من حقّنا وحقّكم أن نتساءل: كيف أن النخب الثقافيّة (الكتّاب والإعلاميّون والفنّانون والمُطبّلون ومحترفو الجلوس—القرفصاء—في الحاشية) ناصروا فلسطين على مرّ العقود، عندما ناصرها طغاة الخليج، ثم هم عادوا فلسطين عندما جاهر طغاة الخليج بالتطبيع والتحالف مع إسرائيل. نمط التطبيع الساداتي بات من مخلّفات الماضي، وقد استطاع حكم الإمارات والسعوديّة والبحرين والمغرب الارتقاء بالعلاقة مع إسرائيل من التطبيع «العادي» إلى التحالف الاستراتيجي المُعلن. طبعاً، كانت بعض هذه الأنظمة متحالفة مع إسرائيل منذ عقود (النظام المغربي وطّد تحالفه مع إسرائيل في الستينيّات وفتح بلاده لـ«الموساد» فيما كان ياسر عرفات يهرّج محتفلاً كلّما مرَّ في المغرب لأن الملك الحسن كان رئيس لجنة القدس في الجامعة العربيّة) لكن أوجه التحالف الإماراتي مع إسرائيل باتت شاملة. والنخب الثقافيّة كانت مُحفَّزة لمعاداة إسرائيل في حينه لأن النظام العراقي والليبي كانا يرعيان وسائل إعلام عربيّة في أوروبا ولبنان، وكانت ليبيا قد أنشأت «معهد الإنماء العربي» في بيروت وفق أجندة تقدّمية معادية للصهيونيّة. كانت معاداة إسرائيل مربحة، فيما باتت معاداة إسرائيل مُكلفة.
(أنجل بوليغان ــ المكسيك)

وكان لأنظمة الخليج موقف واضح ضد إسرائيل (في العلن) وهم—بسبب النفوذ الإخواني وجنوحهم للنظريّات الدينيّة في تحليل وفهم الصراع مع إسرائيل—ضخّوا ثقافة معادية لليهوديّة كدين ونفّروا الرأي العام العالمي من تأييد القضيّة. الملك فيصل كان بالغ التأثير في هذا الصدد: كان يتحدّث في الصحافة ضد اليهود كيهود وأمرَ بمنعهم من دخول المملكة. لكن موقف الملك فيصل لم يكن ثابتاً أو مبدئيّاً، إذ إنه مثلاً لم يكن يمانع في الاستجابة لطلبات وضغوط وزراء أميركيّين يهود (مثل هنري كيسنجر الذي كان له دالّة عليه). وثقافة معاداة اليهوديّة في الثقافة العربيّة كان لها منبعان: الأوّل من أنظمة الخليج الدينيّة المزاعم، والثقافة العلمانيّة المتأثّرة بالغرب ومعاداته للساميّة. وقد نشر الغربيّون المتعاطفون مع القضيّة الفلسطينيّة كتابات معادية لليهوديّة بين العرب (مثل «بروتوكولات حكماء صهيون»—وهي مزوّرة وكرّس عجاج نويهض حياته لنشرها بين العرب كدليل موثوق على النيات الصهيونيّة—وكتابات هنري فورد وحتى كتاب «كفاحي» لهتلر). وافتتنَ بعض أمراء آل سعود بهتلر وكان الملك عبد الله بن عبد العزيز يحتفظ في مكتبه بخنجر مُهدى لأبيه من هتلر، والصليب المعكوف محفورٌ فيه، كما أخبرني السفير الأميركي السابق في المملكة، تشاز فريمان).
