يزداد بشكل ملفت ومشبوه عدد المذكّرات المنشورة عن (أولِ) عملاء الاستخبارات الأميركيّة حول العالم. كان التقليد والعرف السائديْن قبل سنوات معدودة التزام الصمت المطبق والسريّة التامّة حتى بعد انتهاء سنوات الخدمة. كما ان الذين يعملون في السلك الاستخباراتي والعسكري الأميركي يصبحون ملزمين (وملزمات) قانوناً مدى الحياة بتقديم كل ما ينشرونه، ولو كان سيرة ذاتيّة، من أجل فرض رقابة صارمة عليه بحجّة حجب معلومات قد تكون مُستقاة من مصادر سريّة.
طبعاً، هناك أسباب سياسيّة أيضاً إذ ان الحكومة الأميركيّة لا تريد ان تضرّ بمصالحها ومصالح حلفائها من الطغاة العرب، ومن أدواتهم الكثيرة. حاولت إدارة الرئيس الاسبق جيمي كارتر منع جريدة «واشنطن بوست» في السبعينيات من نشر خبر سري عن تلقّي الملك الأردني مبلغاً سنويّاً مقطوعاً من الـ«سي. آي. إي»، وذلك حرصاً على سمعته العطرة.
لماذا إذن تسمح الحكومة الأميركيّة بنشر مذكّرات لعملاء استخبارات مع علمنا أن الحكومات الأميركيّة تصرّ على السريّة أكثر من الحكومات الديمقراطيّة الغربيّة الأخرى، وتحارب من تسوّل نفسه نشر أسرارها. إن الجندي برادلي مانينغ فُجع بوحشيّة القوّات الأميركيّة في العراق وبعد أن يئس من إمكان الإصلاح من الداخل، وبعد ان لمس تجاهل القيادة لخروق حقوق الإنسان المُتكرّرة، حزم أمره ونشر وثائقه في «ويكيليكس» لفضح دسائس ونفاق الحكومة الأميركيّة. والحكومة الأميركيّة تعاملت معه بمنتهى القسوة والقمع. وتجري فبركة ملفات قضائية لملاحقة ناشر «ويكيليكس» جوليان اسانج ومطاردته امنياً بسبب عملية النشر لوقائق تفتضح عملاء اميركا من السياسيين ورجال الامن والاعمال. كذلك تقود اميركا اليوم حملة قاسية جداً ضد الشجاع إدوارد سنودن، وهي تحاول دونما توقف، خطفه كي تعاقبه على نشره لمعلومات أفادت في كشف مدى التجسّس الأميركي حول العالم. لن تسامحه أميركا.
وعندما نشر الجنرال الأميركي ويليام بويكن (المُتطرّف في الرجعيّة) كتابه «لا تستسلم أبداً» عام ٢٠٠٨، وكان قد رفض تقديم مخطوطته كما هو معمول به من أجل إخضاعه لرقابة عسكريّة مُسبقة لمنع تسريب معلومات قد تكون سريّة او قد تكون معتمدة على وثائق ومصادر سريّة، قامت الحكومة بمقاضاته جنائيّاً (القضيّة لم تُحسم بعد). والجنرال الأميركي نفى ان يكون قد سرّب أي معلومة لكن الحكومة لم تتهاون معه، ولأسباب قد تكون سياسيّة.
إن النظر إلى هذه الكتب
يجب أن يكون من منظور نقدي مضاد للدعاية
والجاسوس الأميركي بوب بيِر، الذي «خدم» في لبنان لسنوات، كتب عدداً من الكتب بعد تقاعده المُبكر (وهو يعمل أيضاً مستشاراً لعدد من الأفلام في هوليوود وحُوّل كتابٌ له إلى فيلم مملّ). لكن، هل تسمح الحكومة الأميركيّة بنشر كل هذه الكتب والمقالات من قبل عملاء سابقين، وبعضهم متقاعد لتوّه، من دون إذن وترخيص رسمي؟ حتماً لا، لأن القانون الأميركي الصارم يفرض ذلك.
