«بصراحة، المشهد سوريالي وحزين». هذا ما قاله صديقي من رام الله وهو يلوك بقايا ضحكة مُرّة، ويختم حديثه عن حماه العجوز، المواطن الغلبان في الضفّة الغربية المحتلة، المُتحمّس جداً لـ«الرئيس القادم» حسين الشيخ، ينتظره على أحَرّ من الجمر. حين سأله عن السبب، قال العجوز: هذا مَلِكْ التصاريح في البَلَد!نَعم. الرجل مَعه حق. إن من يملك قرار «التصاريح» في الضفّة المحتلة، كمن مَلَك رضى العدو وسجناً كبيراً وبئر بترول دفعة واحدة. والعدوّ الصهيوني يعرف هذه الحقيقة لأنه صَنعها لنا بيديه منذ العام 1948. يمنح هذا الامتياز لمن له حظوة ومكانة عند ضباط الكيان وأجهزة استخباراته في كل فلسطين. مُلوك التصاريح، هؤلاء، تعب عليهم الاحتلال وهو يربيهم ويعلفهم ويعلمهم أصول الشُغل وكيف تُدير تجمّعات بشرية مُحاصرة ومُستعمَرَة، وكيف تبني اقتصاداً، يشبه السلطة، تابعاً ومتهتكاً وهجيناً.
في السنوات الأولى من مرحلة أوسلو (ولم تسقط بعد) كانت آمال وتطلعات الصهاينة مُعلقة على «الشاب محمد دحلان» حتى يقوم بدور أنطوان لحد الفلسطيني. وراهنوا على نصفه الثاني «أخيه» الضابط جبريل الرجوب في الضفّة. فشل الأوّل في مهمّاته الموكلة إليه أمام تنامي وصعود المقاومة المسلحة التي حسمت الأمر في قطاع غزة والحمد لله. أمّا وجود المقاومة في الضفّة، فقد نجحوا في تقييده واحتجازه منذ عام 2005. المقاومة في «المناطق الفلسطينية»، برغم تنامي حضورها أكثر هذه الفترة، تظل تواجه ظروفاً أصعب. باختصار: لا يستطيع «الشباب» في الضفة حسم الأمر بالقوة المسلحة.
وهُناك «الخيار الجماهيري»، وهذا هو الطريق الأسلم والأكثر مشروعية وشعبية وأقل كلفة وعذاباً. وهناك «الحل الوحيد» كما يقول آخرون: الانتخابات. نعم، الانتخابات «الديموقراطية» تحت بساطير الاحتلال! وسيُقال للشعب الفلسطيني: أنت حر، انتخب من تريد! وحين قرر وانتخب، فرضوا عليه حصاراً صهيونياً ودولياً وعربياً وشنوا عليه خمس حروب.
هل تُريد أن تسافر مثلاً؟ تَدرُس في الخارج؟ تتزوج؟ تتعالج في مستشفى؟ تستورد؟ تُصَدّر؟ تبني بيتاً أو خُم دجاج؟ لا فرق، تريد أن تَمشي؟ تُصلّي في الأقصى؟ في كنيسة القيامة؟ أن تتنفّس أو تشتري وتبيع بطاطا؟ أي شيء تحتاجه -أو تريده- يحتاج منك أوّلاً إلى تأمين التصريح المختوم بالنجمة السُداسيّة.
التصريح موجود دائماً في جيب ضباط «الإدارة المدنيّة» الجهة المقررة التي تُدير «شؤون السكان في يهودا والسامرة» بواسطة أداتها: سُلطة الحكم الذاتي المحدود التي يترأسها محمود عباس ويطلق عليها بعض الناس: دولة فلسطين.
كُل يومٍ يَمُرّ يقتنع الشعب الفلسطيني أكثر أنه «سَيوَرَّث» للشيخ القادم حتماً. سيأتي ومعه «أوراق لم الشمل» والـ«جي 4» والتصاريح. ويتفرّج الناس على المشهد الفلسطيني السوريالي. كيف تلوم «الجماهير الشعبية» التي تجد الكثير من «العقلانية» في منطق «حَمى» صديقي، الغارق في البحث عن تصريح يؤمن وجود عائلته ورزقها. فالرجل لا يرى الفارق بين محمود عباس وحسين الشيخ، أو بين هذا الأخير وأي «مرشح آخر» إلا في عدد التصاريح التي سيجلبها من إسرائيل. ويدرك الناس أن من يختاره العدوّ بالتشاور مع واشنطن وبروكسل وترضى عليه ممالك وإمارات الظلام والتطبيع سيكون هو «الرئيس» الفلسطيني القادم.
