ترجمة وإعداد: دعاء علي
سيدي الرئيس، نجد أنفسنا هنا في غوادالاخارا، حيث وقع أمر غير مسبوق: لقد جلستْ كوبا إلى الطاولة الكبيرة لدول أميركا اللاتينية. وليس هذا فحسب، بل أتت إلى الطاولة بموقف شديد الحدّة. كيف تفسر هذا؟ ما أهمية ذلك للحياة في بلدك وللحياة في أميركا اللاتينية؟
حسناً، لقد جلستُ إلى طاولة بالفعل، لكنها لم تكن كبيرة لهذا الحد، فقد كانت طاولة لعشرين شخصاً، على الرغم من أنني أفهم ما تقصده بـ«الطاولة الكبيرة»، نظراً إلى أنها كانت فرصة لأن يجتمع جميع رؤساء أميركا اللاتينية للمرة الأولى.
أعتقد أن الطاولة كانت «كبيرة» ليس فقط بالنسبة إلى كوبا، بل إلى الجميع. لأنه منذ أن نشأ الاستقلال في هذا النصف من الكرة الأرضية، منذ النضال من أجل الاستقلال في نهاية القرن الماضي، لم نقم اجتماعاً كهذا قط، إلا حين دعتنا واشنطن. عندما تقول واشنطن «تعال!»، يطير الجميع إلى الولايات المتحدة، أو إلى أي مكان آخر. وبالطبع، لم تتلقَّ كوبا تلك الدعوات قط. لذا، فإنني أرى هذا الاجتماع حدثاً تاريخياً بالغ الأهمية، دعا إليه الأميركيون اللاتينيون، لا الولايات المتحدة. إننا نفعل ذلك للمرة الأولى في التاريخ، وهو إنجاز استثنائي حقاً.
بالنسبة إلى الخطابات، فقد عبرتُ عما شعرتُ به، عن الآراء التي أحملها. كان من النفاق أن أصل إلى هذه القمة وأستخدم لغة مراوغة، وألا أقول ما كنت أفكر فيه حقاً. كنت محترماً في الطريقة التي عبّرت بها عن نفسي، واحترمتُ الجميع. كنت حريصاً على ألا أنفعل كثيراً في أي لحظة، رغم أنني أمتلك شخصية عاطفية إلى حد ما. وإن كان ثمة تباين، فقد كان في بعض الأفكار، وإلى حد ما في الأسلوب، لأنني أحب استخدام اللغة المباشرة وأتجنب اللف والدوران.

أسألك هذا خصيصاً لأنه في هذه الجولة، التي تحدثنا فيها مع العديد من الرؤساء، شعرنا باتجاه واحد يوحّد كل أميركا اللاتينية تقريباً: اتجاه نحو البراغماتية، نحو نزع الإيديولوجيا عن الحكم، نحو اقتصادات السوق. وبهذا المعنى، يبدو أن كوبا أصبحت جزيرة أكثر من أي وقت مضى.
نعم [مبتسماً]. حسناً، قبل القمة، لم يكن الكثير منا يعرف بعضنا البعض، ولم نكن نعرف كيف يفكر الآخرون. في النهاية، لديّ تفكيري، لدي إيديولوجيتي. لكن لا يمكنك الحديث حقاً عن نزع الإيديولوجيا، لأنني أعتقد أن الإيديولوجيا حاضرة في المجال الدولي الآن أكثر من أي وقت مضى، وهي إيديولوجيا الرأسمالية والنيوليبرالية. هذه إيديولوجيا أيضاً. إننا نرى روحية انتصار بين المدافعين عن الرأسمالية وعن النظام الاقتصادي الدولي الظالم الموجود في العالم. لكن هدفك، في اعتقادي، هو مناقشة نهاية الإيديولوجيات التي تعارض النظام الاقتصادي المهيمن.