مناسبة هذا الكلام هي مقالة لجهاد الزين في «النهار» بعنوان «ماذا لو بدأ طلاب عرب من خارج إسرائيل يلتحقون بجامعات إسرائيليّة في السنوات العشرين والثلاثين أو الخمسين الآتية». والمزعج في مقالة تطبيع التطبيع المذكورة أن الزين يهدي مقالته للشهيدة شيرين أبو عاقلة. لماذا لم يهدِ المقالة لأمل دنقل؟ يبدأ المؤلّف مقالته بالتدليل على انفصام في «الشخصيّة الإسرائيليّة» حيث يميّز بين «التقدّم العلمي - السياسي والتمييز العنصري» (التنميط، حتى في معاداة السامية، يمكن أن يكون في ذكر الصفات السلبيّة أو الإيجابيّة على حدٍّ سواء. الإيمان بعبقريّة يهوديّة هي مثلاً نسق من أنساق معاداة السامية). هكذا مرّر الزين عبارة التقدّم العلمي - السياسي. لنتحدّث أولاً عن التقدّم العلمي وهو صحيح. لو جمعنا فقط مجموع المساعدات الأميركيّة والألمانيّة الرسميّة لإسرائيل منذ النكبة وزدنا عليها مجموع التبرّعات الخاصّة (غير الحكوميّة) التي قدّمها يهود العالم لإسرائيل في مجالات التعليم والبحث العلمي لعثرتَ على الفور على أسباب التقدّم العلمي الإسرائيلي والرفاهية في العيش. تخيّل مئات المليارات لو هطلت على الصومال. طبعاً، يجب الاعتراف بأن استعمال كل هذه الأموال كان في محلّه وبطريقة تتفوّق على الوضع في الإنفاق في الدول العربيّة (هذا لا ينفي أبداً حقيقة الفساد في داخل إسرائيل والذي وصل في أكثر من حالة إلى شخص رئيس الحكومة الإسرائيلي). وصحيح أن اليهود الأوروبيّين شدّدوا على ضرورة نيل الشهادات كطريقة لمحاربة التمييز والكراهية التي عانوا منها في المجتمعات الأوروبيّة، وهذا ليس فريداً في حالات أقليات عانت من الاضطهاد. الأقليّات الفلسطينيّة في الدول العربيّة شدّدت هي الأخرى على ضرورة التقدّم العلمي للأبناء والبنات، ما أعطى الشعب الفلسطيني أعلى نسبة تعلّم بين العرب من عقود طويلة.
تتمتّع جامعات إسرائيل بتمويل حكومي ويهودي خاص من كل أنحاء العالم، وهذا يمنحها مرتبة معتبرة ولكن ليست الأولى في أيّ مجال


لكن ما هو التقدّم السياسي الإسرائيلي الذي يتحدّث عنه الزين، والذي يراه في تضادّ مع التمييز العنصري الإسرائيلي؟ التمييز العنصري الإسرائيلي ليس مضادّاً للنظام السياسي، بل هو عنصر من عناصره المُكوِّنة ولا يمكن الحديث عن واحد من دون الآخر. النظام السياسي الإسرائيلي في تآكل مستمرّ حتى باعتراف الصهاينة أنفسهم. والذين يرصدون سمات التضادّ مع الليبراليّة في الأنظمة المُعتبرة (في الغرب) ديموقراطيّة يصنّفون إسرائيل في سنواتها الأخيرة من ضمنها. وهناك دراسات واستطلاعات تجري في إسرائيل وهي تدلّل باطّراد على العناصر المعادية للديموقراطية في الثقافة السياسيّة الإسرائيليّة. كيف رصد جهاد الزين «التقدّم السياسي» في إسرائيل؟ هو—مثل المعلّقين الصهاينة في الغرب—فصلَ بين قمع الشعب الفلسطيني واحتلال أرضه ونظام الفصل العنصري وبين الحكم على النظام السياسي. لكن حتى بمعيار النظام السياسي الخاص لليهود، هناك تدهور مستمر وتراجع عمّا كانت الأمور عليه من قبل. والنظام في إسرائيل لم يكن يوماً كما صوّرته الدعاية الصهيونيّة في الغرب أو حتى في الثقافة العربيّة. كان ديفيد بن غوريون أقرب إلى الديكتاتور منه إلى الحاكم الديموقراطي. وصعود جنرالات الحرب في الدولة يضفي عليها جانباً فريداً وحربيّاً وغير ديموقراطي. عليك أن تكون قد ارتكبتَ جرائم حرب موصوفة إذا ما أردتَ أن تصعد السلّم السياسي. ثم هناك قضايا الفساد التي طالت أكثر من رئيس حكومة ورئيس جمهوريّة (لم يسبق أن راكم رئيس عربي أو غربي من سجلات الاغتصاب والتحرّش والاعتداء الجنسي التي راكمها موشي كاتزاف في سيرته الذاتيّة). والمهم في قضية فساد نتنياهو (وهي ثلاث قضايا لا قضيّة واحدة) أنه لم يقضِ بعد يوماً واحداً في السجن، بالرغم من ثبوت الأدلّة. لا، حضر نتنياهو مرّة جلسة محكمة، وعندما أزعجه القاضي في كلامه خرج من المحكمة بكل بساطة. هذه ليست أبداً من سمات التقدّم السياسي.