هناك بالتأكيد مصلحة دعائيّة وسياسيّة في نشر ما تراه الحكومة مؤاتياً لها، خصوصاً ان كل العملاء السابقين يصرّون على أدوار البطولة الرومانسية المُستقاة من سيرة «لورنس بريطانيا» (فلنكفّ عن استعمال مصطلح «لورنس العرب»). والدعاية الذاتيّة لأجهزة الاستخبارات باتت طقساً بعد ١١ أيلول للتعويض عن الخسارة الكبيرة التي مُنيت بها بسبب فشلها في منع حصول التفجيرات، أو التنسيق فيما بينها، قبل وبعد ١١ أيلول. التوجّس والتشكيك ضروريان خصوصاً أن الحكومة لا تعطي ترخيصاً بالنشر إلا إذا ما رأت في المضمون فائدة لها. الصورة ان العملاء السابقين أحرار في ما يقولون (ويقلن) وفي ما ينشرون (وينشرن) هو جزء من دعاية أميركا عن نفسها.
والمُلفت في الكتابات من قبل عملاء سابقين للاستخبارات الأميركيّة ان بيروت هي مرتع دائم لتجنيد عملاء، ومكان سهل لهذا النوع من الاعمال. وفي كتاب بيِر الأوّل، «لا ترَ شرّاً» تتضح سهولة المهمّة في لبنان خصوصاً في صفوف القوى الأمنية والعسكرية اللبنانيّة. أما كتاب جاك أودونيل (والرجل كان مُربٍّ ومُشغّل وراعٍ وآمر الملك حسين)، «مستشار الملك: مذكّرات عن الحرب والتجسّس والديبلوماسيّة في الشرق الأوسط» فيرد فيه ما هو ليس عابراً (والرجل «خدم» في بيروت): «بعد وقت قليل من وصولي إلى بيروت، جنّدتُ أرفع صاحب جريدة (الكلمة بالإنكليزيّة يمكن ان تعني صحافياً أيضاً) كعميل أساسي وكراصد لجواسيس مُحتملين (بهدف تجنيدهم). أنتَ تجنّد عميلاً أساسياً لأنه يعرف الكل في المدينة. تقول له أنتَ جاسوس، لكنك لا تعتبره جاسوساً. تريد منه ان يكون شريكاً في العثور على جواسيس» (ص. 22).
مناسبة هذا الحديث هي صدور كتاب جديد بعنوان «الجاسوس الحسن: حياة وموت روبرت إيمس» لكاي بيرد. وإيمس كان مسؤولاً رفيعاً في الـ«سي. آي. إي» وقضى في تفجير السفارة الأميركيّة في ١٩٨٣. وبعض من قصّة إيمس رُوي من قبل في رواية «غير حقيقيّة» (لكنها حقيقيّة مع تغيير في الأسماء) للصحافي الأميركي ديفيد إغناتيوس في كتابه «عملاء البراءة». والكتاب المذكور كشف عن العلاقة السريّة (المفترضة) بين إيمس وبين أبو حسن سلامة، احد ابرز رجالات الاستخبارات عند الراحل ياسر عرفات. واغتالته إسرائيل في بيروت. وقد غاص بيرد في جذور وتطوّر تلك العلاقة بالإضافة إلى الحديث عن جوانب أخرى في عمل إيمس في الشرق الأوسط (وكان أرفع مسؤول استخباراتي في شؤون الشرق الأوسط ووصل نفوذه إلى البيت الأبيض إذ شارك بصورة أساسيّة في صوغ «مشروع ريغان» السيّء الذكر في صيف ١٩٨٢). صحيح ان بيرد ذكر في مطلع الكتاب أنه حاول الحصول على تعاون رسمي من وكالة الاستخبارات المركزيّة لكنه لم يلقَ منها جواباً. لكنه ذكر أيضاً أنه حصل على تعاون من قبل «أكثر من أربعين» عميل سابق للوكالة، والبعض تحدّث بالاسم عن موضوع الكتاب وردّ على أسئلة الكاتب. وهل يمكن ان يصرّح هؤلاء بالمكنونات من دون تصريح من الوكالة؟ من السذاجة تصديق ذلك.
