حديثنا هنا عن مذكّرات صائب سلام التي صدرت للتوّ في ثلاثة أجزاء بعنوان: «صائب سلام: أحداث وذكريات». وقلتُ من قبل إن الأجزاء الثلاثة هي يوميّات دوّنها صائب ونشرتها العائلة كما هي من دون تصحيح أو تنقيح أو تحرير، مع أنها تنقل صورة معبّرة عن مكنونات صائب سلام وتفكيره في محطات تاريخيّة هامّة شارك هو في صنع بعضها. يكشف صائب جانباً من الدراية الأميركيّة المشبوهة بصحّة جمال عبد الناصر. ولقد شغلني لسنوات موضوع احتمال تورّط أميركي في وفاة عبد الناصر ورويتُ من قبل أنني سألتُ مسؤولاً أميركيّاً سابقاً عن الأمر فقال لي: وهل أخبركَ لو كان هناك ضلوع أميركي؟ ولقد نشر موقع وزارة الخارجية قبل أكثر من عشر سنوات وثيقة مُفرجاً عنها وفيها حديث بين زكريا محي الدين وبين مسؤولين أميركيّين وفيها يستفيض الأوّل في الحديث عن صحة عبد الناصر، وأذكر أنني أرسلتُ نسخة إلى المؤرّخ اللبناني محمود حدّاد، وبعد فترة أزال موقع وزارة الخارجيّة الوثيقة بالكامل.

ويروي صائب عن حديث بينه وبين السفير الأميركي في بيروت في عام 1968 ويقول صائب إن «أخطر ما فهمته من «بورتر»، خلال ذلك اللقاء، فكان أن أوضاع عبد الناصر الصحيّة ليست على ما يُرام! والحقيقة أن هذا الموضوع شغل بالي كثيراً طوال الأيام التالية وظلّ مهيمناً على أفكاري». والتقى سلام بعد ذلك مع محمود رياض وأكّد له الأخير صحّة ما أورده السفير الأميركي (ص. 474، ج 1). لكنّ هذا الموضوع يحتاج إلى بحث وأدلّة أكثر قبل الفصل بالمسؤوليّة الأميركيّة.
وفي موضوع السياسة السعوديّة، بقي—على الأقلّ في اليوميّات—موقف صائب متطابقاً مع الموقف المصري، واعتبر أن الشرط الأوّل من شروط السلام في اليمن هو «توقّف السعوديّين عن إمداد الملكيّين بالمال والمساعدة» (ص. 473، ج 1). ويروي صائب معلومات مهمّة عن دور الجيش اللبناني و«المكتب الثاني» في تضليل الرأي العام وتأليبه ضد الفدائيّين، ويقول إن «إعلام المكتب الثاني (كان) يضلّل الناس بالحديث عن معارك وهميّة حصلت مع الفدائيّين وعن «اعتداء الفدائيّين على الناس»» (ينسب سلام القول إلى قائد «الصاعقة» آنذاك، رئيف علواني). (ص. 486، ج 1). ويقول صائب إنه نبّه رشيد كرامي إلى «خطورة وضع كلّ المصائب على ظهر الفدائيّين» (سيصدر قريباً كتاب عن الحرب في لبنان، وهو يعتمد على وثائق أميركيّة، ويظهر فيها موقف رشيد كرامي في محادثاته مع الديبلوماسيّين الأميركيّين متوائماً مع مواقف القادة الموارنة آنذاك في الموقع من المقاومة الفلسطينيّة).
وفي الحديث عن الاستعداد للانتخابات الرئاسيّة في عام 1970 يذكر سلام أمر التمويل السعودي، إذ تجده يُطمئِن كامل الأسعد بأنه، بعد لقائه مع الملك فيصل ومساعديه في جنيف، وجد الاحتمال «كبيراً» في أن «يساعدونا في المعركة المقبلة» (ص. 494، ج 1). إن قصّة انتخابات سليمان فرنجيّة في عام 1970 لم تُروَ بعد، وفيها الكثير عن تدخّلات خارجيّة (غربيّة وخليجيّة) وعن تهديدات ميليشيَويّة عشيّة الانتخابات. ويُكرّر سلام في يوميّاته أنه كان دوماً متعفّفاً في مسألة كرسي الرئاسة الثالثة (ص. 513، ج 2)، لكنه يعترف في الجزء الأول أنه صارح شارل حلو بأنه لن يرضى برئيس حكومة غير نفسه. ويبدو من الرواية أن المكتب الثاني حاول استمالة صائب سلام لمعركة الرئاسة المقبلة، لكن المحاولة أتت متأخرة، وصائب كان راعي ترشيح سليمان فرنجيّة عبر تكتل الوسط الذي جمعه مع كامل الأسعد وسليمان فرنجيّة.