وفي إطار هذه الهيمنة، ما الذي يمكن لكوبا أن تفعله؟ وهي صغيرة إلى هذا الحد، ووحيدة إلى هذا الحد؟
حسناً، تقريباً كل فكرة عظيمة بدأت بداية صغيرة وحيدة. المهم ليس حجم الأمّة التي تدافع عن الفكرة؛ المهم هو حجم الفكرة، والأهمية والقيمة الموضوعية للأفكار التي ندافع عنها. ونحن، في هذه الحالة، ندافع عن أفكار العدالة الاجتماعية، أفكار العدالة الدولية، ونحن فخورون جداً بدفاعنا عنها. لا شك أننا يجب أن ندافع عنها بحكمة. لا يجوز أن نكون دوغمائيين، لأن القناعة العميقة شيء، والدوغمائية شيء آخر. وعلينا أيضاً أن نتحلى بشيء من البراغماتية نظراً إلى العالم الذي نعيشه، لأن المسألة ليست فقط في الدفاع عن الأفكار، بل في وضعها موضع التنفيذ، ومنحها القدرة على الحركة.
لكنني لا أظن أننا وحيدون في دفاعنا عن هذه الأفكار، لأنك حين تتحدث عن أفكار العدالة في هذا العالم، حين تتحدث عن التنمية، حين تحتجّ على النهب الذي تعرضت له شعوبنا، حين تعارض وحشية الدَّين الخارجي، حين ترفض فكرة أنه باستطاعتنا حل المشاكل الاجتماعية والنمو فيما نحن منهوبون... فنحن لا نتحدث عن إنسان واحد أو مجموعة من البشر أو حزب ما، بل هناك بشر كثيرون وشعوب كثيرة يعانون المشاكل ذاتها ويدافعون عن الأفكار ذاتها. حين تدافع عن تكامل أميركا اللاتينية، فأنت تدافع عن حاجة ماسة لبقاء شعوب عديدة. كل يوم، يزداد عدد الناس الذين يدركون الحاجة إلى التكامل. وإلا، ما الذي يستطيع أيٌّ من بلداننا فعله وهو معزول للتفاوض مع القوى الاقتصادية الكبرى؛ مع الولايات المتحدة، مع اليابان، مع أوروبا؟ يمكن لأيّ كان أن يفهم أن هذا التكتيك سيكون سخيفاً، سيكون جنوناً. ولهذا السبب فإننا ندلل على الحاجة للوحدة، حتى يكون لنا مكان في العالم.
الفرص الآن محجوزة لكبار الموظفين التنفيذيين الذين درسوا في جامعات النخبة


هناك حديث منذ الآن عن عام 2000، عن الألفية الثالثة، لكن أي دور ستلعبه بلادنا في هذه الألفية؟ لهذا أفكر بقرابة المئتي سنة التي انقضت منذ أن بدأت حركة الاستقلال في بلادنا، منذ حقبة بوليفار، الذي حلّل ببصيرة واضحة مشاكل بلادنا ومصيرها وحاجتها إلى الاتحاد، وأتذكر مارتي، الذي فهم هذه المشاكل منذ أكثر من مئة عام، وأفكر في ما كنا سنصيره لو كنا قد اتحدنا. يمكننا أن نكون قوة اقتصادية عظيمة، مجتمعاً اقتصادياً عظيماً، شبيهاً بالقوى الاقتصادية العظمى الموجودة. لذلك، قلت في مرحلة ما، بألم، بأننا كان يمكن أن نكون كل شيء، لكننا، بدلاً من ذلك، لا شيء. قلت ذلك بألم لأنني أفكر بمكامن الضعف التي تمتص القوى التي نحتاج إليها لنخوض هذه المعركة الجوهرية، من أجل الحاضر وقبل كل شيء من أجل الأجيال المستقبلية. لذا، فإن مثل هذه الأفكار هي ما دافعنا وندافع عنه في كل مكان: الأفكار التي تتيح لنا أن نتصور المستقبل بحق. ولا أعتقد أنني الوحيد الذي يفكر بهذه الطريقة. هذه الأفكار قوية ومنطقية. وأعتقد أن الوعي بهذه الظاهرة سيزداد، وهذه القمم دليل على ذلك.

