[تعقيباً على مقالة الأستاذ المحاضر نبيل حبيبي الواردة في جريدة «الأخبار»، «لا مفرّ من إهانة مقدّساتك الدينيّة» تاريخ 16 أيلول 2022]
لن ندخل في خلفيات محاولة قتل سلمان رشدي وما رافق ذلك من عاصفة مواقف من هنا وهناك، بل سنتناول «مفهوم إهانة المقدسات» فليس هناك مفهوم بالمعنى الحرفي الدقيق للكلمة في تشكّل عناصره العلمية والموضوعية للإهانة واستباحة حرمة المقدسات الدينية التي نعثر على نماذج فاضحة لها في الدائرتين الإسلامية والمسيحية وحتى اليهودية.
فالمفهوم هنا ليس آلياً منظماً ومعداً بتسلسل ناتج من معادلات فلسفية بقدر ما هو انعكاس جلي يعري ذات الإنسان ويفضح عقدها النفسية في تفاعلاتها مع المقدس وما ترميه به من مشاعرها الدينية المتورمة عليه حتى أضحى محاطاً بجدار عال من العصمة التي لا تقبل المناقشة. بتصوري مشكلة جل أتباع الأديان خلقهم لنوع من التوافقية السلمية مع المألوف الديني مما أورث جموداً وترهلاً معرفياً على مستوى الذهنية والسلوك بدل خلق لحظات خلاقة تحرر الإنسان وتأخذ بيده إلى عقلنة أصيلة ترتب له أوضاعه وتنظم قواه وتعيده إلى دوره المطلوب في التغيير البنّاء.
من هنا نجد بعض السلوكيات المرضية الانطوائية ذات الطابع الطقوسي الفارغ التي توسلت لغة الدين المغالية حتى تحصل على نوع من الحماية والطمأنينة والثبات، ليس فقط أمام الآخر، ولكن أمام معتقدها هي أولاً. فلا يمكن لها ضمان الاستمرارية، وهنا نتحدث عن الديانات، إلا إذا اتكأت على منظومة عقيدية تشبع نهم الفرد والجماعة وتسعفهم كي يبقوا بنظرهم أقوياء ثابتين أمام ما قد يمكن أن يواجههم من داخل جماعاتهم أو من خارجها.
لكن، باعتقادي، لو تركنا الأفكار الدينية جميعاً ونفَسها لوجدنا أنها لا تنطلق بداية من فكرة مناقضة غيرها من الأفكار لأجل المناقضة، بل تقوم بحركة ذاتية دائرية حول ذاتها أولاً لتعزيز منظومتها ورفدها بكل إجابات قد يخف ثقلها المعرفي مع الوقت والحوار الداخلي والخارجي الذي لم نصل بعد إلى مرحلته الفعلية والمتوخاة. هذا النقيض الذي لفت إليه المحاضر نبيل حبيبي ليس بالضرورة رد فعل على أفكار نقيضة لها -وهو ما عاد وصرّح به في مقالته. لأن الأفكار بذاتها متمايزة، والتمايز نابع من لازم ذاتي انسيابي فيها أتى لإتمام السلسلة المعرفية الدينية والوضعية مع مرور الزمن وارتقاء الأذواق وتفتق الأمزجة والحوارات الداخلية للجماعات على اختلافها، على أساس وحدة هذه الديانات في جوهرها كحلقات تستوعب بعضها البعض. هذا المقابل لا يمكن إلا أن يكون موجوداً بحكم طبائع الأفكار وليس شيئاً مقصوداً وُلِدَ كرد فعل. فما تطرحه الديانات اللاحقة تاريخياً من أفكار حول سابقاتها لماذا لا توضع في إطارها الطبيعي في محاكاة طبيعة الإنسان في قلقه المعرفي الداخلي الذي ربما لا يقبل حتى بالعقيدة نفسها التي يحملها إن لم تواكب تلك اللحظات المشحونة تفجراً وقلقاً فيه وتوقاً إلى إرضاء مشاعره وتهدئة عمله العقلي؟!
هناك مرتكز فطري وعقلائي مع بداية خلق الإنسان جاءت بعده الأديان لكن صورها وأشكالها العبادية ووسائل الفهم والتعبيرات الدينية تطورت واختلفت. فدين الإنسان الأول لم يكن يغازل النقائض بعد وصفاؤه لم يكن في مقابله صفاء ديني آخر إلى أن تعكّر هذا الصفاء بملوثات جعلت أفهامنا قاصرة مسفَّة محكومة إلى أنانيات ومقيدات على الصعد كافة دفعت نحو مآسي الانغلاق على الذات والثقة العمياء بما عندها من دون النظر إلى ما عند الآخر أو محاولة فهمه وصولاً إلى التحاور معه وقبوله.
عندما تريد نقض فكرة دينية أو دين بأكمله فمن المنطقي أن تنسف تأسيساته ومرتكزاته من الجذور بما ينسجم مع مقتضيات النقض، لكن ما حصل ليس نقضاً من الناحية الموضوعية، بل اعترافاً بما لدى الآخر ضمن رؤية مستقلة تحاول توجيه الأفكار وفق رؤيتها. فالإسلام مثلاً لم يلغ المسيحية ولم يكن في صراع معها ولكن كانت له طروحاته حول بعض القضايا العقدية كألوهية السيد المسيح وغيرها لا بل امتدح المسيحية في صفائها الروحي المنسجم مع روحية التوحيد الخالصة والتقى معها على أساس تلك القيم الأخلاقية والروحية التي يحفل بها الإنجيل من المحبة والسلام والحوار والالتقاء والتواضع لبعضنا البعض وذلك لنفي كل ذهنية تختنق بعقدها التي تحاول محاصرة الآخر وإسقاطه. «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ» (المائدة: 82-83).
