31. القيادة القادرة على صناعة التحوّلات، وقد آمنت قيادة الحزب بهذه القدرة للمقاومة بفعل فهمها للأثر التاريخي لثورة الإمام الخميني في إيران التي لا يمكن تفسير نجاحها وفق عوامل مادية فقط كما يؤمن حزب الله. توصّلت دراسة معمّقة لمؤسسة «راند» إلى أن الدعم الشعبي للمنظمات العسكرية له عدة مصادر منها فعالية المؤسسة وهذه تقررها جملة أمور أبرزها وجود قيادة استراتيجية وكاريزماتية وفعّالة. فعامة الجمهور تنظر للواقع من عين القيادة التي تؤمن بها. ولم يكن لحزب الله أن يبني بيئة حاضنة ومتماسكة وملتزمة معه من دون قيادة كهذه، حيث إن الانتماء للحزب ومشروعه أمر محفوف بالكثير من المخاطر والأعباء ويستلزم قدرة إلهام وإقناع وتأثير وجذب كبيرة لتأمين بيئة حاضنة كافية وقادرة على احتواء مشروعه المقاوم. وتُجمع التحليلات، ولا سيّما منها المعادية، على تأثير قيادة حزب الله (خاصة السيد حسن نصرالله) في نجاحاته فهي تبرز كقيادة مضحّية وصادقة وساحرة وعاطفية وحكيمة وتعيش هموم ناسها وهكذا يستشعر المؤيدون أن قائدهم جزء منهم ومتكامل معهم. وينعكس ذلك بشكل من التسليم أو التفهّم لدى شرائح من داخل البيئة الحاضنة لقرارات القيادة حتى عندما لا يقنعها القرار أو الموقف الصادر عنها. لكل ذلك تتعرّض قيادة حزب الله (وهي قيادة جماعية يُتخذ فيها القرار بالتشاور والتوافق بشكل عام) لحملات تضليل وحرب وعي مكثفة وممنهجة محلياً وإقليمياً لتسقيطها ووضع دوافعها وأخلاقياتها ضمن دائرة الشكّ بالحدّ الأدنى.

32- أصالة فكرة المقاومة، أي أن حزب الله جعل من موضوع المقاومة مشروعه الأساس الذي يحكم هويّته وسياساته وسلوكه وليس مسألة ظرفية أو تكتيكية أو خاضعة للمساومة. فالمقاومة هي من طبيعة الحزب وليست صفة طارئة عليه. فالحزب هو حركة مقاومة تمارس السياسة وليس حركة سياسية تمارس المقاومة وذلك ربطاً بأمرين أساسيين بهويته التأسيسية (حركة إيمانية جهادية) وبقراءته لأزمة المنطقة من حيث إنها أزمة ناتجة في الدرجة الأولى من حالة الاستتباع للهيمنة الأميركية. وعلى هذا الأساس قام الحزب بعملية تنشئة شاملة لبيئته الحاضنة رابطاً المقاومة بالبعد الديني/الحسيني وبتاريخ الطائفة وبالمصالح الوطنية. ولذلك يحرص الحزب على أن يضع مقاومته كجزء طبيعي من تاريخ الطائفة والوطن باستذكار مساهمات الآخرين من قوى وطنية وإسلامية ويسارية وقومية. ويؤكّد الحزب لجمهوره في دوائره المتعددة (شيعياً ولبنانياً وإسلامياً وعربياً) بشكل متكرر على ما وصله من عروض للمساومة على مسألة المقاومة وما يتعرّض له من ضغوط ليقدم تنازلات فيها ولكنه يصرّ على أنها تمثل الصراع الرئيسي الحقيقي في الأمة والوطن. هذه الأصالة لمشروع المقاومة لدى الحزب تشدّ من التحام حواضنه الشعبية به وُتشكّل تصوراتها حول المقاومة بشكل يجعلها أكثر استعداداً لتحمّل الأعباء والمخاطر.
33- الركيزة الأخلاقية. يستلزم بناء بيئة متكافلة ومتضامنة وجود أرضية أخلاقية صلبة تعزز من الاستقرار الاجتماعي وتعمّق أواصر التعاون والسلم وتفرض انضباطاً سلوكياً وسياسياً. وتزداد أهمية ذلك مع توافر كل هذه القوة المادية التي يمكن أن تدفع لأشكال من التسلط والتفلّت وبخاصة مع طبيعة الواقع اللبناني. يؤكد خطاب الحزب والعملية التثقيفية فيه على الجوانب الأخلاقية للتديّن (أعمال البرّ والإحسان والصدقات والتكافل والإغاثة والتقوى ورعاية حقوق الآخرين وأخلاقيات الأسرة...إلخ) بالاستناد إلى إرث غني من الأحاديث والسِيَر للنبي وآله (ص). ويظهر أثر ذلك في الأزمة الاقتصادية الحالية حيث يسهل ملاحظة مستوى عالٍ من التكافل والتضامن الاجتماعي داخل بيئة الحزب سواء المقيمين منها والمغتربين.
