في أجواء التحضير للاحتفال التكريمي الذي يقيمه لقاء الأحزاب والقوى والشخصيات اللبنانية للمطران إيلاريون كبوجي الخميس في 11/8/2022، في مئوية ميلاده، عادت بي الذاكرة إلى علاقات قديمة ربطتنا بحارس القدس ومطران العروبة في الأيّام الأولى لاعتقاله على يد قوات الاحتلال في آب 1974.يومها تحرّكنا في تجمّع اللجان والروابط الشعبية مع العديد من الشخصيات والقوى الوطنية اللبنانية والإسلامية، وفي المقدمة الرئيس الشهيد ياسر عرفات، وجرى تشكيل «اللجنة الوطنية لنصرة المطران كبوجي» في المتن الشمالي بمبادرة من المؤسس في تجمع اللجان والروابط الشعبية النائب والوزير السابق الأستاذ بشارة مرهج، والتي أقامت في سينما راديو في ضهور الشوير في المتن الشمالي مهرجاناً شعبياً كبيراً في 12/1/1975 تحت شعار «اللجنة الوطنية لنصرة المطران كبوجي وتحرير أرض فلسطين».
يومها، تحدّث في المهرجان، بالإضافة إلى مرهج، كل من الأب مكرم قزح، والمطران نقولا الحاج، النائب البطريركي للروم الكاثوليك، الدكتور كلوفيس مقصود، والمناضل والقائد الفتحاوي أبو داود، وقدّم الاحتفال المناضل الصلب ابن الخنشارة جورج قربان (رحم الله من رحل منهم وأطال الله عمر الأحياء)، فيما تلقى المهرجان رسالة خطية من الرئيس ياسر عرفات تضمّنت تقديره العالي للمناضل الكبير الذي جسّد تعاليم السيد المسيح بالانتصار للحق مهما كانت النتائج.
وخلال فترة سجنه على يد الاحتلال من آب 1974 إلى تشرين الثاني 1978، كنّا نتابع لبنانياً وعربياً ومع أصدقاء من أحرار العالم قضية المطران الأسير مطالبين بالإفراج عنه، إلى أن تم الإفراج وذهب وفد من تجمع اللجان والروابط الشعبية، يضم الأستاذ بشارة مرهج والراحل عدنان عيتاني والمناضلين خالد الحلاق والحاج فؤاد الحلبي، لزيارة المطران في مقر إقامته في دير الراهبات اللبنانيات في روما، وزاروا معه الفاتيكان، ونشأت علاقة بقيت مستمرة على مر السنوات.
في خريف عام 2008، وحين كنا نحضّر في المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن مع تحالف القوى الفلسطينية لإقامة «الملتقى العربي الدولي لحق العودة» في دمشق، حرصنا على أن يكون بين المدعوّين شخصيات وازنة عربية ودولية، من الرئيس الماليزي السابق مهاتير محمد، إلى وزير العدل الأميركي الأسبق الراحل رامزي كلارك، إلى النائب البريطاني السابق جورج غالاوي، إلى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية الراحل الشاذلي القليبي إلى رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية الأخ فاروق القدومي، إلى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس آنذاك المجاهد خالد مشعل، إلى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة المناضل طلال ناجي، إلى رئيس المكتب السياسي في حزب الله السيد إبراهيم أمين السيد، إلى الأمين القطري المساعد لحزب البعث الراحل محمد سعيد بخيتان، إلى الرفيق خالد عبد المجيد نائب رئيس اللجنة التحضيرية للملتقى وأمين سر تحالف القوى الفلسطينية، وطبعاً المطران إيلاريون كبوجي الذي تركت كلمته في الملتقى آثاراً كبيرة على المستوى الشعبي.
وحين هاتفت «حارس القدس» في مقر إقامته في روما لدعوته لحضور الملتقى، لم يخف الرجل الكبير قلقه من أجواء التردّي العربي من جهة، والانقسام الفلسطيني، وكاد أن يعتذر لولا إصراري الشديد على أهمية حضوره وما يمكن أن يعنيه من مساعدتنا في استنهاض أبناء أمتنا على طريق النضال من أجل فلسطين.
في ذلك الملتقى التاريخي، اتخذنا قراراً بإرسال سفن لكسر الحصار على غزة، وكان المطران كبوجي أكثر المتحمسين لهذا القرار وطلب أن يسجّل اسمه في عداد المشاركين في أوّل سفينة تنطلق إلى غزة وأطلق كلمته الشهيرة: «أنا مشتاق لرؤية أرض فلسطين».