أسأل هذا السؤال لأن هناك من بدأ العد العكسي بالنسبة إلى كوبا. يقولون: «لقد سقط جدار برلين»، «انهار العالم الاشتراكي»، «الاتحاد السوفياتي يتفكك»، «لقد هُزمت الماركسية»، «كوبا تتجه نحو تحول، نحو تغيير، نحو نهاية للمشروع الذي حملته حتى الآن».
حسناً، أعتقد أن الحركة الثورية، الحركة التقدمية بشكل عام، تمر بمرحلة صعبة. وحقيقة أن كل هذا الكلام يقال هو دليل على ما قلته آنفاً: إن الإيديولوجيا في هذه اللحظة أقوى وأشد هيمنة من أي وقت مضى، إلا أنها إيديولوجيا رجعية.
الاشتراكية أمر جديد، لا تزال جديدة جداً، لم تظهر في العالم إلا أخيراً. أمّا الرأسمالية فعمرها آلاف السنين - إن لم يكن الرأسمالية بالمعنى الحديث، فبوادر الرأسمالية. صحيح أنه قد حصلت نكسات في أوروبا الشرقية، وأن الاتحاد السوفياتي يمر بمصاعب هائلة. لكن هل اختفت من العالم الأسباب التي نشأت منها الثورات العظمى؟ الأسباب التي ولّدت الاشتراكية؟ على العكس، أعتقد أن هذه الأسباب حاضرة أكثر من ذي قبل. إذا نظرت إلى البيانات الإحصائية، فإن عدد الجوعى في العالم أكبر من أي وقت مضى. يعيش أربعة مليارات إنسان حول العالم في الفقر والتخلف. ومن أين يأتي هذا التخلف؟ إنه يولد من الاستعمار، من الرأسمالية، من استغلال شعوبنا ونهبها.
بالنسبة إلى الأفكار التقدمية والاشتراكية، فستولد من جديد، أقوى من ذي قبل، كالعنقاء التي تصعد من الرماد الذي يلفّنا اليوم. فما الذي حلّته الرأسمالية؟ إنها لم تحل أي مشكلة. لقد نهبت العالم، وأورثتنا جميعاً هذا الفقر. لقد خلقت أنماط حياة ونماذج استهلاكية لا تتوافق مع الواقع. لقد سمّمت القنوات، والمحيطات، والأنهار، والبحيرات، والبحار، والجو، والأرض. لقد خلقت هدراً مذهلاً للموارد. كم سيكفينا النفط؟ كم سيدوم الغاز الطبيعي؟ كم ستدوم الموارد الطبيعية؟ ما الذي سيتبقّى من طبقة الأوزون؟ كم سيتبقّى من الأوكسيجين على وجه الأرض؟ ما الذي سينتج عن ثاني أوكسيد الكربون؟ كل هذه الظواهر التي تغير بيئة عالمنا تجعل الحياة على كوكبنا أصعب فأصعب باستمرار. هل قدّمت الرأسمالية للعالم نموذجاً يُحتذى به؟ مثالاً لتحاكيه المجتمعات؟ ألا يجدر بنا أن نركز على أشياء أشد عقلانية؟ كتعليم كل السكان؟ كالتغذية، أو الصحة، أو السكن الكريم، أو الثقافة السامية؟ هل بوسعك أن تقول إن الرأسمالية، بقوانينها العمياء، بأنانيتها التي تتخذها مبدأً أساسياً، قد منحتنا نموذجاً يُحتذى به؟ هل دلّتنا على طريق إلى الأمام؟ هل ستسير البشرية على الخطى التي خطتها حتى الآن؟
قد يكون هناك حديث عن أزمة في الاشتراكية، لكن هناك أزمة أكبر في الرأسمالية، ليس لها أي مخرج. إنها لا تملك أي حل لمشاكل البشرية الكبرى. على الإنسان أن يمتلك القدرة على رسم مساره وتخطيط حياته، وعلى توظيف الموارد البشرية والطبيعية بعقلانية، بدلاً من هذا السباق المجنون الذي لم يقدنا إلى أي مكان، ولن يقودنا إلى أي مكان. إنني أربط الاشتراكية بالأفكار الجديدة، بالتطور، بالتقدم، بقدرة الإنسان على تصميم حياته ومجتمعه، وعلى تصور نفسه في المستقبل. الرأسمالية لا تعد بشيء من هذا.
ما يدور حالياً في الأرجاء هو نوع من الحماس، بمعنى أننا «يجب أن نفتح الأسواق»، «يجب أن تكون اقتصاداتنا...». يقولون لنا إننا نتجه نحو مجتمع من الفرص، والحرية، والديموقراطية. وفي الوقت نفسه، نرى الجماهير في تشيكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا، وهذه البلدان، في حالة من النشوة التحررية، إن صح التعبير.
باختصار، كان هناك تأثير كبير للغرب. لا تنسَ أن الاشتراكية نشأت في أكثر بلدان أوروبا تخلفاً. لقد كانت مجتمعات زراعية. لا تنسَ أيضاً أن نشوءها ظرفي، وهو ما لم يحدث في كوبا. لقد كانت ثورتنا محلية تماماً، كما كانت الثورة المكسيكية. كانت الثورة نتاج قراراتنا نحن. لم يفرضها علينا أحد. لذا فإن الوضع مختلف كثيراً عما هو عليه في تلك البلدان، التي ارتكبت فيها أخطاء كثيرة.
لكن كانت هناك أيضاً معركة إيديولوجية، فوجود مجتمع استهلاكي كان له أثر عظيم. الكثيرون ظنوا أنهم سيستيقظون في اليوم التالي ليجدوا أنفسهم يعيشون كما يعيش الناس في باريس أو لندن، أو حتى إنهم لن يضطروا للذهاب للعمل. كانت هناك أوهام كثيرة. كان الأمر أشبه بمن يسير في الصحراء ويظن أنه يرى في البعيد واحات وأنهاراً وأشجار نخيل، ليتبين له أنها ليست سوى سراب. هؤلاء لم يروا الجانب المظلم الرهيب للمجتمعات الغربية: اللامساواة، الظلم، انعدام الأمان، حياة الاغتراب، المنافسة المسعورة بين البشر، الغابة التي هي الرأسمالية، حيث يجب أن ينتصر الأقوى، وينتصر الأقوى فعلاً.
ليس مهماً أن تشير إلى حالات معزولة في لحظات تاريخية محددة، حدث فيها أن اغتنى بعض الناس بعدما كانوا فقراء جداً، كسندريلا التي تزوّجت الأمير الوسيم. هناك قصص كهذه، لكنها باتت جزءاً من الماضي، فالفرص الآن محجوزة لكبار الموظفين التنفيذيين الذين درسوا في جامعات النخبة ويتحدّرون من عائلات تملك الأسهم في شركات كبرى عابرة للحدود. أي فرص تتاح للفقراء، لأبناء الفلاحين، لأبناء العمّال؟ في حالتي، فإنني أتذكر الأولاد الذين كانوا في مثل سنّي. كنت ابن صاحب الأرض، الوحيد الذي استطاع الالتحاق بالمدرسة وبلوغ الصف السادس، الوحيد الذي تخرّج من المدرسة الثانوية ودخل الجامعة ليكتسب الحد الأدنى من الثقافة التي تؤهله للعب دور ما في حياة شعبه. لو كنت ابن أحد هؤلاء الفلاحين، لكنت قد مت من الجوع، أو من أحد الأمراض الشائعة التي كانت تمر دون علاج. لذلك، لا يمكنني أن أصدّق هذه الخرافات، لأنها تتبدد في وجه كل ما علّمتني إيّاه الحياة عن حقائق هذا العالم.