34- صناعة الكوادر الحزبية. يولي الحزب اهتماماً بالغاً ببناء كوادره الحزبية لا سيّما الشابة منها ليرفع من معارفها ومهاراتها اللازمة للقيام بالوظائف التي ما تنفكّ تزداد تعقيداً. ويستفيد الحزب من الأعداد الكبيرة للطلبة والخرّيجين الجامعيين في أوساطه لينتقي منهم أفضل المؤهّلين ليكونوا من كوادره العاملة. ويترافق تأهيل الكوادر مع مشاركة ميدانية مكثّفة لها في ملفّات ذات صِلة مباشرة بالناس واحتياجاتهم ما يعزز وعيهم بالواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي إلى جانب المعرفة الأكاديمية. هؤلاء الكوادر ضمن المستويات التنظيمية المختلفة هم بمثابة نقاط ارتكاز في الجسم التنظيمي للحزب حيث تبنى حولهم دوائر من التأثير والفاعلية ويتكاملون معاً ضمن شبكات مُصممة مسبقاً. وتساهم مؤسسات صنع الكوادر وتأهليها في نقل الثقافة الحزبية وتجارب المستويات القيادية العليا إلى الكوادر الشابة (بخاصة للجيل الذي التحق بالحزب بعد تحرير الجنوب عام 2000) ما يسهم في تجديد التنظيم. وفي سياق هذه العملية يحصل بطبيعة الحال جزء من الحوار الحزبي الداخلي الذي يتيح للمستوى القيادي الاستماع والحوار مع الكوادر التي تكون على احتكاك مكثف مع المستويات المختلفة للتنظيم وكذلك مع الجمهور.
35- الاتصال الجماهيري المكثّف. وهي عملية تجعل من الحزب أشبه بالنظام العصبي لمجتمع المقاومة. يتصل حزب الله بالجمهور من خلال عدة قنوات: فهناك الاتصال المباشر واليومي من خلال المناسبات السياسية والدينية (رسمية وخاصة) والأنشطة الرياضية والكشفية والترفيهية واللقاءات السياسية على مستوى قرى وأحياء وتقديم الخدمات من خلال شبكة هائلة من المؤسسات والوحدات الحزبية، ثم هناك الاتصال الإعلامي بأشكاله كافّة (تقليدي ورقمي ونُصب تذكارية ولوحات إعلانية ومعارض...إلخ).
يندر أن يوجد تنظيم سياسي منخرط إلى هذا المستوى مع جمهوره، حيث تجول قيادات حزبية وكوادر طوال العام على القرى والأحياء وتعقد ندوات سياسية تستمع فيها وتجيب وتناقش، وتطل قيادته بشكل متواصل على المنابر فتعرض مواقفها ورؤاها وتفسيراتها. وهكذا يتصل الحزب مع الجمهور من زاويا مختلفة تعكس خصائصه المهنية والعمرية والمناطقية والعلمية وهواياته وحاجاته، وهكذا يتلقّى الجمهور في كل مرّة رسائل متّسقة تؤكّد سرديّات يروّج لها الحزب. وفي الوقت ذاته يتيح هذا الاتصال المكثف الاستماع للجمهور وفهم اتجاهاته (عدا عن استطلاعات الرأي المتواصلة التي يجريها الحزب بصمت) ليكون ذلك عاملاً إضافياً في صناعة القرار أو في كيفية تقديم القرار وعرضه أو تحديد موضوعات الخطاب العام.
بمقدار ما يُقلق الحزب ظهور أشكال من الإلحاد كذلك يقلقه ظهور أشكال من التديّن غير السياسي وغير الثوري


36- شمولية الخدمة الاجتماعية. امتلك الحزب منذ بداياته مؤسّسات خدماتية متواضعة لتلبية حاجات مقاوميه وأسرهم ثم بدأت تتوسع لتستجيب لواقع بيئته العامة المهمّشة. فهذه الخدمة هي الطريق الأقصر لعقول وقلوب الجمهور وفيها مرضاة لله بحسب الثقافة الإسلامية ووفاء للناس المحتضنين للمقاومة. وقد توسّعت هذه المؤسسات بشكل هائل وباتت تلبّي احتياجات مئات الآلاف من المواطنين (مستوصفات ومستشفيات، إقراض، مدارس مدعومة، دعم تنموي زراعي وحيواني، مراكز تأهيل للمدمنين والأمراض العصبية، منح طلابية، توجيه طلابي، رعاية شرائح مستضعفة، مخازن مواد غذائية بأسعار مدعومة، تقديمات عينية...إلخ).
