منذ عشرينيات القرن الماضي حين تأسست احزاب شيوعية في عدد من البلدان العربية، في فلسطين ومصر وسوريا ولبنان ولحقتها قافلة الاحزاب والمنظمات الشيوعية والعمالية وإلى يومنا تؤكد هذه الاحزاب التزامها الثوابت الرئيسية لها في «الايمان» بالماركسية اللينينية وديكتاتورية البروليتاريا والأممية البروليتاريا والجبهة الوطنية والتنظيم الحديدي.
ولم يطرأ عليها تغيير واضح إلا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي «العظيم» طليعة المنظومة الاشتراكية التي لحقته، وما حصل بعد نهاية الثمانينيات من القرن الماضي. أي ان عمر الاتحاد السوفياتي هو عمر هذا الالتزام ايضاً لدى هذه الاحزاب في العالم العربي. والعلاقات بينهما كانت اكثر من التزامات ايديولوجية كما هو معروف او تبين بعده وإنما ارتباطات اخرى، من بينها الدعم المالي والسياسي والثقافي وبأشكال مختلفة من التبادل لما هو في مصلحة الطرفين وفي خدمة البناء الشيوعي على السواء. والتغيير الذي حدث ادى الى تحولات بنيوية في السمات والارتهانات والتسمية. فكثير من الاحزاب تخلت عن صفة الشيوعي في عناوينها رغم تسجيلها التزام البرنامج السابق على التحول مع بعض التعديلات او الحذوفات لأسطر منه متعلقة بالثوابت الاساسية او الاعمدة التي تميزها عن غيرها من الاحزاب الديمقراطية الشعبية الاخرى. وكذلك التي احتفظت بتسميتها السابقة اجرت تعديلات على برامجها وأهدافها الكفاحية وتهربت من الشعارات التي كانت تعلو على مانشيتات صحفها السرية والعلنية، مثل شعار المطرقة والمنجل وديكتاتورية البروليتاريا، ومنها من لم يُبال بالتعاون العلني مع قوى احتلال اجنبية او اقطاع سياسي محلي. وأقسام غير قليلة من الانشقاقات عنها تحولت الى اضدادها او تعاونت معها كيدياً وتشبثاً بما هو مخجل اخلاقياً في حده الادنى، كما حصل عند المتطرفين في اغلب الانشقاقات وارتباطاتهم بالأحزاب والسلطات اليمينية الحاكمة او المتنفذة، والشواهد كثيرة ولا تحتاج الى دليل. مثبتين قولاً للينين عن ان التطرف اليساري يقود دائماً إلى تطرف يميني، وأي غلو ينتهي عند ما هو عكسه او مقابله الضدي.

حورب مَن أراد تجديد
الفكر والحركة داخل الأحزاب الشيوعية في العالم العربي
حورب مَن اراد تجديد الفكر والحركة داخل الاحزاب الشيوعية في العالم العربي بشتى الوسائل والطرق، واتهم بكل التهم التي هي وصفات حال تتطابق وتلك القيادات ذاتها في تلك الاحزاب: التحريفية والجمود العقائدي وضيق الافق والأكتاف الرخوة وصولاً الى التعامل مع العدو الطبقي. وتجارب الياس مرقص وياسين الحافظ ومحمود امين العالم وميشيل كامل مثال معلن. كذلك استقبال «محاولات» الرئيس السوفياتي الأخير غورباتشوف في البريسترويكا والغلاسنوست، بين رافض مطلق لها او متبن كامل من دون حساب الواقع وفروضه او شروطه العملية، او الظروف الذاتية والموضوعية.
بقيت تلك الاحزاب ترفع شعاراتها ونظرياتها كما وصلتها او تدربت عليها من دون قدرات كبيرة في تعريبها والاستفادة من منهجها في تحليل ملموس لواقع ملموس والعمل على تغييره. وظلت القيادات تختصر يوماً بعد اخر بإرادة الامين العام، ومن بعده تأتي السلسلة في الاهمية والقرار والإدارة بحسب المركزية الديمقراطية التي لم تغيرها زلازل الكون، ويكون بعده من يترحم عليه هو من اعضاء مكتب سياسي او لجنة مركزية او مؤتمر عام.
خلاف المقرر في النظم الداخلية من تسلسل وأهمية لمصادر السلطة والفكر في الحزب. واكتفت بحجج السرية وذرائع الاوضاع الامنية بانتهاك انظمتها الداخلية وعلاقاتها الرفاقية. ولم تراع انعطافات التاريخ او مؤثراته الموضوعية.
