باتت ظاهرة السلاح بالنسبة للمواطن السوري أمراً مألوفاً، حتى بات حملة السلاح يشكّلون نسبة واسعة من القاع الاجتماعي. وهؤلاء يرون أنهم يدافعون عن قضية وطنية. لكنّ الممارسة اليومية لجزء كبير منهم تخالف ما يدّعونه. وتحديداً من قبل عناصر في اللجان الشعبية التي تحوّلت إلى مجموعات غير منسجمة. ومع هذا فإنهم يتقاطعون في الغالب، على هدف واحد يتمثل في فرض سلطة قهرية، من خلالها يمكنهم تحقيق مكاسب مادية غير مشروعة.
لدرجة بات عموم السوريين ينظرون إليهم على أنهم ظاهرة تنخر الاستقرار الاجتماعي. إذ أن وظيفة السلاح تحوّلت بالنسبة للكثير من هؤلاء إلى قوة للتسلط والتخوين.
ومن منطلق موقفهم السياسي، يبررون لذاتهم ممارسة كثير من الانتهاكات والتجاوزات، حتى أنهم يرون في ذاتهم سلطة مستقلة. إضافة إلى ذلك فإنهم يحوّلون ذاتهم وسلاحهم إلى رمز للوطنية والولاء. ما يعني أن أي نقد أو تظلّم يمكن أن يجاهر به البعض، فإن التخوين والاعتداء والتوقيف التعسفي سيكون من نصيبه. وهذا يدفع بالغالبية إلى التزام الصمت خوفاً على مصيرهم. وإن فكّر أحد ما، في اللجوء إلى الجهات المختصة، فإنه لن يلقى إلا مزيداً من الإحباط. ليس لأن هذه الجهات لا تملك صلاحية إحالة المرتكبين إلى القضاء، بل لأن البعض من هؤلاء، وتحديداً بعض الرموز البارزة، باتوا يشكلون سلطة شبه مستقلة. وبالنسبة إلى هؤلاء فإن كل من لا يشاطرهم الرأي، أو يعترض على ممارساتهم، أو حتى يحاول الدفاع عن ذاته، يتحول بنظرهم إلى خائن وعميل. بالتالي فإن مصيره سيكون القتل أو الخطف أو التوقيف. ويتزامن هذا مع ضمور الرقابة والمحاسبة من قبل الجهات التي يُفترض أنها مسؤولة عن هذه الجماعات. إضافة إلى ذلك فإن هذه المجموعات تستغل انتصارات الجيش السوري لتقوم بعمليات السرقة وغير ذلك، مما يترك انطباعاً سيئاً عن مقاتلين الجيش السوري.

الإنسان الأعزل مهما كان موقفه السياسي أصبح هدفاً مشروعاً للاستغلال والنهب
ولا تقف انتهاكات هذه المجموعات في مناطق الصراع، بل تتجاوزها إلى المدن المستقرة، إذ تُنتهك كرامة المواطن وإنسانيته وتُستباح ممتلكاته تحت مسميات وذرائع ما أنزل الله بها من سلطان. وفي كثير من الأحيان فإن حالات الاعتداء، تكون لإثبات ذواتهم المريضة، وإمعاناً في التسلط واستباحة كرامة الآخرين وحقوقهم وممتلكاتهم متذرعين بمواجهة الخونة والعملاء والطائفية، حتى تحوّلت هذه التهم إلى مصدر رعب لكل من تخوّل له نفسه الاعتراض على ما يقوم به هؤلاء. ونشدد على أن بعض من هذه المجموعات تعمل على اتهام الآخرين بإثارة نزعات طائفية، ذلك لتغطية ممارساتهم الإجرامية المحمولة في بعض الأحيان على أبعاد طائفية. وهذا يستدعي من الجهات العليا إيجاد آليات قانونية تضبط سلوك هذه المجموعات.
في الجانب الآخر، تقوم مجموعات تدّعي الثورة بالقمع والتكفير والتخوين ونهب المدنيين العزّل بسبب انتمائهم الديني أو السياسي أو المناطقي... هذه الأسباب وغيرها يتذرع بها هؤلاء لتبرير انتهاك كرامة الإنسان وتخوينه وتدمير ممتلكاته ونهبها وحتى ممارسة القتل بأبشع الأشكال والأساليب. كل هذا وغيره يجرى من منظورهم بحجة الدفاع عن الثورة والدين، متجاهلين أن الثورة الحقيقية والدين الحنيف أساسهما الإنسان الحر.
فالإنسان الأعزل أياً كان موقفه السياسي أو انتماؤه المذهبي أو العرقي، وحتى لو كان غير منتمٍ، أصبح هدفاً مشروعاً للاستغلال والنهب واستباحة كرامته وصولاً إلى إهدار ذاته الإنسانية من قبل أطراف تدّعي التمسك بالوطنية والدفاع عن الوطن والإنسان والدين. لكن هؤلاء في الحقيقة، أكثر من يستغل الأزمة لإثبات ذاتهم المريضة والاغتناء على حساب الإنسان المقهور. إذ تحوّلوا بفعل سلطة السلاح إلى وحوش ليس لهم علاقة بالإنسانية والوطن. ويقترن تفاقم خطورة هذه المجموعات مع تعاظم دور أمراء وزعماء الحرب، حتى باتوا داء المجتمع. فظاهرة امتهان كرامة الإنسان وسلبه ممتلكاته بقوة السلاح، باتت تشكّل أحد أخطر التحديات التي يمكن أن تواجه المجتمع. ويقترن هذا مع نشوء اقتصاد العنف الذي يقوم على توظيف لغة السلاح في نهب الموارد الوطنية والتهريب وسرقة ممتلكات السوريين واستغلال المساعدات الإنسانية. ويتزامن هذا مع مزيد من تشويه بنية الاقتصاد نتيجة إفلاس القطاعات الإنتاجية وتراجع حجم الإنتاج واعتماد الاستيراد لتغطية الحاجات الأساسية والخدمات. وبحسب تقرير «المركز السوري لبحوث السياسات» فقد ارتفع معدل الدين بالنسبة إلى الإنتاج الإجمالي إلى 137%، أما إجمالي الخسائر الاقتصادية التي منيت بها سوريا في السنوات الثلاث الماضية، فتقدّر بنحو 143.8 مليار دولار، أي ما يعادل بالأسعار الثابتة 276% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي عام 2010.
ولم تقف هذه المظاهر عند هذا الحد. بل تجاوزتها إلى ظهور مجموعات امتهنت عمليات النهب والقتل والخطف، ما ساهم في تحويل الإنسان إلى مصدر للنهب والاستغلال.
أخيراً وبغض النظر عن شكل التحولات السياسية في المستقبل، فإن هذه المظاهر تنخر السلم الأهلي والتماسك الاجتماعي وأسباب التعايش، وتنذر بمزيد من الانقسام والتشظي والتذرر، وتساهم في تحفيز الاحتقانات الكامنة تحت رماد القمع والخوف حتى اللحظة.
إن اقتران هذه المظاهر مع تراجع دور الدولة، يُمهّد إلى تجدد دورة العنف بأشكال مختلفة ومتباينة. وإذا كان المواطن حتى اللحظة يتجنب المواجهة المباشرة مع المظاهر الجديدة، فإن تراجع دور الدولة والأخلاق، وتمادي هذه المجموعات في ممارساتها المذلة للإنسان سوف يفجّر بركان الحقد والاحتقان بأشكال لا يمكن توقّعها. ولهذا كنا وما زلنا نطالب الجهات المسؤولة بوضع حد لهذه المظاهر، وليس هذا فحسب، بل نرى أن ضمانة سوريا من انفجار براكين الاحتقان المجتمعي، يكمن في التحوّل الديمقراطي، وكف يد الخارج عن التلاعب بمصير السوريين. وما زلنا نرى أن السوريين هم وحدهم المعنيون بتحديد مصيرهم. وهذا يحتاج إلى جهود المخلصين ممن لم تتلطخ أيديهم بدماء السورين، ولم يمارسوا القمع والنهب باسم القضية المقدّسة والسلاح المقدس. إذ أن مناخ الحرب يمثّل المدخل الموضوعي إلى توليد الحواضن المولدة للعنف والعنف المضاد. وهذا يعني أن المستقبل فيما لو طال الصراع، سيكون مفتوحاً على مستويات وأشكال متعددة ومتباينة من التصفيات والنزعات والصراعات. ويدل إلى هذا تفاقم حدة هدر كرامة الإنسان واستباحته.
إن انتشار السلاح، وتأخر الجهات المختصة عن إيجاد آليات ضبط لهذه المجموعات، من الممكن أن يدفعا الأفراد إلى استرداد حقوقهم المهدورة ذاتياً. أما الرافضون لغة السلاح. فإنهم يتحولون تدريجياً إلى أهدافٍ مشروعة للأطراف المعادية للإنسان الحر والمستقل.
* باحث وكاتب سوري