الاشتباك والنضال اليومي الذي يخوضه الشعب/الشباب الفلسطيني في الجامعات وقرى ومخيمات الضفّة، وتعيشه الحركة الأسيرة الفلسطينية في سجون العدو كحالة صمود يوميّة مستمرّة، وما يجري من فعل صامت وتركيم للقوة المسلحة في القطاع، وبناء قواعد ارتكاز شعبية وعمق مقاوم في الداخل المحتل 48، وبداية حضور عربي وأممي شعبي للمقاومة في الشتات، وتصاعد واتساع حركات المقاطعة، كل هذا وغيره يشكّل صُورة أخرى ونقيضة تصنعها إرادة الطبقات الشعبية الفلسطينية كل يوم. إن هذا الصمود الشعبي الفلسطيني ليس خياراً، بل وجود وحياة. وعلى قوى المقاومة أن تراه وتُعلن عن نفسها أكثر، نضالياً وسياسياً وثقافياً ونقابياً، في هيئات موحدة، فلا تُبدد الإنجاز الاستراتيجيّ الذي صنعه الشعب الفلسطيني بالدم والتضحية في انتفاضة أيار 2021 المجيدة ونتائج معركة «سيف القدس». ولتذهب قوى المقاومة نحو التغيير وإلى الوحدة الميدانية والسياسية ولا تنظر إلى الخلف.
للأسف الشديد لا تزال الفصائل الأساسية في حركة المقاومة تتفرج حتى الآن، مثل بقية الناس، وتنتظر، مثل «حمى» صديقي، وشعبنا يعرف أنها قلقة ومرتبكة وبلا برنامج سياسي أو بديل ثوري تقدّمه وأنها في حيرة من أمرها. فلا هي تتقدّم خطوة كاملة على صعيد بناء الجبهة الوطنية الموحدة، ولا هي قادرة على بلع شروط الواقع أو التكيف مع «برنامج الرئيس»، فهل تنتظر تصريحاً هي الأخرى؟
لم تتخل طبقة عميلة للاحتلال عن امتيازاتها بقوة المنطق ولا بـ«الحوار الوطني»، ولن تقطع علاقاتها مع الاستعمار بسبب حِكمة قوى الثورة ومنطق المقاومة. هذا لا يحدث في الواقع. ولم يحدث طوال قرون وتاريخ الصراع مع الاستعمار في الجزائر وهايتي وكوبا وجنوب أفريقيا وإيرلندا... الخ. فتصوروا لو أن المقاومة اللبنانية في الجنوب دخلت في «حوار أخوي ورفاقي مع جيش لحد»؟ لو أن جبهة التحرير الجزائرية دعت «الحركيين» إلى «رعاية حوار سياسي» بموافقة المستعمر الفرنسي وبتصريح منه؟! والحالة الفلسطينية ليست استثناء.
تعيش السلطة الفلسطينية مأزقاً كبيراً لأسباب كثيرة ومعروفة، على رأسها أزمة الرأسمالية الفلسطينية التابعة والشريكة للاحتلال. هذه الطغمة ودورها الأمني الخياني وبرنامجها السياسي التصفوي وصلت إلى جدارها الأخير. وتريد أن تحل أزمتها على حساب 99% من حقوق الفلسطينيين. وإذا كان ثمة درس من التاريخ تعلّمه الشعب الفلسطيني وعلّمه للبشرية فقد لخّصه في جواب عملي وموحد يُعلنه كل ثلاثين سنة، ربما أكثر أو أقل، يقول: ثمّة طُرق أخرى ممكنة. طريق الثورة والانتفاضة ويذهب إليها دفعة واحدة. ثمّة شعب تجدّد وأنجب جيلاً جديداً وصار لا بد أن يُعلن حضوره بكامل قوته وهيبته، ليقول كلمته الفصل في مواجهة المستعمر الصهيوني أولاً، وستحترق بعدها عروش وملوك التصاريح، وتسقط من دون رجعة.

* كاتب فلسطيني