لا اتصور ان احداً سيختلف مع الرأي القائل إنّ حال الامة الآن لا تحسد عليها، وان الذين يحملون هم الامة من يطلق عليهم مصطلح القوميين العرب هم ايضاً في اوضاع لا يحسدون عليها، افراداً وأحزاباً وحكومات وحكاماً وتيارات سياسية وثقافية وفكرية. والقصد من ذلك ان الامة وحماتها او حملة شعاراتها يعيشون فترة زمنية صعبة ومعقدة وفيها الكثير مما هو محبط للآمال ومغضب للمشاعر. وبالتأكيد لها اسبابها وظروفها ونتائجها ولابد من دراستها بترو وتبصر ووعي ثاقب. اذ ان الزمن العربي الآن يتكلم بالتغيير والتطوير والبناء، وما تتعرض له الامة وحالها هذا محرج وعاجل ومصيري.
باختصار يعني ان حال الامة اليوم يطالب بإعادة النظر في كل مجالاته ويدعو الى هزة كبيرة فيه من اجل اعادة الامل في الشعارات التي وضعت والأهداف التي نشدت والوفاء للتضحيات التي قدمت. فمنذ تأسيس الاحزاب القومية، وحتى المؤتمرات القومية منذ 1913، وما رفعته من شعارات تصب في الوحدة للوطن والحرية للشعب والنهضة للأمة، واتفقت عليها جموع الجماهير وطلائعها لم تقم أي منها بمراجعة نقدية موضوعية، بل انها تأخرت في تنفيذها عملياً ولم تستكمل اي منها واقعياً او تحافظ على ما تحقق منها فعلياً، بل ان بعضها، اعطى امثلة مناقضة وسلبية وكارثية، وحصادها مر أو علقم، مثلاً في تجربة حزب البعث في حكم سوريا والعراق، او تجربة الناصريين في حكم بلدان متجاورة ودع البعيدة قليلاً، كما هو الامر بين مصر والسودان وليبيا، او في التجربة الفلسطينية وانشطارات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ومنظمة فتح. وكشفت التجارب ان حملة تلك الشعارات عملوا هم انفسهم من خلال احتضانهم الشديد وحماسهم العاطفي وغلوهم فيها الى خنقها في احضانهم قبل خروجها الى النور. ومارسوا اضافة اليها ما نفّر الناس منها قبل ان تتحول الى مطالب مشروعة للجماهير التي كانوا يتحدثون عنها.

الذين تحدثوا عن
الاشتراكية وحاروا في توصيفها تركوها عند
اول هزيمة

الذين تصايحوا للوحدة هم من افشل تجاربها البكر، والحرية ظلموها شعاراً وواقعاً والديمقراطية خسروها في التشبث في المناصب والامتيازات الآنية والبهرجة الكلامية. والذين تحدثوا عن الاشتراكية وحاروا في توصيفها تركوها عند اول هزيمة ونكسة للأمة ولم يتجرأوا على التمسك بصحيحها وبناء العقول والأمة على فضيلتها واستثمار الثروات في خدمة الشعوب وخير الامة.
جاء الحراك الشعبي والانتفاضات والثورات الشعبية لتدق الناقوس وتعلن بدء مرحلة جديدة من العمل السياسي والفكري والاجتماعي، وترسم خطوطاً تختلف بها عما سبقها ووضع لها بعض علامات طريق. وأول ما كشفته الحراكات الشعبية هو الهوة الكبيرة الكامنة بين الشعوب والحكومات، بين الحكام والمحكومين، التي كان اغلبها يزعم بالانتماء القومي العربي سياسياً، او يحكم باسمه.
وغابت القضية المركزية للأمة رداً على التسلط «القوماني» والادعاءات بها. وحتى لو رُفعت اعلام فلسطينية في بعض الحراكات والمدن العربية فإنها بكل وضوح وفي الواقع المكشوف ابتعدت عن الهم الاول والقضية الاولى، وتركتها نهباً لغيرها او فسحت مجالاً حتى لبعض ابنائها للتخلي عنها باسم المفاوضات والحلول الترقيعية والخضوع للضغوط الاجنبية والعربية الخليجية المرتهنة بغيرها والزارعة للقواعد العسكرية والمحطات الغربية والحاملة لخطاب التصفية والتطبيع تحت اسم السلام والاعتراف بعد الانسحاب الى حدود النكسة.