هذه الخدمة تجعل الحزب لصيقاً بالناس ويشارك في تقديمها أعداد كبيرة من المتطوّعين الذين يحملون رسالة الحزب ويجري تقديمها بكونها جزءاً من «الجهاد» المتمثّل برفع الحرمان والدفاع عن المستضعفين. وهكذا تعزز هذه الخدمات من الهوية الإسلامية المقاوِمة داخل المجتمع. وقد توصّل باحثون إلى أن هذه الخدمات هي عامل مساعد في تفسير التأييد الشعبي للحزب وليست سبباً أساسياً لأن كثيراً من غير المستفيدين منها (لكونهم غير محتاجين أو مغتربين) مؤيّدون للحزب، وتوصّلوا إلى أن أبرز سبب لتأييد الحزب داخل بيئته هو حمايته لها وجعلها تشعر بالقوة والتمكين. وقد منحت هذه الشبكة الخدماتية الحزب مرونة للتعامل مع الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان من خلال توسيع نطاق التقديمات والخدمات بمقدار يخفّف من آثار الانهيار على الشرائح المسحوقة.
37- إضفاء معنى على حركة المجتمع، حيث أوجد حزب الله لمجتمعه مهمّة تاريخية عليه أن ينظم شؤونه ويديرها من خلالها ألا وهي حمل مسؤولية مشروع المقاومة. وقد قام الحزب بذلك بتعريف هذه المهمة كونها واجباً دينياً وتاريخياً ووطنياً وإنسانياً وكذلك ربط قضية المقاومة بالمصالح اليومية للناس. فخيار المقاومة عدا عن كونه امتداداً طبيعياً لتاريخ الجماعة الديني والسياسي، كما يرى الحزب، فهو جزء من مصالحها المادية في الحاضر والمستقبل. وتساعد الهجمات الشرسة الإعلامية والسياسية ضد الحزب في خلق نوع من التضامن الاجتماعي داخل بيئة الحزب حول مفهوم المقاومة التي أصبحت مرتكز الهويّة الجمعية المهدّدة والمفتخر بها في الوقت عينه. وهنا تستحضر مؤسسات حزبية تاريخ الشيعة اللبنانيين ورجالاتهم وتظهّر أدوارهم في مقاومة الأشكال المختلفة للاحتلال.
38- الخطاب الصادق المتوازن. يحتاج حزب الله إلى الحديث مع عدّة حواضن اجتماعية من خلفيات ثقافية مختلفة بما ذلك داخل المجتمع الشيعي نفسه وكذلك يحتاج إلى حالة من الاستقرار الداخلي وهو لا يصارع على السلطة وفق المعنى التقليدي، ولذلك لا يمكن للحزب أن يقدّم خطاباً متطرّفاً. وهنا استفاد الحزب من تجربة خطابه «الجنيني» في الثمانينيات حيث عمل على تطويره بعدما اكتشف واقع الخصوصيات المحلية. يؤكد الحزب في خطابه على العناصر الجامعة، فيكرّر التذكير بلبنانيته وعروبته وإسلاميته وبهويته كحركة تحرر وطني ما يسمح لها ببناء جسور مع بيئات مختلفة بدرجات متباينة من المتانة. ويقوم خطاب الحزب على التشدّد في ما يخص الصراع مع العدوّ وعلى الانفتاح والاعتراف والتفهّم في الموضوعات الأخرى مما يثير في بعض الأحيان لوماً من مؤيّديه إذ يرونه ليّناً أكثر من اللزوم، أو نقداً من آخرين يرونه خطاباً تصالحياً مع الوضع القائم في لبنان.