هل تسمح واشنطن
بنشر كل هذه الكتب من دون إذن رسمي؟

وموضوع أبو حسن سلامة يحتاج لمزيد من التوضيح خصوصاً ان الكتاب أضاف إلى الأسئلة أكثر ما أجاب عنها. وهناك كثير كُتب بالعبريّة والإنكليزيّة والفرنسيّة عن أبو حسن سلامة حتى انك تخاله أرفع مناضل فلسطيني. لكن العدوّ الإسرائيلي يحرص دوماً على المبالغة في مرتبة من يغتال من المنظمات الفلسطينيّة واللبنانيّة للتدليل على مهارته، وهذا سبب الاهتمام الفائق بأبو حسن.
ونسأل بالنسبة إلى العلاقة بين إيمس وسلامة ما يلي:
١) يقول الكاتب (لن أستطيع ان أستشهد بأرقام الصفحات هنا لأنني قرأت الكتاب بنسخته الإلكترونيّة على برنامج «كندِل») إن أبو حسن لم يكن عميلاً وأنه لم يتلقّ مالاً (تلقّى فقط حافظة للمسدّس ورحلة مع زوجته الثانية جورجينا رزق، إلى «ديزني لاند» بالإضافة إلى حقيبة ذات آلة تسجيل سريّة). ووفق الكتاب، فإن سلامة كان يمدّ إيمس بالمعلومات الاستخباراتيّة «النيّئة» - كما يقولون بالإنكليزيّة - فيما كان إيمس يكتفي بفرض ضغوطات على سلامة وعلى عرفات من أجل تقديم مزيد من التنازلات المجانيّة للعدوّ الإسرائيلي، ولأخذ المصالح الأميركيّة والأردنيّة في حساب منظمّة التحرير. هل هذا مُقنع لتفسير تلك العلاقة؟ كيف كان سلامة يستفيد من تلك العلاقة وهذه العلاقات الاستخباراتيّة تكون لمصلحة الطرفيْن عادة؟ كان سلامة فقط يستفيد من حضور إيمس؟ حتى لو افترضنا ان إيمس كان بظرافة فؤاد المهندس لا يمكن ان يكتفي سلامة بندامته.
2) كان أبو حسن سلامة لمن عرفه (ووصفه المناضل الصلب، أبو داوود في مذكّراته خير وصف مع أن جهات الرقابة الصهيونيّة في أميركا منعت نشر ترجمة الكتاب الإنكليزيّة) مزهواً مختالاً ومُتبجّحاً بطريقة لا تليق بمن يعمل في سلك الاستخبارات (لم يكن أبو الهول أو أبو إياد كذلك، مثلاً). ترد في الكتاب مثلاً قصّة عن سلامة كيف أنه اتصل على الهاتف ببشير الجميّل - وفي حضور عميل لـ«سي. آي. إي» أميركي - من أجل وقف القصف على بيروت الغربيّة ولبّى الجميّل طلبه على الفور. لو أن ذلك كان بقدرته، فلماذا لم يفعل ذلك من أجل وقف مجازر وحصار المخيّمات من قبل قوّات مجرم الحرب الجميّل؟
3) إن كل تلك الكتب عن سلامة كانت تهدف لتصوير نجاح الـ«موساد» في اصطياد أعدائه، مع ان قتل سلامة تسبّب في قتل وجرح العشرات من الأبرياء من المارة. تحاول الروايات الإسرائيليّة تضخيم دور سلامة في «أيلول الأسود» وكان سلامة بعيداً منها رغم أنه كان يزعم في أحاديثه أنه هو المُخطّط (كان أبو إياد وأبو داوود وغيرهم هم العقول المُدبّرة لكنهم لم يزهوا بأعمالهم).