يبدأ الزين فرضيّته بالسؤال إذا كان التقدّم العلمي الإسرائيلي سيؤدّي إلى التحاق طلاب عرب من دول عربيّة بالجامعات الإسرائيليّة. سأعود إلى السؤال، لكنه يذكّرنا بعدد الطلاب العرب في الجامعات الإسرائيليّة كأنّ أمام الشعب المُحتلّ خياراً آخر أو كأن التحاق الطلاب العرب بجامعات إسرائيليّة (يدفعون الضرائب لتمويلها) دليل على تقبّل فكرة الصهيونيّة. ثم يذكر الزين، هكذا عرضاً، كيف أن «الإسرائيليّين راقبوا بطول بال… جامعات بيروت ومدارسها» عندما كانت تستقطب طلاباً عرباً. بطول بال؟ ماذا كنت تتوقّع من إسرائيل أن تفعل؟ هل يجب أن نشكرها لأنها لم تقصف جامعاتنا، مع أنها قصفت بالفعل مباني للجامعة اللبنانيّة وعدد كبير من المدارس في الجنوب وفي خارج الجنوب؟ طولُ بال من إسرائيل؟ نشكرها على تحمّلها لبنيتنا التعليميّة. بالطبع، لا يفوت الزين أن يثني على مدارس الإرساليّات الغربيّة، إذ هو كتب فيها مدائح من قبل (مع أنه خرّيج الجامعة اللبنانيّة). ولبنان استقطب الطلاب العرب قبل الحرب ليس فقط في الجامعة الأميركيّة (لم تستقطب الجامعة اليسوعيّة إلا القليل القليل من الطلاب العرب قبل الحرب ربما بسبب الهويّة الطائفيّة المفضوحة لها ولأساتذتها)، بل أيضاً في جامعة بيروت العربيّة والجامعة اللبنانيّة (بدرجة أقلّ). جامعة بيروت العربيّة كانت من أفكار النظام الناصري واختار عبد الناصر لبنان مقرّاً لجامعة تشابه في فكرتها «جامعة باتريس لومومبا للتقارب بين الشعوب» في موسكو أثناء الحكم الشيوعي. لكن يبالغ الزين كثيراً عندما يقول إن الجامعة الأميركيّة في بيروت والجامعة اليسوعيّة كانتا تجذبان جمهوراً من الغرب. لم يكن يتقاطر نحو الجامعة الأميركيّة (الجامعة اليسوعيّة لم تجذب غربيّين قط) إلا أفراد من المهتمّين بدراسات الشرق الأوسط، وكان هذا قبل نموّ مراكز دراسات الشرق الأوسط في جامعات الغرب، وخصوصاً مركز دراسات العالم العربي المعاصر في جامعة جورجتاون.