يعبّر صائب عن شديد حزنه لوفاة عبد الناصر ويصفه بـ«البطل الاستثنائي» (ص. 523، ج 2). وبالفعل، في تصريح صائب المنشور في الصحف غداة وفاة عبد الناصر رثاه بحرقة وقال: «إنها أفدح خسارة تنزل بالأمة العربيّة» ونزعَ القرنفلة الشهيرة عن ياقته حداداً (لعلّ هذه المواقف العلنيّة من عبد الناصر هي التي جعلت النظام السعودي يقتّر في عون سلام ماليّاً—حسب الشكاوى المتكرّرة في اليوميّات). وعزّى صائب أرملة عبد الناصر، وقيل لصائب إنها لم تنزل من جناح النساء «لتجتمع بأحد قبله» أو «تتقبّل أيّ تعازٍ من أحد» (ص. 525، ج 2). ويضيف صائب أن صورته مع أرملة عبد الناصر «كان لها دويّ كبير وتأثير كبير». وقيل، أيضاً، لصائب إنها وقعت مغشيّة عليها بعد مقابلة صائب—من شدة التأثر أو الصدمة (لرؤية صائب بشحمه ودمه؟) لا ندري. نترك المسألة للمؤرّخين.
هناك ثغرات كبيرة في المذكّرات. صائب يمعن في سرد تفاصيل عن مسائل ليست مهمّة (مثلاً إيراد تصريحات له والزعم أنها أحدثت دويّاً كبيراً في لبنان والمنطقة، وأحياناً في العالم) لكنه يمرّ مرور الكرام على أحداث كبيرة أو أنه يهمل ذكر محطات مهمّة كان له دور كبير فيها (مثل فضيحة إنترا). في ولاية صائب سلام في حكومته في عهد سليمان فرنجيّة (من عام 1970 حتى عام 1973) لا يتوقّف سلام مليّاً عند هذه المرحلة المهمّة من تاريخنا المعاصر بل لا يذكر عنها غير سفرات له وكيف أن النظام السوري أعدّ له «استقبالاً حافلاً وحاراً» (ص. 532، ج 2). يقفز سلام عن السنوات الثلاث ليذكر فجأة أمر استقالته بعد عمليّة الكوماندوس الإسرائيلي في نيسان 1973، واغتيال قادة المقاومة وتورّط قيادة الجيش (الأكيد) في التغطية أو التواطؤ في الاغتيال. وأفصح سلام كيف أن الجيش اللبناني كان يخالف قرارات القيادة السياسيّة بالتصدّي للعدوان الإسرائيلي ويتمنّع عن استعمال الطائرات المقاتلة التي كانت بحوزته (كان ذلك في زمن كان للبنان فيه طائرات مقاتلة بجدّ وليس طائرات الاستعراض مثل «سوبر توكانو» أو طائرات رشّ المبيدات التي تنعم بها الحكومة الأميركيّة على لبنان هذه الأيّام لإيهام شعبه أنها تدعم الجيش). ويعترف صائب أن قيادة الجيش كانت تتذرّع كل مرّة يقع فيها عدوان على لبنان وتزعم أن الرادارات لم تكن تشتغل أو أنه ينقصهم قطع غيار من الصعب الحصول عليها (ص. 543، ج 2). لكن صائب يعترف—من دون أن يلاحظ—بتقصير وخذلان فظيع من قبله: هو يقرّ أنه كان يغطّي على تقصير الجيش بحكم موقعه كرئيس حكومة. أي إن صائب سلام شريك في التقصير الذي شاب أداء الجيش في تلك المرحلة ربما لأن مصلحة بقائه في الكرسي اقتضت ذلك وتفوّقت على المصلحة الوطنيّة العليا. وهذه التغطية كلّفت لبنان مئات من الضحايا الأبرياء من اللبنانيّين والفلسطينيّين الذين كانوا يُحرقون حرقاً بحمم القصف الإسرائيلي فيما كان الجيش يقف متفرّجاً ممتنعاً عن استعمال ما لديه من سلاح. أمّا صائب فكان يغطّي على الجيش باستمرار. هذه مسؤوليّة تاريخيّة تتوجّب المحاكمة لو كان سلام حيّاً. طبعاً، صائب استقال في ما بعد احتجاجاً على تقصير قائد الجيش، لكنه شريك في التقصير الذي سبق عدوان فردان لأنه غطّى عنه في سنوات حكمه. ويسرد صائب أكاذيب متعدّدة كان الجيش اللبناني يسوقها في الإعلام لتسويغ سكوته عن عدوان إسرائيل: كانت قيادة الجيش تزعم كذباً أن قيادة المقاومة كانت تناشده لعدم التدخّل. هذه مرحلة لم تتم محاسبة المسؤولين عنها—والمسؤولون عنها كانوا مسؤولين عن