وحين بدأنا التحضير لـ«سفينة الأخوّة اللبنانية لكسر الحصار مع غزة»، من قبل المبادرة الوطنية لكسر الحصار ومنسقها عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي آنذاك، والعضو المؤسس في تجمع اللجان المحامي الدكتور هاني سليمان، كان المطران كبوجي أول الحاضرين إلى ميناء طرابلس اللبناني ومعه ثلاثة آلاف دولار كمساهمة في تكاليف الرحلة التي كان يشرف على تجهيزها لوجستياً الأخوان فيصل درنيقة من طرابلس والحاج عبد الله ترياقي من صيدا، والتي كان ممكناً أن تضم أكثر من مئة مشاركة ومشارك لولا قرار السلطات اللبنانية بعدم السماح بأن تحمل سفينة الشحن أكثر من 8 متطوعين، هم، بالإضافة إلى المطران كبوجي ومنسق الرحلة سليمان، كل من الشيخين داود مصطفى وبلال العلايلي، وإعلاميين أربعة هم أوغاريت دندش وسلام خضر ومحمد عليق ومازن ماجد، والتي احتجزتها في ما بعد سلطات الاحتلال، في المياه الإقليمية الفلسطينية، واحتجزت المتطوعين بمن فيهم المطران كبوجي، ثم اضطرت إلى الإفراج عنهم وإرسالهم إلى لبنان عبر معبر الناقورة، فيما أصرّت على إرسال المطران كبوجي إلى سوريا كحامل للجنسية السورية إلى معبر الجولان العربي السوري.
يومها جاء إلى لبنان من دمشق جرى احتفال حاشد في البقاع اللبناني للمطران، واحتفالات في بيروت، مع الوصيّة الدائمة لكبوجي: «احسبوا حسابي في أي رحلة قادمة إلى غزة»، وخصوصاً أننا أعلنّا يوم احتجاز سفينة الأخوّة اللبنانية أننا سنرسل أسطولاً من السفن إلى غزة في أقرب وقت.
وبالفعل، وعشية انطلاق أسطول الحرية إلى شواطئ غزة من الساحل التركي، أجرينا اتصالاً بالمطران في مقر إقامته، وحضر على عجل إلى إسطنبول ليكون متوجّهاً على رأس مئات المتطوعين من كل أرجاء العالم إلى غزة وليواجه وهو يصلّي صلاة الفجر مع زملائه المتطوعين وهو يحمل الإنجيل المقدّس الهجوم العسكري الإجرامي الصهيوني الذي أودى بحياة عشرة شهداء من الإخوة الأتراك وجرح عدد من المتطوعين؛ بينهم الدكتور سليمان الذي أصيب في ساقيه برصاص العدوان الصهيوني.
ويروي المناضل نبيل حلاق، مسؤول العلاقات الدولية في المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن، والذي كان ملازماً للمطران كبوجي طوال الرحلة وخلال الاحتجاز، كيف حاول الصهاينة الاعتداء على المطران كبوجي لولا أن عدداً من المتطوعين أحاطوا به ومنعوا التطاول عليه. ونتمنّى على الحلاق وسليمان ورفيقهما الثالث في تلك الرحلة المناضل أبو محمد شكر (أبو الشهداء) أن يرووا حكايات من بطولات المطران خلال الرحلة وفي الاحتجاز في مواجهة الصهاينة.
وحين زار المطران بيروت ليشارك في احتفال تكريمي أقامه المنتدى القومي العربي في لبنان على شرف رموز أسطول الحرية، وبينهم المطران طبعاً، وقائد أسطول الحرية بولند يلدرم، والمجاهد الجزائري كريم رزقي، قرّر المطران البقاء في لبنان لمدة أسبوعين، أقام فيهما في منزل قريبي وجاري الأخ سامي فرح، حيث أتيح لي أن أتعرّف عن كثب على الرمز الوطني الكبير المطران كبوجي وعلى خلفيات توجهاته الوطنية والقومية والإنسانية.
وحين سألته عن سبب إصراراه على المشاركة في هذه الرحلات، رغم عمره الذي تجاوز الثمانين ونيّف، قال: «ببساطة أنا مؤمن، ومسيحي، وأدرك أن الانتصار للحق واجب عليّ مهما كانت التكاليف».
وحين كنت أسأله عن مصدر مشاعره الوطنية والقومية الفيّاضة أجاب: «لا تنسَ أنني ابن حلب الشهباء، وابن سوريا العربية، وأنني قريب المرجع الدستوري والعروبي الكبير إدمون رباط (رحمه الله) الذي كان رمزاً وطنياً في حلب ثم في بيروت، ولا تنسَ أنني مطران القدس، حيث إن القدس هي عنوان وطني وقومي وإيماني وإنساني في آن معاً». هنا كان يستطرد قائلاً: «إن كبوجي اسم سرياني يعني الحارس... وأنا من حراس القدس».
وحين كنت أسأله عن الجرح السوري النازف، ومعه جرح الأمة كلها كان يقول: «أنا واثق أن سوريا ستنتصر على الحرب الكونية عليها ومنها، والعرب أيضاً سينتصرون، وفلسطين ستنتصر لأن الاحتلال إلى زوال فهو يواجه شعباً لا يعرف الاستسلام».
في تلك الأمسيات الرائعة التي كنا نمضيها مع المطران الجليل، كنت أرى في عينيه تصميماً كبيراً على النضال مقروناً بإيمان لا حدود له، وكنت ألمس في كلماته قوة الحكمة، وحكمة القوة.
رحمه الله... وليبقى ذكره مؤبداً.

* الرئيس المؤسّس للمنتدى القومي العربي