4) من أجل تصوير نجاح الـ«سي. آي. إي» تبالغ كل هذه الروايات في تصوير موقع سلامة في منظمة التحرير لا بل وتصفه بأنه كان «خليفة عرفات» وهذا غير صحيح. سلامة كان من قادة الصف الثاني وكان هناك أبو اللطف وأبو الهول وأبو السعيد وأبو الزعيم وأبو إياد وأبو جهاد، أبو يوسف النجّار وكمال عدوان وهاني الحسن وأبو الأديب وغيرهم ممن كانوا أعلى منه مرتبة. صحيح ان سلامة كان على رأس جهاز استخباراتي لكن عرفات أنشأ اجهزة امنية كثيرة، بقصد المنافسة وبقصد الاحتفاظ بالسيطرة الكليّة. ولم يكن لسلامة قاعدة شعبيّة مثل آخرين ولا أذكر انه ألقى خطبة في مناسبة عامّة وليس ذلك بسبب السريّة لأن صوره كانت تملأ الصحف.
5) يزعم الكتاب انه كان بمستطاع أميركا منع إسرائيل من قتل سلامة لكنها تمنّعت لأن إسرائيل سألت أميركا إذا كان سلامة عميلاً لها ولم ترد الحكومة الأميركيّة ان تكذب. يصعب التصديق ان الكذب مستحيل عند وكالة الاستخبارات الأميركيّة خصوصاً إذا كان سلامة ذا فائدة كما أخبرونا.
6) يروي الكتاب ان عرفات هو الذي أذن بفتح خط اتصال سلامة - إيمس، لكن عرفات لم يكن يحصر قنوات اتصاله بشخص واحد.
7) إذا كان سلامة ذا فائدة عظيمة لـ«سي. آي. إي» فلماذا تكشف أمره ما سيؤثّر في موقع في التاريخ الفلسطيني؟
وهناك مشاكل أخرى في الكتاب خصوصاً تلك المتعلّقة بشخص رجل الأعمال اللبناني مصطفى الزين الذي يرد اسمه في الكتاب مراراً وتكرار كصديق للوكالة (وهو أيضاً لم يكن يقبل أن يأخذ مالاً من الوكالة بحسب الكتاب - ما حكاية كل هؤلاء العرب الذين يعملون بالمجّان؟) وهو الذي عرّف سلامة على إيمس. لكن المؤلّف بالغ في الاعتماد على رواية الزين، خصوصاً أن الأخير يبدو كمن يُقحم نفسه - على طريقة روبرت فيسك الخياليّة - في كل حدث مهم وكبير إلى درجة انه يزعم أن عماد مغنيّة - الرجل الذي بقي على قيد الحياة كل هذه العقود بالرغم من تعقّبه من أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم بسبب سريّته وحسّه الأمني ومهارته - أخبره عن اسم الرجل الإيراني (المنشقّ العميل الإسرائيلي، علي رضا أصغري) الذي أمر بتفجير السفارة الأميركيّة في بيروت - بحسب رواية الكتاب. هذه الحادثة بحد ذاتها تضفي شكوكاً على مصداقية الزين.
نجحت بعد سعي في الحصول على عنوان البريد الالكتروني للزين، لكنه رفض أن يجري معي مقابلة هاتفيّة لأسباب أمنيّة إذ أنه مختفٍ. قال إنه مستعد أن يجيب على أسئلتي كوني من عائلة من مدينة صور. أرسلت له دزّينة من الأسئلة لكنه لم يجب إلا على بعض منها ورفض ان يتيح لي قراءة مذكّراته غير المنشورة التي استعان برد بها في روايته عن العلاقة بين إيمس وأبو حسن سلامة. لكن الزين قال إنني على خطأ في تقويمي وأن العلاقة بين إيمس وأبو حسن لم تكن من طرف واحد وأن إيمس كان يمدّهما بـ«معلومات استخباراتيّة نيّئة» مثل محاضر اجتماعات حلف شمال الأطلسي عن الشرق الأوسط (ولو كان إيمس قد فعل ذلك ففي هذا مخالفة قانونيّة صريحة خصوصاً في سنوات الحرب الباردة).