الويلات التي جرّت إلى حرب أهليّة. وفي حادث فردان الشهير، يقول صائب إن الجيش أصدر بياناً كاذباً عن اشتباكات بينه وبين العدوّ في صيدا فيما كان قائد الجيش يقول لصائب في ليلة العدوان إن لا علم لديه بوجود عدوان في صيدا (ص. 544، ج 2). ويتهم صائب قيادة الجيش باستفزاز المقاومة الفلسطينيّة وأن رهان الجيش بعد عمليّة فردان كان من أجل إشعال مواجهة بين الطرفيْن. هذه شهادة مهمّة وخصوصاً أن السرديّة الكتائبيّة السائدة عن مؤامرة فلسطينيّة (والسرديّة الكتائبية هي عينها السردية الإسرائيليّة، يا للعجب العجاب) تصوّر الاشتباكات بين المقاومة وبين الجيش أنها كانت من أجل فرض… التوطين. وشعر صائب أنه كان هناك تفاهم أميركيّ مع سليمان فرنجيّة لتدخّل قوات أميركيّة «إذا تأزّم الوضع في لبنان» (ص. 545، ج 2). وعندما زار ياسر عرفات القصر الجمهوري في محاولة للتفاهم مع فرنجيّة سمع أحد حرس الرئيس يقول: «شو جايي هالأزعر يعمل هون». لكن عندما أرسلت مصر طيّارين لتنسيق الدفاع عن لبنان استغرب صائب ذلك ولم يعبّر عن تأييده (ص. 598، ج 2). والطريف أن صائب عندما يتحدّث عن خطبه وتصريحاته يحرص دائماً على وصفها بـ«الموفّقة»: «وكانت كلمتي موفّقة… ولقد كان ردّي عليهم بعد الظهر موفّقاً، كما كانت كلمتي عند الصباح موفّقة»، وكان هذا «التوفيق» وراء محاولة منع الحكومة نشر خطبته لكنّ الصحف نشرت خطابه وتلقّى التهاني، وتلقّى على الأرجح الدعاء بـ… التوفيق (ص. 557، ج 2).
يروي معلومات مهمّة عن دور الجيش اللبناني و«المكتب الثاني» في تضليل الرأي العام وتأليبه ضد الفدائيّين


وأورد صائب معلومات فرنسيّة عن وزير الخارجيّة المصري، إسماعيل فهمي، وأنه كان «أميركيّاً» وأنه كان ينقل إلى كيسنجر محادثاته مع ديبلوماسيّين آخرين. لم يثق الفرنسيّون به أبداً (ص. 567، ج 2). وفي تلك الفترة، بعد احتدام الصراع بين سلام وفرنجيّة (من دون أن يعترف سلام بمسؤوليّته في ترشيح فرنجية وفي انتخابه رئيساً بالرغم من اعترافه أنه كان جاهلاً وغير كُفُؤ وأنه حاد بعد عام 1967 عن الخط العروبي الذي التزم به سلام)، لم يكن ممكناً طرح اسم سلام لرئاسة الحكومة. هو حاول في البداية طرح اسم نزيه البزري لكن الترشيح لم يلقَ تأييداً ثم طرح في عام 1974 اسم رشيد كرامي لكنّ زوجته، تميمة، عارضت بشدّة وصائب يقول إنه اعتاد «أن يكون لرأي تميمة (عنده) قيمة كبرى في جميع الأمور، وليس أقلّها في الأمور السياسيّة» (ص 580، ج 2). ليس هناك من مثال لزعيم لبناني يكنّ هذا الاحترام والتقدير والحب لزوجته. هذا جانب في شخصيّة صائب لا يمكن إلا أن يحظى بالتقدير. هناك مذكّرات لساسة لبنانيّين لا يرد فيها اسم الزوجة. ويتغيّر موقف سلام من فؤاد نفّاع بين جزء وآخر. في الجزء الأوّل يقول إن نفاع «عاقل ومتفهّم كما أن ميوله التحرّريّة والعربيّة طيّبة» (ص. 459، ج 1). أمّا في الجزء الثاني فيقول إنه تمنّع عن الاجتماع بنفّاع «لأنني غاضب على نفّاع الذي أثبتَ أنه مصلحجي إلى أبعد الحدود، وقليل الوفاء» (ص. 598، ج 2). ما عدا مما بدا، يا صائب؟
