تثير الذكرى السنوية لـ«جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية» (جمول) منذ مدة، الكثير من النقاشات والاجتهادات والاستخدامات... هذه التجربة الرائدة التي كان الحزب الشيوعي اللبناني، فيها، مبادراً ومشاركاً ومميّز الفعالية والتضحية والإنجاز، هي اليوم مدارُ لغطٍ وخلاف وصراع لا يستثني أحداً من المهتمين: سواءً من الحزب الشيوعي نفسه، أو من قبل قوى عديدة ومتنوعة (كان بعضها في موقع العداء للمقاومة وللحزب الشيوعي على خط مستقيم!)، يحصل ذلك في مجرى الصراع العام الضاري الدائر في البلد من ثلاث سنوات على الأقل، حيث تحوّل نزع «سلاح المقاومة» مادة أولى، على جدول الأعمال، بتخطيط وإلحاح من قبل قوى خارجية وداخلية تقودها واشنطن.كانت الحكومة الإسرائيلية بزعامة مناحيم بيغن وآرييل شارون قد صممت، خلافاً للاتفاقات والتعهدات، على استثمار عدوانها على لبنان عام 1982 إلى الحد الأقصى، من أجل تنفيذ أهداف ثلاثة: 1- ضرب وإبعاد منظمة التحرير الفلسطينية عن لبنان وتصفية كل مرتكزات وجودها أو عودتها إلى مخيماته... بأي صيغة من الصيغ. 2- انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية اللبنانية، وتوقيع معاهدة صلح مع بيروت. 3- تصفية النفوذ الوطني اللبناني، وضرب النفوذ السياسي والعسكري السوري، لتسهيل تحويل لبنان إلى محمية إسرائيلية.
«اتفاق فيليب حبيب» كان بالنسبة لقادة إسرائيل محطة وليس نهاية المطاف. الدخول واحتلال بيروت كان المحطة المقبلة لتسهيل تنفيذ أهداف الغزو المشار إليها في ظل حماية القوات الأطلسية سواء بموافقة كل هذه القوات، أو بتواطؤ واشنطن على الأقل، أو بفرض أمر واقع قد لا تتكرر شروطه لاحقاً.
شجّع تل أبيب على المضي في مخططها ما لمسته من ضعف تصدي القوات الفلسطينية واللبنانية لجيشها في مرحلة الاجتياح وصولاً إلى «اتفاق فيليب حبيب» الذي قضى بخروج قيادة وقوات منظمة التحرير من لبنان. صمود بيروت ومحطات مقاومة مميزة في بعض المواقع، من قبل مقاتلين لبنانيين أو وحدات عسكرية سورية، لم تكن بمستوى تعويض الوهن العام الذي مكَّن الجيش الصهيوني من احتلال حوالي نصف لبنان بأقل مما كان متوقعاً من خسائر ووقت وصعوبات داخلية وخارجية. هذا الواقع نفسه أغرى قوات شارون بالتقدم لاحتلال العاصمة خصوصاً بعد خروج قوات المقاومة الفلسطينية التي كانت تُعتبر القوة الأكبر والأفعل في المواجهة. لكن: حصلت المفاجأة... كانت «جمول» بالمرصاد!
من موقع مشاركتي في تتبع مراحل الغزو وفي صياغة الموقف والقرار بشأنه، يمكن القول بأن قيادة الحزب الشيوعي قد قاربت التحولات الدراماتيكية الصاخبة (وأبرزها خروج الفلسطيني ودخول المحتل الإسرائيلي) بإرادة حازمة وواثقة ومصممة على التعامل مع هذه المعادلة بما يليق بطرف وطني وبحزب طليعي فاعل في المشهد السياسي. فالحزب الشيوعي جهد، منذ التحولات الجوهرية التي مر بها ابتداءً من عام 1964 وكُرست عام 1968 (المؤتمر الثاني)، من أجل أن يقدم، في ذلك المنعطف الخطير، نمطاً كفاحياً، من موقع المبادر والشريك الفعلي والصانع لخيار تحرري بات واجباً وخياراً مصيرياً لمواجهة محتل صريح يستهدف لبنان وشعبه في كل ما هو مقدس لدى الشعوب: الأرض والسيادة والأمن والثروات والاستقرار... أي المصير الوطني عموماً!
رغم خطورة ومخاطر الغزو الصهيوني، فقد كان مدعاة لنوع من الارتياح، أن الالتباسات، بشأن طبيعة المعركة، بعد الانسحاب الفلسطيني، ستكون أقل، وأن الوضوح بات أكبر لجهة المسؤولية والواجب والهدف واتخاذ القرار والانخراط والتكتيك والتعبئة والتنفيذ. في نطاق الاستعدادات كانت الاجتماعات التي شهدتها بعض مراكز الحزب الشيوعي وسواها لجعل المواجهة ذات طابع جبهوي، وذلك بسبب طبيعة المهمة التحررية التي تشترط العمل المشترك المنسق وليس العمل الفئوي المنفرد. ثم أن عدداً من الأحزاب كان يواصل، في الواقع، علاقة تحالفية وطيدة وجاهزة للارتقاء إلى طور أعلى في المواجهة والكفاح.
المهمة الوطنية هذه كان يُفترض أيضاً، أن تشكل عامل توحيد، على المستوى اللبناني، لإيجاد حل لأزمة الانقسام والاحتراب والتدخل الخارجي والخسائر الفادحة على كل صعيد. كان ذلك أيضاً جزءاً من سعينا الدائم من أجل تسوية للأزمة كنا دائماً نعتبر أنها ضرورية لوضع حد لتهديد وحدة لبنان، وللانقسام الطائفي المتزايد، وللتدخل الأميركي المتصاعد... هذا طبعاً، فضلاً عن العمل بكل الوسائل لإفشال الأهداف الصهيونية.
بترقب مشوب بالقلق والأمل والحماسة، تابعنا العملية الأولى، ضد قوات العدو، من منزل سري قريب من مكانها قرب صيدلية «بسترس». لم يطل الأمر حتى جاء خبر نجاحها وعودة الرفاق سالمين بمن فيهم الرفيق مازن عبود صاحب الطلقة الأولى، والذي فقدناه منذ حوالي أسبوعين. تحقق الهدف الوطني الكبير بانطلاق المقاومة وبأن تصبح حركة شعب حقيقية. لقد ساهم في المقاومة حلفاء في نطاق الجبهة وشركاء خارجها (خصوصاً الحزب القومي)، لبنانيين وفلسطينيين. وقد عملوا جميعاً تحت اسم الجبهة من دون تردد. انخرط في المعركة، بشكل متصاعد التأثير، طرف عسكري وسياسي وشعبي جديد هو المقاومة الإسلامية (حزب الله). حققت المقاومة إنجازات مبهرة في حقول التحرير. لكن دور الحزب الشيوعي بدأ بالتراجع الخطير مع تتابع التحولات الكبرى والمدوية في «المنظومة الاشتراكية». قيادة الحزب الشيوعي كانت الأكثر تأثراً بالانهيار. انسحب تباعاً وسريعاً معظم رموزها، ولم يتردد بعضهم في الانتقال إلى خيار نقيض وكأنه كان ينتظر فقط الفرصة أو اللحظة المناسبة! بهذا المعنى، فإن آخر ما ينبغي البحث عنه هو في مسؤولية الآخرين عن انقطاع الحزب عن واجبه فيما الاحتلال ما زال جاثماً على جزء كبير وعزيز من المناطق اللبنانية في الجنوب والبقاع الغربي (75 قرية ومدينة. 850 كلم مربع. 200 ألف نسمة).
لم يتمكن الحزب الشيوعي من احتواء الانهيار السوفياتي؛ لم تصل نقاشات واستنتاجات جدية حصلت، إلى خلاصات تطبيقية. الانحراف شجّع التيار «المحافظ» الرافض لمجرد الحديث عن بعض خلل داخلي في التجربة الاشتراكية، إلى التشكيك بكل تجديد بوصفه تخلياً على غرار ما فعل قادة بارزون! محاولات مخلصة لتجديد الحزب واستئناف دوره المقاوم اصطدمت بالخيبة واليأس التي لم يكن مصدرها الخارج فقط. فوت الحزب فرصة تاريخية لإعادة تجديد وبناء نفسه قوة ثورية من نوع جديد، بالاستناد خصوصاً إلى إنجازاته في المقاومة والتحرير!
المقاومة الوطنية التي لم تستخدم بشكل صحيح، كما أشرنا، كأحد أدوات مواجهة الانهيار، تُستخدم من قبل كثيرين، منذ مدة، لاستهداف صيغة أُخرى من المقاومة. ذلك يتناغم بقصد، أو بغير قصد (تحت تأثير الأزمة الاقتصادية الطاحنة)، مع استهدافات المشروع الأميركي الصهيوني في لبنان والمنطقة. جوهر الصراع لم يتغير والمواجهة الحقيقية كذلك: تماماً كما كان الأمر بالنسبة لـ«جمول»!
* كاتب وسياسي لبناني