في كوبا، حيث حظينا بفرصة الحديث مع الناس، هناك أشخاص يقولون اليوم: «لقد تخرّجت، أنا مهندس، وأريد الآن أن أرى الولايات المتحدة»، أو يريدون المزيد من الفرص.
نحن لا نمنع أحداً من الذهاب لرؤية الولايات المتحدة؛ بل الولايات المتحدة هي من يمنع الناس من المجيء إلينا. أوّلاً، كل من يريد الهجرة إلى الولايات المتحدة يمكنه ذلك، وثانياً، لقد سهّلنا أكثر فأكثر زيارة الولايات المتحدة لمن يريد. هناك عشرات آلاف الأشخاص ممّن يسافرون إلى الولايات المتحدة كل سنة ويعودون.
القصد أننا لا نمنع الناس من السفر، لأن السفر معرفة، إنه تجربة. لكن بالطبع، الثورة تتطلب التضحية. فنحن لسنا بلجيكا، لسنا هولندا أو سويسرا، هذه دول متطورة، أو حتى فائقة التطور. نحن دولة في العالم الثالث عليها أن تعمل بجد حتى تطور نفسها. وهذه الظاهرة ليست محصورة في كوبا. ملايين المكسيكيين، في هذا البلد الغني بالنفط والذي لديه مستوى محترم من التنمية الصناعية، يعبرون الحدود كل عام، رغم الجدار. هناك حديث عن جدار برلين، لكن لماذا لا نتحدث عن هدم هذا الجدار الضخم الذي بنته الولايات المتحدة على حدود المكسيك؟ يُقدّر أن مليون مكسيكي يُعتقلون سنوياً على الحدود ويُرحّلون. إذا كنا سنتحدث عن الحدود، فلم لا نهدم هذا الجدار؟ لم لا ندع كل مكسيكي ممن يريد أن يزور عائلته أو يبحث عن عمل في الولايات المتحدة من السفر إليها إن رغب؟
إذاً، لدينا ظاهرة تتمثل في هجرة كثيرين من بلدان العالم الثالث، من آسيا، من أفريقيا، من أميركا اللاتينية. هذه ليست قضية خاصة بكوبا. نحن في كوبا محاصرون من الولايات المتحدة. لأكثر من 30 عاماً، فعلوا أشياء لا توصف لعرقلة تطورنا الاقتصادي. ونحن أيضاً نعاني من التبعات الاقتصادية لسقوط الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، التي كنا نقيم معها الجزء الأكبر من تجارتنا، بالإضافة إلى النكسات التي لا يمكن إنكارها للاتحاد السوفياتي. إننا نمر بلحظة تاريخية خاصة.