حفل التاريخ بمعارك وانشقاقات حتى داخل الجماعة الواحدة الدينية من مسيحية وإسلامية ويهودية غذتها عوامل نفسية وفكرية وسياسية واجتماعية صنعت منها إطاراً يحفظ كل جماعة ويجعلها تلقائياً تحيا بين جماعة أخرى مختلفة عنها في منحى عقيدتها وتفكيرها.
من الانشقاقات داخل جسم الكنيسة في القرون الأربعة الأولى الميلادية بين نساطرة ويعاقبة إلى التراث الإنجيلي الشفوي نفسه. فبولس الرسول كان أحد علماء اليهودية المتفلسفين واسمه «شاول»، بولس لم يرتض لنفسه أن يكون مبشراً فحسب إذ لحظاته القلقة جعلته يحاول التوفيق بين المسيحية وبين الأفلاطونية المحدثة عبر فكرة التثليث، العام 40 م. إلى «فيلون» المعاصر للسيد المسيح الذي هو الآخر التوفيق بين الحكمة والشريعة، إلى ثورة الأبيونية على التثليث، إلى الآريوسية، وغيرها.
أمّا إسلامياً، فتوزعت الفرق وتشكلت الجماعات بعد وفاة النبي إلى أن قامت المدارس الكلامية التي دعمت كل جماعة في القرنين الميلاديين الأولين إلى أن وصلنا إلى تصنيفات بين سنة وشيعة لا يزال واقعهما بمسيس حاجة إلى التخلي عن التعصب والنظر بهدوء إلى مجمل القضايا. إلى اليهودية التي تشظت جماعات وطوائف من الفريسيين إلى الصدوقيين إلى الأسنيين والغيورين وغيرها من الفرق.
لا يمكن لنا أن نضع سير الأفكار التلقائي في دائرة المواجهة الحتمية التي لا مناص منها. صحيحٌ أن الأفكار تتواجه بذاتها ولكن لا يجوز أن نكرس في خطابنا لغة التركيز على النقائض وكأنه صاعق تفجير في كل لحظة، هذا الصاعق الذي فجرته الجهات الحاكمة في التاريخ، دينية وسياسية، حيث اقترفت الحروب باسم الديانات، وأن صدام الحضارات برأيها وغزو الآخر واحتلاله يجلب هيمنة تنتج منها نشوة معينة. فالكل يدعي الحقيقة وامتلاكها وأنه يدافع عنها بأتباعه مهما كانت الأثمان باهظة.
فلا يجوز اليوم إفساح المجال لمن يريد تمرير سياساته التي تريد تدمير قيم المجتمعات الأخلاقية والروحية وجعلها مجرد ساحات تستنزف لصالح شراهة البعض وقيمه المادية التي تتلون بألف لون ولون.
لم يدع حراس الدين والكهنوت الدين نفسه، بل المشكلة في الفهم الديني المتوتر على الدوام عندما يبتغي في النهاية التسلط وصولاً إلى إلغاء الآخر، وهذا ما نراه حتى داخل الجماعة الدينية الواحدة. فالأفكار لو خلّيت لنفسها وتخلص المرء من توظيف النقيض، إن صح التعبير، فلن يعد هناك من تعقيدات بوجه خاص إذا فهمنا أن الاختلاف قانون مستحب بذاته من جهة إغنائه لواقع الناس لو أحسنوا الإفادة منه وما يترتب على ذلك من احترام المقدسات وتنقية الساحة كي تكون كريمة لكل الناس الذين جاءت الأديان من أجل حفظ كرامتهم. فليست الأديان إلا وسائط تعزز حضور الإنسان وتؤكد كرامته التي هي جوهر غايات الأديان.
نتفق مع المحاضر حبيبي في التحذير من تحويل الإيمان إلى مجرد سجن مظلم للعصبيات الهوجاء التي لعبت وتتلاعب بمصائر المجتمعات وتجعلها ساحة للتنازع الأعمى والمدمر لكل شيء. فلم يكن الإيمان يوماً قمعاً ولا عصبية، إنه مساحة للإبداع ينبغي أن يخلق مستويات من التوازن الذي يحكم نفس الإنسان ويضبط إيقاعاتها المتشنجة على ساعة الله وزمنه الخالد ولغته المتعالية قدراً والمتداخلة جوهرياً مع زمن الإنسان الدنيوي. نعم، لا بد من التحرر من التعبيرات والممارسات الدينية القمعية والرجعية، وإلا فالمكان الذي ستهرب إليه لن يحقق لك طمأنينة داخلية ما لم تصنعها أنت من داخلك وتعيشها بكلِّيتك.
الإيمان المشترك هو تلك اللحظات الأصيلة التي تنبع من صفاء المشاعر ومن العقلانية ذات المصداقية والأصالة التي توحدنا بالله وبالوجود، فلا يعد هناك إلا مرعى الإيمان الحر بلا سياج وحدود.

* أكاديمي وحوزوي