وتحدّث سلام عن خطف الكاتب المعروف في «النهار»، ميشال أبو جودة. وكان من المعروف أن النظام السوري (وجهاز رفعت الأسد) كان مسؤولاً عن الخطف. لكن صائب يروي—وبناءً على حديث أبو جودة معه بعد إطلاق سراحه—أن أبو جودة انتقل من خاطفين موالين للعراق إلى خاطفين موالين لسوريا وأن فريقيْن متناقضيْ الهوى السياسي تولّيا التحقيق معه وناقشاه في تفاصيل مقالاته. لكنّ أبو جودة انتقل إلى سوريا في الأسر وسلّمه النظام السوري إلى لبنان (ص. 605، ج 2). ووقف صائب ضد تدخّل الجيش اللبناني لأنه ارتاب في خطّة «للجنرال إسكندر غانم وجماعته» للسيطرة على الفلسطينيّين (ص. 607، ج 2). والذي يُنشر من وثائق في أميركا يعزّز انطباع صائب. كما يعترف صائب أن بيار الجميّل كان «يلعب لعبة التصعيد». والغريب أن هناك من لا يزال يصدّق أن المقاومة الفلسطينيّة هي التي أشعلت الحرب أو أجّجتها، وهي من ذلك بريئة بالرغم من كل أخطاء قيادة المقاومة وتجاوزات عناصرها.
ويذكر صائب أنه نقل إلى السفير الأميركي في بيروت رسالة من عرفات مفادها أن القيادة الفلسطينيّة لا تريد إحراج أميركا في الأمم المتحدة وأنها ستتحاشى كلّ ما من شأنه أن يحرج واشنطن «وذلك لرغبتهم في مساعدة فورد وكيسنجر على الاستمرار في سياسة متوازنة بين العرب وإسرائيل» (ص. 612، ج 2). وإذا كان ذلك صحيحاً فإنه ينمّ عن قصر نظر وسوء فهم من القيادة الفلسطينيّة لأن إدارة فورد-كيسنجر كانت مسؤولة عن أفظع السياسات نحو فلسطين، ونحو منظمة التحرير تحديداً.
ويروي صائب للمرّة الأولى فكرة إنشاء ميليشيا «رواد الإصلاح» (سرعان ما أطلق عليها أهل بيروت الظرفاء لقب «روّاد الفضاء» خصوصاً عندما كانت سيّاراتها العسكريّة تجول الشوارع في مطلع الحرب). ينسى البعض أن صائب سلام بادر من بين القيادات الإسلامية السنيّة التقليديّة (كما كامل الأسعد عند الشيعة) إلى تشكيل ميليشيا خاصّة به لكنها لم تعمّر—كما حالة ميليشيا الأسعد—لأن المسلمين، سنة وشيعة، نبذوا القيادات التقليديّة وانجذبوا نحو الأحزاب والمنظمات القومية واليساريّة—اللبنانيّة منها والفلسطينيّة. يقول صائب إنه طرح الفكرة أمام ابنه فيصل و«ثمانية من رفاقه» (ص. 598، ج 2). وكان صائب (وابنه تمّام من بعده) يميّز نفسه عن زعماء الميليشيات في أنه نبذ السلاح مع أن الحقيقة هي أن مسعى صائب لتشكيل ميليشيا فشل بسبب هجران أهل بيروت لزعامته في الحرب.
ومن طرائف ما يرد في الكتاب أن النظام السعودي هو الذي كان يوفّق بين صائب سلام وكمال جنبلاط، زعيم الجبهة التقدمية في حينه. انتحى به الأمير عبدالله بن عبد العزيز ليعترف له بأنه يقوم بمسعى لمصالحة جنبلاط معه. وأوضح له عبدالله أنه لم يسمع من جنبلاط عنه إلا المديح، لكن المسعى لم يستمرّ لسبب خفي على صائب (ص. 613، ج 2). تتعجّب أن النظام السعودي كان حريصاً على مصالح قائد حركة مفترض أنها يساريّة وتقدميّة، لكن الأمور في لبنان لا تُؤخذ بالعناوين والشعارات والصفات السياسيّة، وإلا كان وليد جنبلاط تقدمياً واشتراكياً (معاً) بحقّ. وكان جنبلاط (الذي كان يصف صائب بـ«العميل السعودي») مواظباً على زيارة السعوديّة ويحتفظ بعلاقات حسنة معها (تقرأ في جريدة «الأنوار» في 22 نيسان 1974، أن كمال جنبلاط زار السعودية والتقى بالملك ووليّ العهد ونائب وزير الدفاع). ويبدو أن السياسة السعوديّة في لبنان كانت متضاربة، فيروي كيف أن عمر السقّاف (الذي ناله تقريع من صائب في ما بعد) حثّ صائب على عدم قبول منصب رئاسة الحكومة فيما كان السفير السعودي في لبنان، منصور الرميح، «يصرّ» على قبول صائب بمنصب رئاسة الحكومة (ص. 616، ج 2). ولا تزال السعوديّة تتصنّع عدم التدخّل في الشؤون اللبنانيّة وهي من أكبر المتدخّلين. وبلغ التدخّل السعودي درجة أن فرنجيّة طلب من الرميح أن يبرق إلى الملك فيصل ليعلمه أن تكليف صائب بات محسوماً (ص. 618، ج 2).