هل اختفت من العالم الأسباب التي نشأت منها الثورات العظمى؟ الأسباب التي ولّدت الاشتراكية؟ على العكس


من المنطقي أن يوجد دوماً أشخاص يريدون السفر إلى الولايات المتحدة، لأن هناك دوماً أشخاصاً دوافعهم ليست من النوع الوطني أو السياسي أو الثوري، ممن يفكرون فقط بتحسين مستوى حياتهم أو جني المزيد من الأموال. إذا كان الدخل الذي يمكنك أن تحققه في بلد رأسمالي متطور يبلغ 15 أو 20 ضعف ما يمكنك أن تجنيه في بلد من العالم الثالث، فإن ظاهرة الهجرة هذه تصبح منطقية.
قد تخبرني أن هناك شخصاً يقول: «لقد أصبحت مهندساً»، لكنني أعرف آلاف المهندسين الذين درسوا الهندسة وكرّسوا حياتهم لبلدهم، ولمهمة تطويرها. أعرف عشرات آلاف العلماء المتقدمين في مجالات البحث المختلفة، في العمل العلمي والتكنولوجي، الذين يفتخرون ببلدهم، وبثورتهم، وقد كرّسوا عملهم بالكامل لمساعدة بلدهم على النجاح في ظل هذه التحديات والصعوبات الهائلة. ما من بلد على وجه الأرض يمكنه أن يفخر بشعب أكرم وأجمل وأكثر تضامناً من شعبنا. لقد هاجر أشد الناس موهبة في أميركا اللاتينية إلى أوروبا والولايات المتحدة، بحثاً عن فرص أفضل للبحث، ورواتب أفضل، ومستوى أفضل للعيش. كان هذا نهباً مستمراً للمواهب. في المقابل، في كوبا، فإن أفضل المواهب العلمية والتقنية تبقى في البلد وتعمل من أجله بروح وطنية وثورية عظيمة.