فضحت الحراكات الشعبية في البلدان العربية كم المعاناة الذي كانت تكابده الشعوب العربية، وكم هي الخدعة كبيرة بين الشعارات والكلمات المعسولة في الاهداف التي اعلنتها الحركات والأحزاب القومية حين تسلمت السلطات وترعرعت على عرش الثروات والآمال العربية، وطبيعتها العملية والواقعية. والتي ادت في الاخير إلى ان تسهل الطرق امام الغزو والاحتلال الاجنبي، بأشكاله كلها وحسب تدرجها او تنوعها، ثقافياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً وامنياً وحتى اخلاقياً.
كم عدد السجون في الوطن العربي عموماً وفي البلدان التي حكمتها احزاب «قومية»؟! كم عدد القواعد العسكرية الغربية في طول العالم العربي وعرضه؟ ما هو حجم الاتفاقات، امنية وسياسية واقتصادية وغيرها، ومداها بين الحكومات العربية وحكومات الغرب الاستعمارية، والتسهيلات والخدمات اللوجستية؟ ما هو عدد او نسب الامية الابجدية والثقافية عند الشعوب العربية؟ كم عمر الحكام العرب الذين تشبثوا في السلطة والأمناء العامين للحركات والأحزاب وعدد وحجم القوى والتيارات، التي تزعم النطق بالشعارات القومية والحزبية التي تحمل اسمها؟
واقع حال الأمة ليس بخير ولا يشي به، لأن الغفلة والمحاباة والتزلف والانكفاء وغيرها هي التي توفر الاسباب لذلك. وان نتائجها فضحتها مجريات ما حصل في بعض البلدان. والثورة المضادة التي كانت تتحكم في السلطات او عادت لها من جديد هي التي تهيمن وتقول بها. ولهذا ولكل ما سبق لا بد من التنبه وإدراك ما يحصل وما يجب ان يكون. طاقات الامة وخيراتها كبيرة وقادرة على التغيير والتجديد والتطوير وإعادة الاعتبار للشعارات والأهداف التي انتهكت وضاعت هي ومعها حقوق الشعوب والإنسان فيها.
اذا كانت تلك النتائج محزنة وهي حصيلة حصاد سياسات وسلوك احزاب وحركات رفعت اسم «القومية العربية» فإن العمل المطلوب هو تفحصها ونقدها بموضوعية والتبرؤ من اعادة انتاجها او الالتفاف حولها ونكرانها. كما ان السلطات العربية التي ادعت ذلك ينبغي ان تحاسب على ما اقترفته وأن يحاكم الواقع كما هو لا بتلوين وتزيين كاذبين ولا بصلف وعناد اثيرين. وان الاختلاف الحاصل حول بعضها يتطلب العمل على وضعها امام حكم التاريخ وتجارب الشعوب من دون الانتظار الطويل او التفرج عليها حتى تنتهي كما انتهى من سبقها بالويل والثبور.
معلوم ان العوامل الخارجية والمخططات الاجنبية والمشاريع الغربية تعمل ليل نهار على تخريب تطلعات الشعوب العربية وآمالها ولتدمير وحدتها ومنع التفكير فيها، وحتى التغني بها. ونجحت في اوقات معينة وعند نخب معينة ولدى حكومات معينة، كما انها تعمل بكل ما استطاعت لصناعة فئات وسلطات تنفذ لها ما تريده وتسعى اليه. وما يؤثر بشكل ما او انجز بعضه كما هو الحال وعلى ما وصلنا اليه الآن. وهذا ليس سراً او اعمالاً خفية، بل هو معلن ومكتوب وقائم منذ اتفاقية سايكس - بيكو ووعد بلفور والى الآن.
يتحمل القوميون العرب اكثر من غيرهم في هذه الظروف ضرورة اعادة النظر في كل برامجهم وجداول نشاطاتهم ومنهج عملهم والمسؤولية التاريخية في فشل التجارب السابقة ونقدها وتقييمها بما لا يعيد انتاجها، ولا يبرر لها، والتفتح وبعيون فاحصة واسعة لإعادة البناء بكل حرص وعزم في اعمدة النهضة، وإخلاص ووفاء في خطوات التقدم وجد ومشاركة في جمع الامة والغد الجديد.
* كاتب عراقي