كما أن الزين أضاف أنه تعرّف إلى عماد مغنيّة عندما كان الأخير يعمل في صف قوّات الـ17. وقال إن مدير الاستخبارات الأميركيّة ويليام كيسي، كان يستهدفه هو مع الراحل محمد حسين فضل الله في تفجير بئر العبد (واستعان كيسي بخبرات الإرهابي القوّاتي غسان توما - الذي نشرت هذه الجريدة دفاعاً عنه ذات يوم). وأضاف الزين أن غرض الكتاب ليس كما كتبتُ أنا - أي الترويج للاستخبارات الأميركيّة - بل إلقاء لوم تفجير السفارة الأميركيّة في بيروت على الـ«موساد»، وأضاف أن علي رضا أصغري طُرد من أميركا بعد نشر الكتاب ولجأ إلى «إسرائيل». وذكر الزين أن أمين الجميّل تلقّى أمراً من واشنطن بعدم توقيع اتفاقيّة 17 أيّار (بسبب اتفاق سرّي بين واشنطن وتل أبيب يربط بين انسحاب قوّات العدوّ وبين انسحاب القوّات السوريّة) وأن الجميّل تلقّى 150 مليون دولار لـ«تعويض» النوّاب الذين وقّعوا على اتفاقيّة 17 أيّار، لكن الجميّل - على ذمّة الراوي الذي عرف الجميّل عن كثب - احتفظ بالمبلغ كلّه.
وهناك أمر خطير آخر: يزعم الكتاب ان المناضل باسل الكبيسي كان مخبراً لـ«سي. آي. إي» منذ الستينيات عندما كان ناشطاً في حركة القوميّين العرب (للأمانة يضيف الكاتب على وصف علاقة الكبيسي بالمخابرات الأميركيّة كلمة «ربّما»). الرجل ليس حيّاً كي يدافع عن نفسه ولم يوضّح الكتاب تلك العلاقة ويبدو المؤلّف جاهلاً بدور الكبيسي. الكبيسي لم يكن قيادياً في الجبهة الشعبيّة او في منظمة التحرير- كما يوحي المؤلّف - وإنما كان ناشطاً ويقوم بمهمات سريّة وخاصّة لحساب «العمليّات الخارجيّة» (جهاز وديع حدّاد). ولقد فشل كل الأعداء في اختراق تنظيم حدّاد ولم يكن هناك اختراق واحد له باعتراف العدوّ حتى وفاته. لكن كيف يكون تجنيد الكبيسي الاستثناء؟ ولنقبل بأن كبيسي كان مخبراً، فلماذا تقوم الوكالة بكشف أمره وهي الحريصة قانوناً وتقليداً على عدم كشف هويّة عملائها ومخبريها؟ ولماذا لا تقوم الوكالة إلا بكشف عملائها في المنظمات الفلسطينيّة فقط؟ الأمر مثير للشبهات.
أكثر من ذلك، يرد اسم عبد الفتاح اسماعيل في الكتاب على أساس أن إيمس كان قد التقاه. لكن ماذا يعني ذلك؟ إن عملاء الوكالة الكبار، كما يظهر في الكتاب وفي غيره، يعملون غالباً في سلك السفارة وبصفة «المستشار السياسي» (أو المستشار التجاري) لحماية أنفسهم (وأنفسهن) من قوانين الدولة المُضيفة. ومن الممكن ان يكون اسماعيل قد التقى بمن ظنّ أنه دبلوماسي أميركي، لكن هل يعني هذا ان إسماعيل أصبح مصدر معلومات للوكالة وأنه بعد لقاء واحد كشف أمر علاقته مع السوفيات لرجل أميركي؟ الأمر بات يدعو للريبة، وكأن الدعاية الأميركيّة تريد ان تنال من سمعة مناضلين ضد الإمبرياليّة في سنوات الحرب الباردة.