لكن كم على كوبا أن تضحي؟ ألم يحن الأوان للسماح ببعض الاختراقات؟
حسناً، أعتقد أن علينا جميعاً في العالم الثالث أن نضحي؛ إننا نفعل ذلك منذ قرون. فمنذ 400 سنة، والشعوب الأفريقية تتعرض للنهب والاختطاف، ليحكم عليها بالعبودية في هذا النصف من الكرة الأرضية. والشعوب الأصلية في هذا النصف من العالم عانت منذ 500 سنة، وهُمشت وأُجبرت على تضحيات لا حصر لها. لقد قدّمت البشرية تضحيات جمّة لآلاف السنين، وظلت دوماً تحلم بغد أفضل، في هذه الحياة أو في التي بعدها. اضطر مليارات البشر للاكتفاء بفكرة أن حياة أفضل أمر ممكن، وما زالوا يفعلون.
الآن، للمرة الأولى، بات لدى البشرية أمل حقيقي بمجتمعات عادلة بحق، بروح حقيقية من المساواة والإخاء والحرية - هذه المُثل والشعارات الشهيرة للثورة الفرنسية، التي انتشرت في كل العالم لكنها لم تتحقق في أي مكان. فأي حرية يتمتع بها المتسوّل أمام المليونير؟ أي مساواة توجد بينهما؟ أي إخاء؟ بلدنا ليس غنياً، لكنك لن تجد فيه مشرداً أو متسولاً أو طفلاً حافياً واحداً يستجدي في الطريق، لن تجد فيه أمّياً أو عاطلاً من العمل. نحن لا نلقي بأحد إلى الشارع، بل نوزع ما نملكه. هذه أهدافنا؛ هذه مُثلنا. وأنا أعتقد أنها أكثر إنصافاً ومساواةً وتضامناً وإخاءً وحرية بكثير، وأتساءل إن كان بوسع مجتمع رأسمالي أن يتحدث بهذه اللغة.

لكن في هذا الإطار، لم لا تفتحون الباب للحريات السياسية؟
المشكلة هي أن القوى في بلدنا مستقطبة: هناك من هم مع كوبا ومن هم مع الولايات المتحدة. وطالما استمرت هذه الحقائق لا يمكن أن نعطي العدو أي مجال لينفذ مهمته التاريخية المتمثلة في تدمير الثورة.

وهذا يعني ضمنياً أنه لن يسمح بالمعارضة السياسية في كوبا؟
إذا كانت معارضة موالية لليانكي، فلن يُسمح بها. لكنّ كثيراً من الناس يفكرون بطرق مختلفة في كوبا ويُحترمون. نحن نسعى للتعددية داخل حزبنا. فمثلاً، ليس الحزب هو من يسمي المرشحين، بل هيئات الأحياء، ونسبة المشاركة في انتخاباتنا أكثر من 95%. لكنك طبعاً لن تسمع بهذا في الولايات المتحدة. هم لن يظهروا لك كيف يعمل مجتمعنا فعلاً. وأنت تعلم أن هناك احتكاراً هائلاً في وسائل الإعلام في العالم، لكن هذه الحقيقة يتم تجاهلها.

