاية صدام المأساوية رفع راياته البيضاء المهادنة المنكسرة، لكنه كان في كل مرةٍ ينتهزُ فرصَه ليعلن تمرده، فمزقَ شريعةَ العالم المتسلط في جنيف في خطابٍ مارثوني - سيستعاد حتماً مرات كثيرة - داعياً إلى رفضها وتشكيل شرعةً جديدةً لشعوبٍ ناهضةٍ خرجت عن الطوق والعبودية...
أطلق الرجلُ كلماتِه الأخيرةَ في مؤتمر القمة العربية في ليبيا، المؤتمر الذي ضم طغاة العرب، فلطالما كان الرجل ضمير الصدق والصراحة بينهم، حكمته في هذه الأوقات لا تبارى، ممزوجة بسوداوية المصير المقبل الذي أدركه وعمل على تغييره بكل السبل فلم يفلح، قال: «نحن أصدقاء أميركا بعد أن وافقنا على الطريقة التي أُعدم فيها صدام حسين فإن الدورَ سيأتي علينا واحداً واحداً»، الرجل كان يدرك مصيره الحتمي ويصارع شياطين السياسية لكي يغيره. قال ذلك قبل أن سارعته الأيامُ بثورةٍ مفصّلةٍ على قياسهِ، ثورة تربت في عُبِّ أشقائه وأحبابه القطريين (الذين غدروا به كما لم يفعل أحد قط) وأصدقائه الفرنسيين وساقها ظهورُ تلاميذه ورفاقه الثوار، واشترك فيها الإسلاميون الذين أفرج عنهم من سنوات في مصالحات مجتمعية شاملة، ثورةٍ جاءت لتمحو خُطى المجاهد المحرر عمر المختار الذي أحبه القذافي وجعل منه أسطورةً عربية، ثورة جلبت أسراب أعداء الأمس القريب وأصحاب النفوذ الاستعماري، ثورة جاءت لنهب خيرات ليبيا ولتقسيمها، ولقطع أيديها المقتدرة الممتدة في أفريقيا والعالم. كان القذافي يطلق صرخاته الثائرة الأخيرة في عالم ملأته الأكاذيب، ثباتُ صموده وشجاعتُه خانتهما حقيقةُ ضعف واقعه وخياراته المتخبطة الأخيرة واشتداد حلقة المتآمرين عليه، وكعادته أطلق التنبؤات والمصطلحات والتفسيرات التي يصدقها الواقع في كل يوم يمضي في سرداب التاريخ.
بقي في ليبيا وصدّ خلفَ متراسه ثوارَ «الناتو» وقضى على أرضهِ ولم يغادرها، مدافعاً عن قناعاته وفكرِ حياته ولم يخنهما. قُتل الطاغيةُ ذاتَ يوم بغارةِ طيران فرنسي من قوات «الناتو»، حدث ذلك بعد أيامٍ قليلةٍ من تصريح مختلف اللهجة من وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون: «على القذافي أن يُحتجز أو يقتل».
وتسدل الستارة في المشهد الأخير على جسد مُدمى مُمثّلٍ به في مناطق حساسة، ويمرُّ به الشامتون أرتالاً يأخذون نظرة ما، بينما لا تزال أصوات الانفجارات في أنحاء مختلفةٍ من محيط المسرح، أشخاصٌ جددُ بينهم كثيرٌ من الغرباء يقدمون إلى المسرح، والجوقة تتابع نغمها الرتيب المعتاد مرددةً: ثورة ثورة؟!
* كاتب سوري