معلوم ان مصادر الماركسية اللينينية الفكرية لم تترجم كلها الى اللغة العربية، وان اغلب القيادات الحزبية لم تتقن لغة ثانية او لم تتعلمها جيداً، ولجان عملها الايديولوجي لم تبذل جهدها في اختصار المصادر والشروح ابعد مما وفرته الدورات الحزبية ومعاهد «كادحي الشرق» السوفياتية الطبعة والمنهج. وظلت هذه النظريات الثورية التي تدعم الحركات الثورية والتي لا يمكن ان تكون من دونها في بطون الكتب ورفوف الدورات من دون ان تنزل الى الشارع والجماهير والطبقة العاملة حاملة شعار الثورة والتغيير. وبقيت المعرفة فيها هشة وناقصة وخارجية ولم تتعمق فيها القيادات الحزبية فكيف القواعد والخلايا العمالية المهمومة ببيع فائض قيمة منتوجها وستر الحياة الكريمة. ولكن رغم كل ذلك صارعت الطبقات والسلطات اليمينية والرجعية وتحملت في صمودها الشخصي البطولي ما لم يتحمله غيرها، واستشهد ضحايا كثر تحت التعذيب تحدياً للجلادين والسلطات القمعية فقط، او كي لا يشتموا اسم زعيم الحزب المحلي او ماركس ولينين وستالين، او قضوا سنوات العمر البهية بين المنافي او السجون او الاقبية السرية. وأطلق على بعض الاحزاب من كثر التضحيات البشرية اسم حزب الشهداء.
رغم تاريخها الطويل وعمرها الزمني لم تتمكن الاحزاب الشيوعية من تسلم سلطة كاملة في أي بلد عربي وتنفيذ مهمة الحزب الاساسية في وصايا لينين والكومنترن لها. (ما عدا ما حصل في اليمن الجنوبي كتجربة ماركسية اولية من احزاب تحولت الى الماركسية وتبنتها كأفكار تطويرية لها وليس من احزاب شيوعية الاساس) وتفننت في بناء الجبهات الوطنية التي ما ان تلتئم حتى تنفرط غدراً او خداعاً من الاطراف الاخرى التي لم تحفظ مثلها ما تلتزم به وتسجله عليها. وهي ظاهرة ملفتة في العالم العربي. فضلاً عما حصل داخل هذه الاحزاب من انشطارات وانقسامات متتالية ومتوالية، لم تعطها فرصة او تريحها فترة كافية لمعالجة اسبابها او تداعياتها او اختراقاتها. وبلا شك تتفنن القوى المعادية للحركة الشيوعية في تحجيم الاحزاب واختراق مناضليها وسجن قياداتها واضطهاد وتحطيم منظماتها وتعذيب واغتيال ابطالها الصامدين، المسطرين نماذج للبطولة الفردية والشعبية لشعوبهم وأوطانهم.
من يتحمل المسؤولية عن التضحيات الجسام؟ من يضع المرآة امامه ويعترف بجرأة بدوره وموقعه في ما حصل وجرى للأحزاب والحركة العمالية وما وصلت اليه؟ وأسئلة كثيرة تبقى رافعة سبابتها مذكرة الجميع بمكر التاريخ وعقابه. ولكن تبقى صفحاتها الحمراء شعلة يفتخر ويضرب المثل بها لغيرها في الاطار العام.
لقد كانت هذه الاحزاب في عهود ماضية محفزاً ومؤشراً لمسار النهوض والعزيمة ومحك الكفاح الوطني والقومي ضد المستعمر والمستبد. ومازالت تحمل الراية إلا انها ليست بذات القوة والدفع. وكأنها تخلت عن دورها وقيادتها لقاطرة التاريخ او استرخت قليلاً في ظروف لم تعد ملائمة لها، (ومتى كانت كذلك؟). كانت تجتمع سنوياً وتصدر بياناً يقرأ بكل صفحاته، لما فيه من تحليل الاوضاع العربية والدولية والداخلية وبرامج عملية لها، ويؤكد حضورها الواقعي في ساحات النضال اليومي للشعوب العربية. ولديها مؤسسات ثقافية وفكرية وإعلامية لها تقديرها واحترامها الشعبي العام. كانت بوصلتها حركة الفقراء والكادحين والمستضعفين ومسار التاريخ وبياناتها مصدر التأثير والتغيير. وكانت... وكانت... واليوم اين هي؟! كثير من الثوابت مازال صحيحاً وأثبتت صحته ساحات الكفاح الوطني والنضال المطلبي ولم تحتج إلا الى التغيير والتجديد بما يتفق مع تحديث الثوابت والمطالب ومواكبة متغيرات الحياة والحركة الشعبية وتطورات التقنية والعلوم والاتصالات. والاعتبار مما قاله الشاعر العربي (الجاهلي) دريد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
* كاتب عراقي