لكن أليست دولة الحزب الواحد إطاراً مقيّداً للديموقراطية؟
على حسب الديموقراطية. بالنسبة إلى الديموقراطية الثورية، لقد كانت إطاراً واسعاً. أن تكون عضواً في الحزب يعني أن تستحق احترام الناس، لكنه أيضاً يتطلب جهداً وتضحيات عظيمة. أشد الناس في بلدنا تقدماً وثورية وتضحية بالنفس هم في الحزب، ونحن نعتقد بأن حزبنا أتاح درجة من المشاركة الشعبية لا توجد في أي مكان آخر في العالم.

لكنّ الناس يصرون على السؤال: لم لا توجد انتخابات في كوبا؟
لماذا يتجاهلون أنه توجد انتخابات في كوبا بالفعل؟ إننا نعقد الانتخابات كل سنتين ونصف سنة، وكل خمس سنوات يُنتخب المجلس الوطني، الذي يَنتخب بعدها مجلس الدولة، عبر آلية انتخابية يسمي فيها الناس مرشحيهم مباشرة.

وماذا عن الرئاسة؟
المجلس الوطني يُنتخب، ثم يَنتخب مجلس الدولة، الذي بدوره يَنتخب الرئيس. أنا كرئيس لديّ صلاحيات أقل من أي رئيس آخر في أميركا اللاتينية. إن كان سؤالك عمّا إذا كان لديّ سلطة، فنعم، لديّ سلطة، ولديّ تأثير. لكن السلطة التي أملكها من نوع مختلف: إنها سلطة أخلاقية؛ سلطة مستمدّة من تاريخنا. لكن لا يمكنني تعيين الوزراء أو السفراء. أشارك في مجلس الدولة كغيري من الأعضاء في انتخاب المسؤولين الكبار. ورئيس كرئيس الولايات المتحدة يملك صلاحيات تنفيذية أكثر بكثير ممّا أملك. لديه امتيازات وسلطات وحيّز حركة أكبر من إمبراطور روما. بوسعه أن يعلن حرباً نووية، دون موافقة الكونغرس، دون استشارة أحد. تخيّل! هل هناك أي شيء أخطر من الحرب النووية؟ لذلك، إذا دقّقنا بعمق، سنجد أن جبلاً من الافتراضات والحجج الخاطئة تُستخدم ضد كوبا.

مع ذلك، فهي تظل اعتراضات شائعة جداً.
وكيف تفسر ذلك؟ ليس لدينا الوصول الإعلامي الذي تملكه الإمبراطورية. روما الجديدة تخلق الرأي العام، والكل يصدقها. يمكنني أن أحادثك لساعات. لكن حين تفكر بعدد الناس الذين ستتاح لهم مشاهدة هذه المقابلة، فهو واحد بالألف ممّن تتاح لهم مشاهدة وسماع ما تبثّه سلاسل المحطات التلفزيونية الكبرى في الولايات المتحدة.

لكن، في عالم مفتوح إلى هذا الحد، أليس من المستحيل الحفاظ على نظام مغلق؟
ما الذي تقصده بنظام مغلق؟ لعل سؤالك هو هل يمكن في هذا العالم الرأسمالي للمُثل الاشتراكية أن تبقى حية في بلد واحد أو بضعة بلدان. أنا أقول إن هذا واجبنا الأساسي، لأننا رجال مبدئيون وسنحارب إلى آخر نفس للدفاع عن هذه الأفكار. لا أظن أن التاريخ سيديننا بسبب ذلك. ولأن هذا العالم ظالم إلى هذا الحد، فلا يمكن أن يستمر إلى الأبد. وإن كان علينا أن نصبح شهداء هذه الأفكار، فلن نرى في ذلك خسارة.

لم يمكن تحديد هوية الصحافي الذي أجرى المقابلة ولا هوية الوسيلة الإعلامية التي أجريت لصالحها، إلا أنه يمكن الرجوع إلى التسجيل المصوّر للمقابلة: