«... الاحتمالات التاريخية الثلاثة هي ماثلةٌ أمامنا حقّاً (عالم متشظٍّ تحكمه اقطاعيات محلية، عالم «الفاشية الديموقراطية»، وعالمٌ غير مركزي أطرافه متعددون ومتساوون)؛ الخيار سيعتمد على سلوكنا الجماعي على مستوى الكوكب ككلّ في السنوات الخمسين القادمة. ولو تمّ سلوك أيّ من هذه السبل فهذا لن يكون نهاية التّاريخ بل، بمعنى ما، بدايته. العالم الاجتماعي الانساني لا يزال طفلاً صغيراً بالمقاييس الكونيّة… بحلول سنة 3000 قد ننظر إلى حضارتنا الرأسمالية… كمرحلة انحرافٍ واستثناء، ولكنّه انحرافٌ كان ضرورياً من أجل الوصول إلى عالمٍ أكثر عدلاً… أو قد نراها باعتبار أنها كانت نمطاً للاستغلال البشري غير مستقرٍّ بطبعه، عاد بعده العالم إلى أشكالٍ أكثر استقراراً»
[إيمانويل والرستين، 1995]



توجّهت الأنظار، في الأيّام الأخيرة، إلى الصين وهي تدشّن حاملة الطائرات الثالثة في اسطولها (سمّاها الصينيون «فوجيان»، ولكن الخبراء العسكريين يستخدمون غالباً اسمها الرّمزي Type 003، والتسمية هنا لها مغزى). مشروع الحاملات الصينية حالة نموذجيّة عن منهج الصين في المشاريع الكبرى «الستراتيجية» (سواء كان ذلك في انتاج السفن أو القطارات السريعة أو المفاعلات النووية). تراكم، أوّلاً، قاعدة صناعية في المجال الذي تبتغي الخوض فيه، ثمّ تستحصل على تصميم أجنبي، ثمّ تتعلّم أن تستنتسخه بنفسك، ثمّ تطوّره وتبني - اعتماداً على هذه الخبرة - تصاميمك الخاصّة. لهذا السّبب كانت الصين تصرّ على بنود نقل التكنولوجيا وخبرة التصنيع في كلّ العقود مع الشركات الأجنبية.
«فوجيان» هنا هي النّسخة الثالثة من مشروع حاملة الطائرات الصينية: الأولى كانت حاملة سوفياتية قديمة غير مكتملة، تمّ شراؤها من أوكرانيا وترميمها وتحويلها إلى منصّة للتدريب والاختبار. الثانية كانت محاولة صينية في تقليد بناء تلك الحاملة مع ادخال تعديلاتٍ وتحسينات محدودة؛ و«فوجيان» هي تصميمٌ صينيّ بالكامل تقريباً، تختلف عن أختيها في الحجم والتقنية ومنظومة الطاقة وكل شيء تقريباً. للدلالة على مفهوم «حرق المراحل» هنا، انتقلت الصين من نمط الحاملات التي «تقفز» عنها الطائرة بعد اقلاعٍِ قصير، بفضل منحنىً موجودٍ في آخرها، إلى نمط «المنجنيق»، وهو نظام ميكانيكي معقّد يمسك بالطائرة ثمّ يتسارع ويقذفها بقوّة من على سطحٍ مستوٍ (وهذا يسمح بإطلاق طائرات بحمولة أكبر، ذخيرةً ووقوداً، وطائرات كبيرة لمهام الاستطلاع). الدولة الوحيدة في العالم التي أدخلت تقنيّة المنجنيق على حاملاتها هي الولايات المتّحدة الأميركية (مع استثناء وحيد هو «شارل ديغول» الفرنسية). ولكنّ الصين لم تزوّد حاملتها بمنجنيق بخاري تقليدي، بل قفزت مباشرة لاعتماد منجنيقٍ كهرو-مغناطيسيّ، هو تكنولوجيا جديدة بالكامل، يتمّ تجريبها اليوم على الجيل الجديد من حاملات الطائرات الأميركيّة (وهو يؤدّي، بسبب حداثته وتعقيده، إلى مشاكل كبرى في البحرية الأميركية حالياً). فوق ذلك، فإنّ «فوجيان» نفسها ليست سوى «مرحلة انتقالية» أخرى قبل أن نصل إلى «تايب-004»، النّسخة النهائية النّاضجة على ما يقال، والتي ستكون بدفعٍ نووي (على المنوال نفسه، قرأت أخيراً مقولةً تفيد بأن الحياة تبدأ حقّاً بعد الأربعين، فكلّ ما تفعله قبل ذلك هو أنّك تجري أبحاثاً - أتمنى أن تكون صحيحة).
الفكرة هي أنّ الصّين فهمت أنّ عليها أن تبني نفسها كقوّة جو-بحريّة، وهما المجالان الأكثر تركيزاً للتقانة ورأس المال، ومن هنا انقلبت الأولويات في الجيش الصيني وتراجع سلاح البرّ (الذي كان هائلاً في الحجم، وركيزة الدفاع الأساس في العقيدة الصينية) إلى الخلفيّة، فيما انصبّ الاستثمار على الجوّ والبحر. لدى العديد من المنظّرين العسكريين ما يشبه «القانون» في عرفهم، مغزاه أنّك لا يمكنك أن تتقن الأمرين معاً، أي أن تبني جيشاً برّياً ضخماً و، في الآن نفسه، اسطولاً ينافس القوى البحرية الكبرى. وهم يضيفون بأنّ هذا الوهم كان لعنةً ووبالاً على كلّ من طمح إليه: نابليون أهدر كمّاً هائلاً من الموارد وهو يحاول منافسة البحرية البريطانية، فكان كلّما يبني اسطولاً يدمّره البريطانيون، ولم يتمكّن من منعهم من قطع مواصلاته البحريّة. القيصر الألماني ارتكب الخطيئة ذاتها حين طمح لأن يكون قوّةً قاريّة وبحريّة في آن، بدلاً من التركيز على حسم المعركة في البرّ الأوروبي؛ وكانت النتيجة أن أسطوله الضخم لم يغيّر شيئاً في المعادلة ولم يمنع الحصار عن ألمانيا. لهذا السّبب، مثلاً، لم يحاول الاتحاد السوفياتي أن ينافس أميركا في عرض المحيطات، وركّز بدلاً من ذلك على بناء اسطولٍ كبيرٍ من الغوّاصات الخفيّة؛ فيما ظل الجيش الأميركي يومها (كجيش الإمبراطورية البريطانية قبله) أصغر حجماً من العديد من القوى القاريّة المنافسة.
في أواخر القرن التاسع عشر، حين فكّر القيصر الرّوسي ببناء اسطولٍ حديثٍ يجاري القوى البحرية الأوروبية في المحيطات، طلب استشارةً من يان بلوخ، فكتب الباحث والمنظر العسكري رأياً بمعنى أنّ الحصول على اسطول «مياه زرقاء» ولكنّه أقلّ مستوى من أساطيل القوى الكبرى يعني شيئاً واحداً، هو أنّ هذا الأسطول - في ساعة الحرب – لن يكون أكثر من «رهينة» في يد العدوّ: قطعٌ ثمينة تحاول أن تخبّئها وتحميها من التدمير. والجميع يعرف ما حلّ بالأسطول الروسي عند أوّل محاولة لاستخدامه ضدّ قوة بحري محترفة عام 1905، وكيف كان ذلك بداية سقوط القيصرية. المعادلة ذاتها، بالمناسبة، تنطبق على سلاح الجوّ في دولٍ فقيرة أو صغيرة تواجه تهديداً غربياً (ولهذا السبب أنا ضدّ أن تشتري دول مثل العراق، مثلاً، أي طائرة مقاتلة أغلى ثمناً من «السو-25»).
لماذا تستثمر الصّين كلّ هذه الموارد لكي تصبح قوّةً بحريّة؟ التفسير بسيط: إن كنت مسؤولاً صينياً ونظرت إلى خارطة العالم، فإنّ أول ما سيلفتك ويثير قلقك هي مجموعةٌ من المضائق والمعابر، ستكون مشكلة إن أغلق أيّ منها عليك: مضيق ملقا، قناة السويس، رأس الرجاء الصالح، جبل طارق، إلخ. وكلّ امبراطورية قامت على مستوى العالم في القرون الخمس الماضية كان عمادها القوة البحرية التي تسيطر على هذه النقاط و«تحميها».

السباق على المستقبل
لكنّ شؤون العالم وموازينه لن تحسم بالقوّة العسكريّة، ولا أعتقد أنّ الصّين تبني تحضيراً للحرب، بل لمنعها (باستثناء حالة تايوان، التي تراها الصين جزءاً منها، وتعتبر أن هذا موقف القانون الدولي أيضاً). في عصر العولمة الكثيفة، لا يمكن أن نفهم «خارطة» العالم من دون منظور الاقتصاد السياسي؛ وعبره أيضاً نفهم معنى العلاقة المعقّدة بين الصّين والغرب. الكلمة الأساس هنا هي «الاعتماد المتبادل» (interdependence)، وهي ليست مسألة ببساطة أنّ الغرب يريد سلعاً رخيصة والصّين تريد التّصدير، وقد بنيت حول ذلك سلاسل انتاجٍ وتوريدٍ، إلخ.
يجب أن نعود هنا لهنيهةٍ إلى معنى التبادل في السوق الدولي ولماذا تقوم الدّول، أصلاً، بالسّعي إلى التصدير. لو أنّك تمعّنت في أنماط التجارة الدولية، ستجد أنّ هناك دولاً هي «مصدّرة» بشكلٍ «بنيويّ» مستمرّ (مثل اليابان والصّين)، وتحصّل دوماً فوائض كبيرة في ميزانها التجاري؛ وهناك على الجانب الآخر دولٌ تستورد منذ عقودٍ بأكثر مما تصدّر - مثل أميركا وبريطانيا - ولا تمانع بأن تراكم عجزاً شبه دائمٍ في ميزانها التجاري مع الخارج. الدّول «التصديرية»، مثل ألمانيا واليابان، لديها حافزٌ للبيع في أسواق الخارج أساساً لأنها تملك سوقاً داخلياً محدوداً في الحجم، وهو ناضجٌ وثريّ، فلن يزداد الاستهلاك فيه بسهولة ولن تتمكّن من تحقيق النموّ إلا عبر بيع سلعك في الخارج والبحث عن زبائن أجانب لما تنتجه. أمّا الدّول التي تستورد بعملتها الوطنيّة (كأميركا) أو تدخلها رساميل كبيرة بفضل المصارف والخدمات وغيرها، فهي لا تحتاج إلى «تغطية وارداتها» أو تحقيق النموّ عبر التصدير، بل هي تبحث عن السّلع الأفضل والأقلّ ثمناً بغض النظر عن مصدرها.
الصّين حالةٌ فريدة هنا، فهي تشبه ألمانيا واليابان ولكن مع اختلافٍ أساسيّ: سوق الصّين ليس صغيراً ومحدوداً، بل هو «فقير» في القدرة الاستهلاكيّة، لا يقدر على امتصاص كامل الطاقة الصناعية المتاحة للبلد (إضافةً إلى موضوع الدّخل، فإنّ المواطنين الصينيين اعتادوا طوال العقود الماضية على نمطٍ فيه مبالغة في الادّخار وكبح الاستهلاك، وهم اجمالاً يفضلون توفير المال، أو وضعه في ملكيّةٍ وعقار، بدلاً من صرفه). بطبيعة الحال، حين كانت الصّين تراكم قدرتها الصناعيّة وتقتحم الأسواق، فهي كانت «تحتلّ» مكان آخرين في دورة الانتاج وتستبدلهم، وهنا معنى الاعتماد المتبادل: يحتاج الغرب إلى سلع الصّين التي لا يمكن استبدالها من دون التضحية بنمط الحياة الغربي ومستواه، والصين تحتاج إلى تصريف فائضها الصناعي وإلى أسواقٍ تشتري كلّ الهواتف والبطاريات والملابس وشرائح الكمبيوتر التي تُصنع على أرضها وبأيدي عمّالها (رغم أنّ سوق الشرائح تسيطر عليه شركات غير صينيّة، فإن كمّا كبيراً منها يتمّ انتاجه في مصانع لها داخل الصّين).
المعضلة هنا هي أنّ هذه الحالة هي «انتقاليّة» بطبيعتها، والطرفان يودّان التحرّر من «الاعتماد» أوّلاً. الأوروبيون والأميركيون يتحدّثون عن «تقصير سلسلة الانتاج»، ونقل صناعاتٍ إلى دولٍ غير الصين أو إلى بلاد المركز نفسها. والهدف المعلن للقيادة الصينيّة هو أن تكمل عمليّة التنمية وتوزيع الثروة حتّى يصبح لديها سوقٌ داخليُّ ثري وكبير، يكون هو المحرّك الأساسي للنموّ. بمعنى ما، هذه هي «الاستراتيجية» الحقيقية للقيادة الصينيّة على المدى البعيد: أن تصل إلى حالةٍ تشبه حالة الولايات المتحدة الأميركية بعيد الحرب العالمية الثانية. أي أن تكون أكثر الدول كفاءةً وغزارةً في الانتاج وأنت، في الوقت نفسه، لا «تحتاج» إلى التّصدير من أجل أن تعيش. هنا، قد تصبح الصادرات بمثابة «ترف»، تصريف لفائض انتاج تستخدمه في بناء العلاقات والنفوذ حول العالم (كما فعلت أميركا مع القمح والنفط وسلعٍ أخرى في النصف الثاني من القرن العشرين). هنا الهدف النهائي لبيجينغ، وليس «الحرب الفاصلة» مع البحرية الأميركية في بحر الصين الجنوبي - وسنشرح أدناه لماذا من الصعب أصلاً أن تقع مثل هذه الحروب.
أمّا في الوقت الحالي، فلا غنى عن «الاعتماد المتبادل»، الخبراء الغربيون يؤكّدون أنّ فكرة التخلي عن السلع الصينية، في المدى المنظور، هو عبارةُ عن وهم، وأنّ الاضطرابات واختلال شبكات التوريد وارتفاع الأسعار التي حصلت إثر حرب أوكرانيا ستكون بمثابة سحابة صيفٍ عابرة أمام ما سيحصل إن اختلّت، فجأةً، التجارة مع الصّين. بهذا المعنى، جعلت الصّين نفسها عنصراً «غير قابل للاستبدال» في النظام الدولي، وهنا المصدر الحقيقي لحصانتها قبل السّلاح والأساطيل.

خطّة بوتين
نشر الكاتب الأميركي غاري بريكر (اسمه الحقيقي جون دولان) مقالاً طريفاً، يسخر فيه من أيّام مراهقته، في عزّ الحرب الباردة، حين كان هو وجيله مقتنعين بأنّ جحافل الدبابات السوفياتية هي - دوماً - على وشك اجتياح أوروبا الغربيّة. عاش الكاتب ومن حوله حياةً كاملة وهم يتخيّلون «المواجهة» الكبرى، ومن أين ستدخل المدرّعات وماذا سيفعل «الناتو»، وكانت الأفلام تُنتج والروايات تُكتب في تخيّل تلك الواقعة وتصويرها. المشكلة، يقول بريكر، هي أنّ هذه الحرب التي انتظروها طويلاً ما كانت لتحصل وهي، إن حصلت، فلن تأخذ شكل طائرةٍ في مواجهة طائرة وجندي يستهدف دبّابة، بل ستتحوّل بسرعةٍ إلى مواجهةٍ نووية وسحبٍ مشعّة ترتفع في كلّ مكان - وهنا لا يهمّ تقنية الرادار ونوع الدبابة وعيار المدفع. القادة على الجانبين كانوا يفهمون هذه المعادلة، يكتب بريكر، ويخططون لها بصمتٍ بعيداً عن الأضواء، فيما الروائيون يخترعون سيناريوهات مستحيلة لتقديم حرب تظلّ «كلاسيكية» بين «ناتو» و«وارسو» - فمن الصعب أن تكتب رواية أو فيلماً عسكرياً طويلاً عن حربٍ نووية، إلا إن كان على طريقة «ماد ماكس».
الفكرة هي أنّ «الحرب» التي يتخيّلها البعض بين روسيا و«الناتو» لن تحصل للسبب ذاته. ولهذا لا يهمّ كثيراً إن كان لـ«الناتو» 300 ألف جندي في أوروبا أو 300. فإن كان هناك من أمرٍ مؤكّدٍ يعرفه الجميع، فهو أنّ روسيا لا تنوي خوض حربٍ تقليديّة ضدّ «الناتو» مجتمعاً (إن فرض عليها ذلك). وهنا مصدر الخطورة في الوضع الحالي، وخطر الاحتكاك بين روسيا وبين دولٍ «ناتوية» تجاورها: هل يقبل «الناتو» بالتفكّك وبترك أحد أعضائه من غير حماية، أم يخاطر بحربٍ ذريّة لا يمكن حصرها؟ يكتب غاري بريكر عن مرحلة السبعينيات أنّ نظرةً واحدة إلى صورة لبريجينيف كان يجب أن تفهمك بأن الحرب في أوروبا لن تحصل، فهذا ليس وجه رجلٍ ينتوي الموت في محرقةٍ ذرّية، بل وجه انسانٍ يريد التقاعد إلى عمرٍ مديدٍ في مكانٍ مريحٍ ومترف. وأنا أعتقد أنّه، في ساعة الحقيقة، فالأمر نفسه ينطبق على القادة والنخب الغربيّة التي تحكم أوروبا وأميركا اليوم (أمّا بالنسبة إلى بوتين، فأنا لست متأكّداً).
بناء هذه المنظومة له جانبٌ عسكري (قد لا يتوقّف عند أوكرانيا) ولكن من ناحيةٍ أخرى، فإن الاختبار الحقيقي لروسيا هو في أن تجعل نفسها - كما الصّين - دولةً «لا يمكن استبدالها»


تعلّم الروس منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي أنّ السلاح النووي، وإن أمّن حصانة، فهي حصانةٌ محدودة وغير كافية (والهند وباكستان وإسرائيل كلّها دول لم يعصمها السلاح النووي من أشكالٍ كثيرة من المخاطر). قد يحاولون التدخّل في ساحتك السياسية، قد يحاولون ضربك اقتصادياً وحصارك بالعقوبات، قد يحيطونك بحكومات معادية ونزاعات جانبية لا تنتهي؛ هذه كلّها اختراقات يمكن أن تحصل من دون عبور «الخطّ النووي». من هنا، فمن الطبيعي أن تكون لفلاديمير بوتين، في هذه الحرب، خطّةٌ بعيدة المدى، وأنّه يريد عبرها فرض وقائع جديدةٍ معيّنة على الأرض، لا انتظار وساطةٍ غربيّة أو مخرجٍ له يقدّمه خصومه. أقول أن «خطّة بوتين» هي دفاعيّة الطابع، هدفها توفير «مساحة آمنة» لروسيا ضمن النظام العالمي تكون فيها – على الأقل - في معزلٍ عن التدخلات الخارجية والمخاطر المباشرة على حدودها.
بناء هذه المنظومة له جانبٌ عسكري (قد لا يتوقّف عند أوكرانيا) ولكن من ناحيةٍ أخرى، فإن الاختبار الحقيقي لروسيا هو في أن تجعل نفسها - كما الصّين - دولةً «لا يمكن استبدالها» في النظام الدّولي، ولا يمكن حصارها، وقد يكون هنا المعنى الحقيقي للقوة العظمى. النظرية هنا هي أنّ روسيا تنتج أكثر من عشرة ملايين برميلٍ من النفط يومياً، ولا توجد طاقة احتياطية في العالم تكفي لاستبدالها، وهي «تشرف» على تصدير أكثر نفط كازاخستان. في الوقت ذاته، حققت روسيا في الزراعة شيئاً يشبه ما فعلته الصين في الصناعة، حين تحوّلت إلى أكبر مصدّر حبوبٍ في العالم. الاحتباس الحراري، على ما تقول التقديرات، سيزيد في العقود القادمة من امكانات الزراعة لمساحات واسعة من سيبيريا وشرق روسيا الأقصى. وهو أيضاً قد يجعل روسيا تتحكّم بشريانٍ تجاريّ مهمّ، أي الطريق البحري الشمالي عبر الدائرة القطبية. صحيحٌ أن صادرات روسيا قليلة نسبياً وليست متنوّعة، ولكنها تميل لأن تشكّل نسبةً وازنة من التجارة العالمية في هذه المواد (من الأسمدة إلى التيتانيوم)، وهذا يعني أنّ دول العالم ستحتاجها على الدوام وستضطرّ، بالمقابل، إلى التعامل مع روسيا والتصدير إليها (أي أن النّفط الذي لن تشتريه أوروبا، مثلاً، سيذهب حكماً إلى غيرها بفعل طبيعة السوق). بتعابير أخرى وباختصار، فإنّ الحدث الأساسي في العالم حالياً هو ظهور كتلتين، في روسيا وفي الصين، ينظر إليها الغرب كخصومٍ ولكنه لا يقدر، حتى الآن، على عزلها أو حصارها أو التأثير على القرار السياسي فيها.