وقبل صائب أن ينضم إلى الوفد الرسمي الذي رافق سليمان فرنجيّة عندما ألقى خطابه الهزيل في الأمم المتحدة في عام 1974. ويقول صائب إنه اقترح على فرنجية إلقاء الخطاب بالعربيّة لكنّ فرنجيّة (وهو لا يحمل شهادة، عربيّة أو إفرنجيّة) أصرّ على إلقاء الخطاب بالفرنسيّة، وحثّ سلام عمر السقّاف على إقناع فرنجيّة بضرورة إلقاء الخطاب بالعربيّة. وعندما يذكر وفاة عمر السقّاف في الفندق في نيويورك في أثناء الرحلة، لا يفوت صائب أن يصيب عبدالله اليافي بسهامه، إذ يزعم أن اليافي أجّل زيارة غرفة السقّاف للتعزية إلى اليوم التالي (ص. 624، ج 2). ويظهر من الكتاب أن سلام كان شديد الإعجاب بحافظ الأسد ويقول إن السقّاف كان يشاطره هذا الإعجاب (ص. 616، ج 2). والاجتماع بحافظ الأسد كان جدّاً مهماً عند صائب وكان يستفيض في وصف الحفاوة والترحاب اللذيْن لاقاهما هناك. ومثل كل اجتماع أو زيارة لصائب لأي مسؤول، يكتب أنه في مواقفه لاقى استحسانا وإعجاباً. يقول عن زيارته لحافظ الأسد في عام 1974: «كانت الزيارة مهمة وناجحة، ولسوف يتبيّن لي منذ وصولي إلى بيروت أن صداها في لبنان كان كبيراً حيث اعتُبرت حدثاً مهماً جداً» (ص. 627، ج 2).
ولا يخوض صائب سجالاً مع أحد إلا ويهزمه كسحاً. يقول عن جلسة حكومية في عام 1974، أن كمال جنبلاط كاد «أن يكون نجم الجلسة التي تكلّم فيها، غير أنني سارعتُ للإجابة عليه إجابة أطفأت نوره كاملاً، خصوصاً أنني تعمّدتُ أن أروي ما كان يقوله لي رئيس الجمهوريّة عن كمال جنبلاط خلال جلساتي الخاصّة معه. وهكذا، كانت كلماتي في اليوم التالي هي عناوين الصحف، بينما جاء كلام كمال جنبلاط ثانويّاً» (ص. 629، ج 2). طبعاً، بحلول عام 1974، كان نجم جنبلاط أكبر وأعلى من نجم صائب لكن ذاكرة صائب يشوبها غرور فائق.
ويتوقّف صائب في كل محطة كي يثني على زوجته تميمة. واحتفل بعيد زواجه الثالث والثلاثين ويصف الزواج بـ«ثلث قرن من حياة زوجيّة مثاليّة يندر ما يشبهها في اعتقادي، حياة قامت على التوافق والتفاهم والمحبّة، بل وعلى استمرار الحبّ منذ أيّام الزواج الأولى… بكل صراحة، ما عند تميمة يندر في النساء: عقل راجح في أنوثة لا تفقد زهوها وحيويّتها، وهناء في الطباع وفي إشاعة ذلك الجوّ الهادئ في البيت وعند الأولاد والكنائن والأصهار وأولاد الأولاد. آه كم وكم عانيتُ في حياتي من تلك الأجواء السياسيّة التي كانت ولا تزال تمدّني فيها تميمة من نصح في كلّ كبيرة وصغيرة» (ص. 630، ج 2). في تلك المقاطع، وفي تلك المقاطع فقط، يظهر صائب إنساناً وعاشقاً (لكن ما قاله عن ندرة الصفة عند النساء ينمّ عن عقل ذكوري).
(يتبع)

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@