39- الخروج من الذهنية الحزبية الضيقة. مع تصاعد قوّة الحزب وهيبته لم يعد في حاجة للخوض في تنافسات حزبية تقليدية ولذا اتجه بمرور الوقت للتصرف على أنه مجتمع/أمّة كاملة وليس حزباً. وهذا الأمر أتاح للحزب مقداراً من المرونة للتواصل وبناء جسور مع شرائح تختلف مع ثقافته وتتفق معه في عناوين أخرى في مقدمتها المقاومة. ففي الكثير من المناسبات يطلق الحزب حملات إعلامية يغيب عنها شعاره الرسمي ويساهم في دعم أنشطة ومؤسّسات ليست ضمن هيكلية الحزب وشخصيات غير حزبية في مناصب وزارية ونقابية وإدارية.
ومن ضمن هذا السياق يميل حزب الله إلى العمل من خلال التحالفات والشراكات الوطنية الواسعة قدر الإمكان على قاعدة خياراته الاستراتيجية المرتبطة بالمقاومة بما يلزمها من توافقات واستقرار وروافع سياسية، مع بقاء هوامش من التمايز بين الحزب وحلفائه في السياسات المحلية تضيق وتتسع بحسب الموضوع والمرحلة.
40- التركيز على ثورية التديّن حيث يهتمّ الحزب بنشر التديّن داخل مجتمعه ويخصّص موارد كبيرة لذلك باعتباره حركة إسلامية وإيمانية في المقام الأول، ويرى أن البعد الديني يحفظ مشروع المقاومة وأصالة هويّة مجتمعه ويحميها من الاختراق والتفكّك. لكن الحزب بقدر اهتمامه بشكل التديّن في المجالين الخاص والعام حرص منذ البداية على إعادة إحياء البعد الثوري للتشيّع وجعل من الانتماء للمقاومة ونصرة القضية الفلسطينية مكوّناً سياسياً في الهويّة الشيعية والإسلامية. وهذا أكثر ما يظهر في الخطاب العاشورائي للحزب الذي يرى في أميركا يزيد العصر ويعتمد على هذا الإحياء للتعبئة الشعبية للقتال والاستعداد للتضحية. وبمقدار ما يُقلق الحزب ظهور أشكال من الإلحاد كذلك يقلقه ظهور أشكال من التديّن غير السياسي وغير الثوري والذي لا يمتلك مشروعاً مرتبطاً بتحديّات العصر. ولذلك بقدر ما يحرص الحزب على قوة التديّن في بيئته الاجتماعية يحرص في المقابل على أن يكون تديناً مشتبكاً مع الهيمنة والاحتلال.
خاتمة
يواصل حزب الله منذ أربعين عاماً مساره التصاعدي في بناء معادلات القوة بوجه العدو الإسرائيلي، أربعون عاماً اختار فيها أن يشتبك مع التحديات ويواجه الأزمات ويتعامل مع النواقص ويستغل الفرص ويتعلّم ويتطوّر. وواجه الحزب في عقده الأخير تحديات إقليمية ومحلّية لا تقل تعقيداً ومن المرجّح أن تزداد تعقيداً بفعل الأزمات العاصفة بالمجالين الإقليمي والدولي.
ما عرضته المقالة هو ما ظهر من تجربة الحزب بالمواقف والممارسة ولكن على الكتابة عن الحزب أن تحافظ على مقدار من الحذر حيث أن لكونه حركة مقاومة في الأساس يشكّل بُعدها الجهادي قلبها ومركزها فإن الغموض والأسرار والألغاز في ما يخصها كبيرة وعديدة وهذا أحد مصادر قدرتها الردعية. بعد حرب 2006 خرج العدو الإسرائيلي مذهولاً (ولم يكن مرّ على التحرير إلا ست سنوات) مما وجده، حتى أن إحدى الاستخلاصات الإسرائيلية كانت أنه يجب على الجيش الإسرائيلي أن يكون جيشاً من «البجع الأسوَد» أي أن يكون مستعداً لكل المفاجآت ولكل ما يمكن تخيّله قبل قتال حزب الله مستقبلاً. لكن هل سيكون ذلك كافياً؟ لن نعرف إلا بعد أن تقع الحرب، لكن تردد العدوّ عن المواجهة يساعدنا على تقدير الجواب.
إن التحدّي الكبير أمام الحزب اليوم هو في كيفية إدارته للمعضلات الناشئة داخل مجمل هذه العوامل ربطاً بتبدّلات جيلية وتحوّلات متسارعة ومتشابكة داخلية وخارجية في المجالات السياسية والاجتماعية الثقافية والتكنولوجية وازدياد التعقيد في أدوات أعدائه ووقائع تنظيمية في بنية الحزب. إن التفاعل مع هذا التحدّي هو الذي سيحدّد الكثير من صورة حزب الله وموقعه ودوره في الأربعين الثانية.
* أستاذ جامعي