يعجّ قاموس الخطابات العربية أيّامنا هذه بمفردة «البديل». والبديل مطلوب، بحق، وبإلحاح، وفي مواضع كثيرة. خذ الأمثلة التالية: سلطة الكمبرادور الدايتونية في رام الله، نظام الكليبتوقراطية المحاصصاتية في بيروت، العملية السياسية البرايمرية في بغداد. أشياء ولّادة للشر، وهي تموت تولّد شرّاً، تولّد شراً كثيراً وتمنع خيراً كثيراً، في حياتها وعند احتضارها. والأزمات، كما يردّدون (بمن فيهم أخيراً السفير السعودي!) مقتبسين عن أنطونيو غرامشي، تنشب حيث أن القديم في حال احتضار والجديد لا يمكن أن يولد بعد. فاصل برزخي تتسلل منه الفوضى المرعبة إلى الحياة العامة.إلا أن الآمال المعقودة على هذا «البديل» الخلاصي ما انفكت تعلق في فخ بدائل متوثّبة زائفة تعود بخيبات لا يستهان بها. ثم إن البديل المنشود، على خلاف توقّعات المنتظرين أحياناً، لا يظهر دوماً، بطبيعة الحال، بدور المنتصر في حركة التاريخ، أو يظهر، أكان فرداً أم قوّة أم خياراً، نقيضه تماماً، مقنّعاً كان أم صريحاً. حصل ذلك مطلع التسعينيّات في لبنان الخارج للتو من الجولة العسكرية للحرب. البديل، من الدمار والقتال وأمراء المحاور، كان قاتلاً اقتصادياً أدخل البلاد بمقدراتها وطبقاتها في مطحنة سحريّة للنيوليبرالية المشرّعة على خيار «السلام العربي - الإسرائيلي»، متغذّية عليه رهاناً وتفاعلاً. ولم يكتف رفيق الحريري بـ«الاستثمار» في جمهور مثقفين وأكاديميين وإعلاميين مخضرمين، بل بادر إلى استحداث وإنتاج «ثقافة خاصة» بالمشروع. منصات حريرية تلعب دور الهيمنة على الخطاب ومصادرة المساحة «الثقافوية» من الحياة العامّة بسلطان المال الوفير. على رأس هذه المنصّات التلفزيون، «المستقبل»، وعلى رأسه علي جابر. طار «المستقبل» ولحقه الحريري الابن. لكن، أين علي جابر إيّاه؟ هو اليوم على رأس الإعلام الخليجي، إدارة إمبراطورية «أم بي سي» السعودية، وعميداً لكلية محمد بن راشد للإعلام، ناشطاً بصخب لإنتاج محتوى يواكب «البديل» العربي المعوّل عليه إحياء «السلام» المشار إليه أعلاه وتجديد دعوة دمج إسرائيل في المنطقة بوصفة التطبيع الاقتصادي.
استشرف جوزيف سماحة هذا الثبات والتمدّد لعلي جابر. في قراءة راهنية لـ«الجابرية»، كما أطلق عليها في «قضاء لا قدر»، يتوقّف سماحة عند ظاهرة علي جابر، تحت عنوان «موت مثقف». وعلي جابر، لرفع أي التباس، غير معنيّ بالمثقف المنعيّ في العنوان، إنما دوره المناط به تجاه معشر المثقفين وكارِهم. وهو دور يقوم، عند سماحة، بإنتاج التفاهة كبديل، بما ينطوي عليه الفعل من قتل للثقافة. حيث تتزاحم وتتصدّر وتهيمن مواد الاستهلاك المستغِلّة والمسطّحة والمخدِّرة. هذه هي وظيفة الثقافة في مشروع نيوليبرالي.