هناك في الكتاب كثير مما يعني لبنان: قال إن الاستخبارات الأميركيّة ووزارة الخارجيّة الأميركيّة (عبر السفراء وعملاء الوكالة) كانتا تمقتان بشير الجميّل (وصفه السفير الأميركي السابق في بيروت ريتشارد باركر أمامي بـ«الأزعر») لكن الحكومة الأميركيّة في واشنطن كانت ترتأي عكس ذلك. ويروي عن لسان عملاء الوكالة في بيروت ان الجميّل كان يقوم بـ«أعمال إسرائيل القذرة» في لبنان، وهو الذي أشعل العرب بعد الفصل الأوّل منها عام 1976. تقتنع من الكتاب ومن دونه ان حزب الكتائب اللبنانيّة والقوّات اللبنانيّة فيما بعد أشعلا الحرب الأهليّة وحافظا على استمرارها الطويل. لكن الكتاب نفسه يعترف أن وزارة الخارجيّة الأميركيّة رصدت مالاً لتمويل حملة بشير الجميّل عام 1982، إلا أنّ الوكالة قرّرت ان لا حاجة لذلك (شارك العدوّ الإسرائيلي مع ميشال المرّ وغيره في تمويل الحملة). ويعترف السفير الأميركي السابق في لبنان روبرت ديلون أن السفارة الأميركيّة ضغطت على نوّاب سنّة من أجل الاقتراع لبشير (كان النوّاب الشيعة في غالبيّتهم - قاطع الانتخاب ستة فقط منهم من أصل 18- مؤيّدين لبشير من دون ضغط أميركي). وهناك معلومات مذهلة عن سماح نظام أمين الجميّل ومخابرات جوني عبده لعملاء الـ«سي. آي. إي» بالتحقيق مع مُعتقلين لبنانيّين وتعذيبهم بعد تفجير السفارة الأميركيّة في بيروت عام 1983 (مات المواطن اللبناني إلياس النمر تحت التعذيب).
وهناك عدد من الأخطاء في الكتاب: ليس هناك من صحيفة عربيّة اسمها «الزيات» وبشير الجميّل لم يحضر جنازة أبو حسن سلامة (أو ليته حضر إذ ان الحضور كان قد قطّعه إرباً إرباً) وأحمد قصير لم يكن ينتمي لحزب الله، و«خبريّة» لقاء عماد مغنيّة مع بن لادن هي من صنع عميل إسرائيلي (باعتراف الكاتب الذي أورد «الخبريّة») وحزب الله لم يتبنّ عمليّة تفجير السفارة الأميركيّة في بيروت، إضافة إلى تفاصيل أخرى.
إن النظر إلى هذه الكتب يجب ان يكون من منظور نقدي مضاد للدعاية الصفيقة. تحاول تلك الكتب تصوير عملاء الاستخبارات على أنهم، كما وصفهم ديفيد إغناتيوس الوثيق الصلة بالاستخبارات الأميركيّة والسعوديّة والأردنيّة والناقل لوجهات نظرها والحامي لمصالحها، «عملاء البراءة». لكن أين البراءة في التفجير والقصف من الجوّ وفي مؤامرات دعم الطغاة؟ هؤلاء لا يجنّدون ويستقون المعلومات في دردشات فقط، لأن هناك جوانب أخرى لعمل الاستخبارات الأميركيّة: كيف ننسى- لو ننسى- تفجير بئر العبد أو صرف الأموال لتعطيل تطلّعات الناس الحقيقيّة او قلب الأنظمة المُنتخبة أو التدخّل في كل الشؤون الداخليّة للدول أو عمليّات التفجير التي تودي بحياة الأبرياء بالإضافة إلى إدارة الطائرات من دون طيّار والتي تقتل المئات من الأبرياء في أماكن مختلفة من العالم العربي والإسلامي - دائماً العالم الإسلامي والعربي! إن القراءة لما يُنشر عن منطقتنا ضرورة والمتابعة وظيفة للإعلامي (والإعلاميّة) والأكاديمي (والأكاديميّة) على ان تكون القراءة بعين نقديّة مُشكّكة وفاحصة ومُدقّقة ومُمحصّة وداحضة، وإلا وقع القارئ ضحيّة.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)