أمّا عن تدهور حالة الجامعة اللبنانيّة، فالزين يورد فقط مسألة «النظام الميليشيوي» لكن يغفل أن الاقتصاد اللبناني «الحر» (والذي يتغنّى هو وغيره به) مسؤول أيضاً عن التقصير في تمويل المدارس وفروع الجامعة الرسميّة، وخصوصاً أن أثرياء لبنان (وهم حكّام لبنان مثل عصام فارس ونجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة ورفيق الحريري وسعد الحريري ومحمد الصفدي ووليد جنبلاط) أسبغوا التمويل على المدارس والجامعات الخاصّة لأن ذلك يجلب الهيبة الاجتماعيّة للمُمَوِّل. واقتصاد لبنان عوّل على تمويل جيش لا دور له في الدفاع عن لبنان أكثر ممّا جعل تمويل القطاع الصحّي والتعليمي من الأولويّات. الخصخصة في التعليم والطبابة—عند هؤلاء—تفي بالغرض (لكن يعارض هؤلاء الخصخصة في الدفاع عن لبنان). إهمال الجامعة اللبنانية هو نتيجة فساد وهيمنة ذات طابع طائفي (حسب الفروع)، لكنها أيضاً نتيجة سياسات مقصودة من الدولة، وعبر إدارات متعاقبة. رفيق الحريري قرّر في برنامج الإعمار أن القطاع التعليمي الرسمي لا يستحق العون والدعم، وكان يحارب أي زيادة في الإنفاق لمصلحته.

الطلاب العرب في الشرق الأوسط وفي الغرب ملتزمون بقضيّة فلسطين وهم ينشطون في جامعاتها، فتتوقّع منهم أن يفضّلوا جامعات إسرائيل عليها؟


والانتشار الدكاكيني للجامعات (ذكره الزين في المقالة) ليس حكراً على لبنان فقط: هذه ظاهرة عالميّة ووصلت إلى أميركا عبر «جامعة فينكس» و«جامعة ترامب»، والأخيرة أفلست. وحتى في الإمارات، التي يعتبرها الزين وأترابه في النخبة الثقافيّة اللبنانيّة مثلاً يُحتذى، تضجّ بدكاكين الجامعات (مثل الجامعة الأميركيّة في دبي والجامعة الأميركيّة في الشارقة، وحتى فروع الجامعات الأميركيّة في الإمارات تعاني من تدهور فظيع في المستوى الأكاديمي عن مستوى الجامعات في مراكزها الأم).
ثم يتطرّق الزين إلى ما يسمّيه «المشاكل التي يواجهها الطلاب والباحثون العرب في الغرب أنهم حيث تابعوا ندوة علمية أو نشاطاً بحثياً من الصف الأوّل، فإن الباحثين الإسرائيليّين يكونون موجودين بسبب حجم الانخراط العميق للجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيليّة في أعلى منتديات البحث العلمي الغربي، سواء العلوم الإنسانيّة أو العلوم العلميّة». هنا يخلط الزين بين مجالَين مختلفَين: العلوم والاجتماعيّات في البحوث في الغرب. لا شكّ أن هناك حضوراً إسرائيلياً أكيداً في كليّات الطب والعلوم في جامعات الغرب وبعض ذلك سياسي: هناك نسبة عالية من اليهود في جامعات الأبحاث الأولى في أميركا، وهذا يضفي ربطاً مع إسرائيل (على صعيد اجتماعي وعلمي). والأبحاث الطبيّة والمقالات العلميّة في الطب تشتمل على نشاط وجهود باحثين وباحثات في كليّات طب وعلوم في جامعات مختلفة في أميركا وأوروبا وأحياناً إسرائيل (تحمل المقالات العمليّة عدداً كبيراً من المؤلّفين والمؤلّفات ولا يكون هؤلاء قد التقوا في الحياة من قبل). والباحثون العرب ليسوا مسرورين بذلك ومعظمهم يسعى إلى رفض التعامل مع زملاء في إسرائيل ويرفضون حضور مؤتمرات في فلسطين المحتلّة (ليس صدفةً مثلاً أن أحمد زويل كان قد قبل دعوات لحضور مؤتمرات في إسرائيل وإلقاء محاضرات وتلقّي جائزة من دولة الاحتلال، تماماً كما فعل محمد البرادعي في زياراته لإسرائيل: هل صدفة أن الاثنيْن نالا جائزة نوبل في حقلين مختلفيْن أو أن نجيب محفوظ فاز بنوبل وهو من القلّة التي شذّت عن إجماع الكتاب المصريّين ضد التطبيع؟). أمّا في العلوم الاجتماعية، فالأمر مختلف كليّاً. ليس الإنتاج الإسرائيلي الأكاديمي متفوّقاً أبداً. وهناك اليوم العديد من العرب أو العرب الأميركيّين والأوروبيّين بين مؤلّفي الكتب الجديدة عن الشرق الأوسط. الاستشراق الإسرائيلي برز في الغرب في الخمسينيّات والستينيّات لأسباب سياسيّة قبل نشوء جمعيّات دراسات الشرق الأوسط والتي جعلت من المعايير العلميّة أهم من المعايير السياسيّة. إن بروز أشخاص مثل موشي معوز (الذي يظنّ في كتابه عن حافظ الأسد أن تقي الدين الصلح كان رئيس جمهوريّة لبنان) أو إيتامار رابينوفيتش (الذي برز أوّل ما برز لأنه كتب كتاباً مبنيّاً على وثائق سوريّة غنمتها قوّات الاحتلال الإسرائيلي في حروبها). والكتابات الإسرائيليّة عن الشرق الأوسط حافلة بالأخطاء التاريخيّة. موشي معوز برز لأن المؤسسة الأكاديميّة الحاكمة في بريطانيا تبنّته، وأسبغ عليه اللبناني ألبرت حوراني شرعيّةً. والأكاديميّون الإسرائيليّون كانوا مرتبطين بصورة وثيقة مع المؤسّسة الحاكمة، والكثير منهم شغل مناصب رسميّة (قد يكون شلومو أفنيري من أشهر الأكاديميّين الإسرائيليّين وهو كان بارزاً في حزب العمل وشغل منصب المدير العام لوزارة الخارجيّة الإسرائيليّة، والجاسوس - المؤرّخ ديفيد كيمحي عمل مديراً لوزارة الخارجية الإسرائيليّة ونائباً لمدير «الموساد»). والاختلاط بين الأكاديميّين الإسرائيليّين والغربيّين (بمن فيهم العرب في الجامعات الغربيّة) مصطنع (أي مقصود من قبل إدارات المراكز) وغير عفوي. تبرّع أثرياء اليهود لمعظم الجامعات الأميركيّة، وخصوصاً جامعات الأبحاث، من أجل خلق كرسي إسرائيلي زائر حيث يجلب أكاديميّين إسرائيليّين سنة بعد سنة ويعرّفهم على زملائهم في الجامعات الأميركيّة. لكن الأكاديميّين العرب في معظمهم يرفضون التعامل معهم. وهذا الرفض هو الدحض المباشر لمقولة الزين بأن الطلاب العرب سيتقاطرون إلى الجامعات الإسرائيليّة لنيل الشهادات. انظروا إلى حالة الإمارات حيث التطبيع (والتحالف مع إسرائيل) هي سياسة رسميّة مفروضة من فوق: لم يلتحق بجامعة إسرائيليّة إلا شخص أو اثنان فقط.
أمّا تصنيف الجامعات الإسرائيلية فهو مبالغ فيه في مقالة الزين. تتمتّع جامعات إسرائيل بتمويل حكومي ويهودي خاص من كل أنحاء العالم، وهذا يمنحها مرتبة معتبرة ولكن ليست الأولى في أي مجال. وحجم أوقاف الجامعات الإسرائيليّة يفوق أوقاف جامعات العرب. أمّا القول إن العرب قد يفضّلون الالتحاق بجامعات إسرائيل لأن الكلفة أقلّ، فهذا قول مردود ويدلّ على انعزال النخبة الثقافيّة العربيّة (الخاضعة بالكامل لسيطرة أنظمة الخليج، وتحديداً السعودية وقطر والإمارات). هناك ما لا يُقاس بالكلفة، يا زميلي: «هي أشياء لا تُشترى». الطلاب العرب في الشرق الأوسط وفي الغرب ملتزمون بقضيّة فلسطين، وهم ينشطون في جامعاتها فتتوقّع منهم أن يفضّلوا جامعات إسرائيل عليها؟ أين تعيش يا جهاد الزين؟ ألا يرى الطلاب العرب مشاهد إطلاق النار العشوائي على الطلاب العرب في فلسطين؟ هناك طلاب عرب في جامعات إسرائيل، صحيح لكن هؤلاء العرب يعانون من سنوات طويلة من التمييز العنصري. إن عدد الطلاب العرب في الجامعات الإسرائيليّة في ازدياد (كما يزهو جهاد الزين) لكنه لا يذكر عدد الأساتذة العرب المثبتين في الجامعات الإسرائيليّة (وهو صغير جداً) ولا يذكر أيضاً عدد متلقّي منح الأبحاث. إن التمييز العنصري في نظام أبارثيد مثل إسرائيل يمتد إلى كل جوانب الحياة وهو وحده سينفّر أي عربي من الالتحاق. والحديث عن توق عربي للدراسة في جامعات إسرائيل هو مثل القول إن اليهود الغربيّين كانوا يتقاطرون للدراسة في الجامعات الألمانيّة في العهد النازي. ثم، حتى لو عزلنا العامل السياسي، لماذا يفضّل الطالب العربي ولو كان صهيونيّاً (على ندرة ذلك) جامعات إسرائيل على جامعات الغرب؟ إذا كانت الفلافل هي السبب، فإن محالّ الفلافل باتت ظاهرة في كل مدن الغرب. لا ندري، لعلّ جهاد الزين سيكتب لاحقاً عن سياحة عربيّة من دول عربيّة نحو مطاعم «إسرائيليّة» في فلسطين المحتلّة. ولماذا يفضّل هؤلاء الطلاب جامعة تدرّس بالعبريّة على جامعات تُدرّس بالإنكليزيّة (طبعاً هناك صفوف بالإنكليزيّة في الجامعات الإسرائيلية بغرض جذب طلاب يهود من دول العالم). يذكر الزين المضايقات ضد جامعة بيرزيت، لكنه لا يذكر المضايقات والتمييز ضد العرب في الجامعات الإسرائيليّة نفسها. ويأمل الزين بحدوث تسوية سلميّة ويعوّل في ذلك على عاملَين لا ثالث لهما: الضغط العربي والدولي وضغط «النضال الفلسطيني» (قد يعني بالنضال النضال الدبلوماسي الذي حدّثنا عنه فؤاد السنيورة وأحمد فتفت). ينتمي جهاد الزين إلى مدرسة شارل حلو الذي وعدنا بأن «صداقات لبنان الدبلوماسيّة» تقيه من أي شرّ مهما كان مستطيراً. ويبدر عن الزين تفاؤل عن مستقبل إسرائيل لا يشاطره فيه معظم السكّان في دولة الاحتلال. حتى قادة العسكر والمخابرات السابقون يتحدّثون بتشاؤم عن مستقبل المشروع الصهيوني، لكن الزين يرى فيه مستقبلاً زاهراً. تفاؤل الزين بمستقبل إسرائيل يتفوّق على تفاؤل ثيودور هرتزل في كتابه «الأرض القديمة-الجديدة».
بعد رحلة طويلة (في المقالة) في مواضيع شتّى، يوصلنا جهاد الزين إلى بيت القصيد عندما يقول: «هناك دول عربيّة (من هي يا ترى؟) من موقع حقوقها السياديّة وتفكيرها الاستراتيجي (أصبح الصلح مع إسرائيل والتحالف مع جيش ومخابرات العدوّ تفكيراً استراتيجيّاً—غريب لم يقل جيو-استراتيجي) أخذت خيارات جريئة (مثل جرأة أنور السادات وسعد حداد وبشير الجميّل) وهي خيارات يمكنها، ليس فقط أن تتحوّل إلى عنصر دعم ودفع سلمي لحركة الحقوق المدنية الفلسطينيّة في الداخل، بل أيضاً إلى المساهمة في إقناع الشعب الإسرائيلي بأنه لا يمكن لدولته أن تستمرّ في وضع تعاملها الراهن». كل العنوان واللف والدوران كانت بغرض الوصول إلى هذه الفقرة. هي المنطلق وهي الأساس وهي نموذج عن تجنيد معظم كتّاب وإعلاميّي وفنّاني لبنان في مشروع التحالف الخليجي مع إسرائيل.
* كاتب عربي ــــ حسابه على تويتر
asadabukhalil@