يريد محمد بن سلمان وثبةً خليجية تحقّق شروط البقاء، قوامها الذهاب عميقاً في اللبرلة الاقتصادية الاجتماعية. أي التطرّف في تبنّي ما هو قائم، إنّما بإضافة الملائم لشرائط الراهن. ذلك بحقنِ جرعة زائدة من اللبرلة الحاكمة أصلاً، مسنودة، لزوم التحوّل، بخطاب ينقد الريع والانغلاق الاجتماعي. جرعة زائدة بما تنطوي عليه من صدمات ومن ثم بما تستوجبه من تكثيف لإنتاج ثقافة التفاهة مواكَبةً لارتفاع الحاجة إلى تخدير الجمهور وتطويعه. من هنا يتحدّر أبو ناصر، تركي آل الشيخ. «البوناصرية» أعلى مراحل «الجابرية». هي المرتبة الأسمى في سلّم إنتاج التفاهة عبر مسرَحة الساحة العربية كاملة أرحبَ من التجربة اللبنانية. عملية تسييل عنيف للتفاهة وتحويلها إلى قوّة اجتياح اجتماعي، استجابة لوتيرة الحاكم، ذاتِ أيدٍ وأرجل طائلة أكثر من ذي قبل، مُمأسَسة كما في تمظهرها الأجلى: «هيئة الترفيه». تماهٍ تام بين «أم بي سي» والهيئة على إنتاج وعي مسطح استهلاكي واحد. والـ«أم بي سي» هذه بحلّتها السلمانية فرسٌ عليه رهان داخلي وخارجي أكبر من «أم بي سي» التي دشّنت بقيادة عبد الرحمن الراشد «العربية» مطلع الألفية لدعم غزو العراق وبديلاً منافساً لخطاب «الجزيرة» الكلاسيكي. تحويل التفاهة الاستهلاكية، والمتغربنة بابتذال يتصنّع الانفتاح المشوّه في آن، إلى ما يشبه حزباً جماهيرياً يعضد رؤية ولي العهد الحاكم ويشرعنها ويحشد شارعاً وتيّاراً جارفاً. بوجه ما، فإن تجذير هذا الاغتراب/الاستلاب ثقافياً هو دور «بدائلي» داخلياً، عن استهلاك وهابيات ابن باز وابن عثيمين وبقية أهل الدعوة ومطاوعتها، لملاءمة الأجواء مع التحوّل المرجو، حيث مدن حديثة كنيوم تسابق دبي على مركز منفتح على الأسواق الغربية. ومن وجه آخر، فإن هذه السياسة توصل إلى توسيع وتطوّر مصادر «شرعية» العرش. وعندما نلاحظ أن التطبيع موضوع متداخل مع التحوّل الاجتماعي وانتقال العرش معاً، من باب الرهان على تأمين المسارين المتلازمين، نفهم كيف أن دوائر إنتاج التفاهة في النظام نفسها تتولّى بث المحتوى المعادي للقضية الفلسطينية والمواكب لمشروع التطبيع من تحت - من المسلسلات وصولاً إلى شتائم الذباب الإلكتروني.
برغم هذا المشترك، الجابريّة وتفاهتها، يظلّ ثمّة فارق أساسي بين الحريرية الآفلة والمبسيّة الصاعدة، وهو أنه مع الحريرية، لم تغيّب إلى هذا القدر الثقافة الجدّية التي كانت لا تزال تعيش مرحلة لا بأس بها عربياً. وملاحظة إنتاج الثقافة المتحكّم بها من فوق، من السلطة، في التجارب الخليجية والعربية عامة، لا تقول إن الإنتاج الثقافي الآخر، أي الثقافة الجدّية والرصينة، تلعب على الدوام دوراً «إيجابياً»، أو «طبيعياً». وهو ما يمكن أن نعثر عليه في تجربة الإعلام القطري، حيث يعلى من شأن الثقافة الجدّية إنما بتأطير لحدود حركتها بعيداً من تسييلها في الاشتباك السياسي المطلوب. وهذا الاحتواء، كبديل مقابل مموّه، يضعنا أمام مذهب آخر من مذاهب التدجين.

* من أسرة «الأخبار»