خاتمة: «الشّرق» يعود
دخلت في نقاشٍ أخيراً حول سقوط الاتحاد السوفياتي وأسبابه، وأرسل صديق وثائق من مؤتمرات عدم الانحياز في الستينيات، والبيانات التي كانت تسطّر من وفودٍ عديدة من العالم الثالث، بقيادة الصينيين الماويّين، في نقد الاتحاد السوفياتي ودوره في الكتلة. مع المسافة التاريخيّة، يمكن القول بصحّة الاتهام الذي كان يوجّه للسوفيات بأنّهم، بعد سنواتٍ على موت ستالين، كانوا قد قرروا التعايش مع الإمبريالية، بدلاً من المواجهة، والتفاوض معها على «تقاسم العالم». كيف اقتنع هؤلاء القادة بأنّ الإمبريالية ستتعايش معهم و«تتركهم في حالهم» إن هم قرّروا الاسترخاء والتوقّف عن منافستها، والالتفات إلى الإمبراطورية الصغيرة التي اقتطعوها لنفسهم؟ أنا في هذه الحالات أميل لتفسير «المصلحة الاجتماعيّة». وهذه الحالة، بالمناسبة، هي معضلة تواجه كلّ الحركات والمشاريع الصاعدة، وبخاصةٍ إن غاب عنها الجيل الثوريّ الأوّل أو خفت فيها التأثير العقائدي: حين تحقّق النخب - بشكلٍ أو بآخر - طموحها الفردي، فهي ستميل دوماً للحفاظ على الوضع القائم وإن كان غير قابلٍ للاستمرار، أو لم يكن في الصّالح العام.
بمعنى آخر، إن وجدت نفسك قد ارتقيت طبقياً، وأصبحت لديك حياة مهنية تراكم فيها، وأولادك في مدارس خاصّة، ولديك سيارة ومستوى والأمور التي يرغب فيها الفرد العادي، فستكون بطبيعة الحال أقلّ ميلاً لأيّ مخاطرة قد تغيّر هذا الواقع بشكلٍ جذريّ أو تقلبه عليك. هناك كوميدي بريطاني اسمه ريكي جرفيس، يقول في مزيجٍ من الصراحة والوقاحة أنّه حالياً انسانٌ شهيرٌ وثريّ وناجح، وهو إن خُيّر لا يريد أن يختلف مسار العالم بأيّ تفصيلٍ أوصله إلى النقطة التي هو فيها الآن. حتى لو أتيح له أن يعود في الزمن لقتل هتلر قبل ظهور النازية، يضيف جيرفيس، فهو لن يفعل؛ فحياته الحالية جيّدة إلى درجة أنه لا يريد أن يخاطر بأي تعديلٍ في الواقع القائم. هذه العقليّة، إن تُرجمت في السياسة والصراعات، لا يمكن أن توصل إلّا إلى مسارٍ وحيد هو مسار بريجينيف. والمشكلة الأكبر تكون، كما حصل مع السوفيات، هو أن تتسرّب هذه العقلية إلى مركز القرار قبل أن تكون «المعركة»، أو المهمة الأساسية في تأمين مشروعك وكيانك، قد تمّ انجازها بعد.

في عصر العولمة الكثيفة، لا يمكن أن نفهم «خارطة» العالم من دون منظور الاقتصاد السياسي؛ وعبره أيضاً نفهم معنى العلاقة المعقّدة بين الصّين والغرب


وضع الصّين يختلف عن وضع الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة على الكثير من المستويات، منها أنّ الصّين هنا - بعدة معايير - هي «النظام الرأسمالي المتفوّق»، وليس خصمها. من المعروف تاريخياً أن «التجارة الحرّة» هو شعارٌ ترفعه القوى التي تستفيد منه أو تتمكّن من فرضه لصالحها، وقد تغيّر موقفها من هذا «المبدأ» مع تغيّر الأحوال. المثير اليوم هو أنّ الصّين هي التي تناصر التبادل الحرّ غير المسيّس بين الدّول، فيما الغربيون يقفون على المقلب الآخر (جاء في بيان قمّة «بريكس» الأخيرة بندٌ عن أهمية التجارة الحرّة وعدم إعاقة التبادل بين الدّول). الصّين اليوم هي من يصنع الأمور «المفيدة» التي يحتاجها النّاس، وقد يصبح لديك هكذا كتلة كبيرة في أوراسيا، لديها فائض من الموارد والطاقة والغذاء، ولديها فائض من التكنولوجيا والصناعة، ولا يمكن للغرب حصارها أو شنّ الحرب عليها. هذا لا يزال احتمالاً في بدايته ولكن، في عالمٍ كهذا، لا يعود الكلام عن «التوجّه شرقاً» مصدراً للتندّر، إلّا لمن يظنّ أنّه في الوسع أن نأكل الدولار والـ«بيتكوين».

* كاتب من أسرة «الأخبار»