من هو الرئيس القوي؟ سؤال يحتل حيّزاً واسعاً على الساحة الداخلية اليوم. فالانتخابات الرئاسية اللبنانية، طرحت من جديد إشكالية الطبقة السياسية الموجودة في لبنان، وشرعيتها في الحكم، لا سيما رؤساء الأحزاب التقليديين، أولئك الذين شاركوا في الحرب الأهلية اللبنانية، ومن ثم أضحوا اللاعبين الأساسيين في زمن السلم المفترض. اليوم، ثمة مرشحون محددون لرئاسة الجمهورية اللبنانية غير أن ثمة شريحة من المواطنين تدعو إلى انتخاب طبقة جديدة، في ظل انقسام ونقاش وجدال حول الصفات التي يجب أن يتمتع بها الرئيس.
يستند هؤلاء في رأيهم إلى مسيرة العائلات التقليدية وغيرهم ممن دخل نادي السياسة اللبنانية منذ نشوء الكيان اللبناني وصولاً إلى ما بعد الحرب الأهلية حتى يومنا هذا في استغلال السلطة والمال خدمة للسلطة، ما جعل المجتمع اللبناني يدور في حلقة الزبائنية تحت عناوين ومسميات مختلفة بحسب ما تقتضي الحاجة. من هنا، يرفض قسم من اللبنانيين الأسماء المطروحة للانتخابات الرئاسية كونها إما تنتمي إلى العائلات الإقطاعية، أو هي شاركت في الحرب الأهلية. لذا فهم يعتبرون أن هناك أزمة حكم تتمثل في عدم توافر الشخصية السياسية الملائمة لتولي قيادة البلد.
في علم السياسة، تتعدد النظريات حول الصفات التي يجب أن يتمتع بها أي رئيس وقائد للبلاد. ولعل الصورة النمطية التي تطبع في ذاكرة الناس، هي أن رئيس البلاد يجب عليه أن يكون «بطلاً» في الحروب، دافع عن شعبه وأرضه وانتصر، وبالتالي، هو من يملك قوة عسكرية تستطيع أن تسيطر وتفرض الأمن. هذه الصورة، ما لبثت أن تبدلت عبر السنوات، إذ دحضت النظريات السياسة منطق التمتع بالقوة العسكرية، وطرحت مبدأ في القيادة يقوم على ضرورة أن يكون الحاكم قادراً على محاكاة قلوب الناس وعقولهم. من هنا، تعتبر هذه النظريات الحديثة أن القائد الناجح هو الذي يفهم جمهوره ومتطلباته، ويشاركهم الهموم والأهداف ويعمل على تحقيقها معهم، ويتمتع بالقدرة على توجيههم بحسب ما تقتضي المصلحة العامة.
ولا تقتصر مهمات الحاكم على توجيه الناس فحسب، بل إن أحد أهم مسؤوليات الرئيس، الذي هو قائد الأمة، هي في أن يعمل على خلق معان وأهداف لشعبه، ومنها ينطلق لتثبيت هويتهم والحفاظ على وحدتهم.

الرئيس القوي هو من يستحق أن يكون مؤتمناً على الهوية العربية للبنان


فهل تتوافر هذه الصفات في مرشحي الرئاسة؟ في لبنان؟
بمعزل عن الصفات الشخصية التي يجب أن يتمتع بها أي رئيس للجمهورية، تفرض الواقعية السياسية والمسؤولية الوطنية عدم فصل أو تجاهل الأزمة التي تمر بها كل المنطقة العربية، والعمل على حماية النسيج اللبناني بكل مكوناته من التأثيرات المباشرة وغير المباشرة لهذه الحرب على هوية المنطقة، والتي تفرضها الجيو- بوليتيك وليس أي عامل آخر. لذا، يشكل موقع رئاسة الجمهورية بشخص من سيمثله، أحد أهم ركائز تحصين لبنان، ليكون ضابط الإيقاع لكل تناقضاته وليحافظ على هويته العروبية كما جاء في الدستور وكما نصّ عليها اتفاق الطائف، والتي دفع ثمنها اللبنانيون بدمائهم ومستقبلهم، وما يزالون.
يمرّ لبنان اليوم في مرحلة مفصلية، تكاد تشبه المحطات التاريخية الكثيرة التي كادت أن تسقط عنه هويته العروبية. من هنا، فإن الرئيس القوي هو من يستحق أن يكون مؤتمناً على الهوية العربية للبنان بحسب ما نص الدستور اللبناني، وعلى تاريخ مقاوم دفع الناس للحفاظ عليه من دمائهم وأرواحهم. في السياق الطبيعي لتطور المجتمعات، تتخذ الشعوب من الأحداث التاريخية منطلقاً لصوغ حاضرها وبناء مستقبلها. لذلك، تقتضي الذاكرة الوطنية الإنصاف والاعتراف لمن كان صادقاً وملتزماً التاريخ والهوية والمبادئ، ولمن دفع ثمن انتمائه العروبي ووقوفه عقبة في وجه المشاريع الغربية حتى يومنا هذا، بصرف النظر عن الحسابات الطائفية الضيقة.
في منطق النظريات السياسية، إن الحاكم القوي والأمثل هو الذي يحتضن شعبه أو جمهوره، ويعطيهم الحق في إشراكهم في القرار، وهي معادلة فرضتها التغيرات والتبدلات السياسية والاجتماعية على مرّ السنوات. وفي منطق السياسة أيضاً، تفرض طبيعة كل مجتمع ونظام الدولة القائم واقعية في التعامل من الاستحقاقات السياسية. وبالتالي، قد تكون الدعوات إلى البحث عن أسماء جديدة، لا تنتمي كلياً إلى النادي السياسي اللبناني ضرب من الخيال في هذا الظرف تحديداً. لذا، فإن التغيير لا يقضي بإلغاء كل من كان حاضراً في المراحل السياسية السابقة، بل في قراءة التاريخ جيداً وفي فهم الأحداث والظروف وتحليلها للانطلاق منها والبناء عليها من أجل التحرر من كل المعوقات التي تقف أمام تطور وبناء الدولة. بالإضافة إلى ذلك، ليس من الواقعية تجاهل مزاج الجماهير التي اختارت ممثليها.
غير أن المسؤولية الوطنية والنضج السياسي يقتضيان البحث عمن واكب وعايش جمهوره في معاناتهم، ونجح بحبهم وثقتهم به والتزامه الكلي معهم ولو على حساب مصالحه الخاصة، في تنمية ثقافة المسامحة على الجرائم التي ارتكبت في الماضي بحقهم في سلوكياتهم، في وقت كانت الفوضى وكان الانتقام هما الحكم، ولم يخاطر بجمهور وبشعب بكامله من أجل الصراع على السلطة باسم الشرعية والحق في المنافسة.
إن من لم يكن إقطاعياً بالمعنى التقليدي السيئ للكلمة، بل كان حاضناً لجمهور على الأصعدة كافة وقت الحروب والحرمان، وإن من كتب التاريخ ثباته في المواقف والخيارات الوطنية ضد الحسابات المناطقية والعائلية الضيقة، وإن من استطاع أن يقنع جمهوره بهذا الانتماء العروبي والوطني فيغدو هويته في وقت انقلبت فيه كل المعايير، وإن من يحمل مشروعاً تنموياً على مستوى وطني وليس طائفياً منغلقاً على ذاته، هو الذي يستحق أن يكون الحكم ، لكي يبقى «وطني دائماً على حق».
* أستاذة جامعية