وحدها، تحمل في أحشائها، أسرارها. تأخذنا إلى حناياها، نتعرّى أمامها. نحمّلها ما ليس بمقدورنا على تحمّله. إنها كاتمة الأسرار. تجبل تاريخ شعب، بتاريخ فرد. تنأى بدموعنا، وأحلامنا، وطموحاتنا، وآلامنا. نحن، نودعها ورقة، ونذهب. إنها صندوقة الاقتراع. هل أدركت يوماً، أنني أقدم كشف حساب عن ذاتي، عن واقعي، لا أخجل أمامها. فهي صامتة تدرك أن صخب الموقف، يكمن في الصمت. وأنا، أمامها أحمل هويتي، أبيع هويتي. وكأنني بذلك مذنب، أمام سياف. أجدّد كل سنوات اعترافي بذنوب لم أقترفها.

يصادر ورقتي الأقوياء. يصادروني. يصادرون الوطن. إنهم حملة السلطة. لقد أصبحت ورقتي ورقتهم. أمّا أنا فأحتفظ بورقتي في ثنايا وجداني، إنه انفصام نفسي يسلبني فكري، وإنسانيتي. أمّا أنا، فأعي، بأنني لا أنتظر الانتخابات لأدرك أنني رقم. رقم في رصيد الآخرين، فكيف يعبّر هذا الرقم عن وجودي؟
غالباً، ما يأسرني هذا السؤال: هل إن الانتخاب في بلدي هو سبيل إلى الديموقراطية؟ وهل إن ورقتي هي مجرد تبني سلطة قائمة بذاتها، تتحرك بداخلي. غصباً عني تتحرك. ثمة قطعان ثائرة هنا وهناك تحمّلني نزوات الساسة الأقوياء. أمّا أنا فعلي أن أختار، بين قطيع وآخر. وبلا هوادة أختار. فالاختيار هنا هو جوهر الخضوع. أنا في قطيع السبايا. أباع وأشترى فيما يدمغ وجداني بعلامة فارقة. فالانتخاب إذاً هو رمز العبودية. فأنا لست أنا. فأين الاختيار؟
ليس المقترع، إلا كميّة، وليس قيمة. فأنا، كما كل آخر، انتحل صفة المقترع. يقول أحدهم: «ورقتي صك اعتقالي. يوم انتخبت، وقّعت على قرار إعدامي. وأقسمت بالولاء، لجلادي». إنها الديموقراطية التي تسلب القرار. تجعل من كل فرد، امتداداً لفرد واحد. ينتخب القوي ذاته. إنه استلاب قوة الفرد. قوة القرار، هنا تتقونن القوة. في تجسيدها لمتعهد القطيع. بالانتخاب، تؤخذ الجماهير – القطيع. فمن ذا الذي يجرؤ على مخالفة القانون؟
يأتي السلوك الانتخابي من تداعيات البنية الاجتماعية. وتتأثر بقواعد تطيح بالواقع، واقع البلد، وواقع الشعب. إن أكثر العوامل الضاغطة في السلوكيات السياسية هي الحروب، والثورات، والمجاعة. هذه العوامل تضرب المقاييس، تبطل أواخر استمراريتها. تفكك مطارح القوة في البنية. إنها شروط الانتقال الجزئي أو الكلي، من عالم إلى آخر. إنه عالم أثبت فشله، وصولاً إلى عالم افتراضي قد يكون الأفضل.
سنوات مزقت أواصر النظام السياسي. عرّت النخب السياسية من ركائز قوتها. إنه زمن الانفلات. زمن الفقر. زمن التصحر السياسي. وهو بذلك منصة ضرورية للقفز فوق البنية المتجذرة قروناً، أو على الأقل بداية تفتيت صوامعها.
جرت انتخابات 2022 النيابية، منغمسة، في ما يسمى الزمن الانتخابي، أي الفترة التي يتأثر الفرد، وتتأثر الجماعات بالأحداث الصاعقة: سقوط النظام الاقتصادي، التضخم المالي، عدم قدرة وسائل الردع السياسية، الداخلية والخارجية، في ظل النظام الريعي عن وقف التدهور الجنوني. إن أولى تداعيات الأزمات تجلّت في ارتفاع منسوب الصراخ.
إنه، من دون شك، أهم ركيزة من ركائز التعالي فوق الأزمات. والمدخل الأوّل نحو التغيير. فكيف تلقف اللبناني، الاستحقاق الانتخابي؟ وما هي أسس سلوكه الانتخابي؟
ثلاثة أنماط من المشاركة العبثية. ولعل من المفارقة أن هذه الأنماط تتكامل في تنوعها، وتوزعها. ويصبح النقيض ضرورة للعبة السياسية الشيطانية. وضرورة لتقاسم الثروة. ثروة الأصوات. إنه الخضوع المكبوت، المبرمج المنوع، بحيث يعيد استلاب القطيع إن شرد. وإن غرد البعض خارج السرب، فلكي يحافظ على أواصر القطيع، ولحمته.
فما هي هذه الأنماط؟

أولاً: خضوع القبول
إنه إعراض حتمي لبنية جانحة. فأنا، أخضع، وأدّعي أنني أقبل. يمتشق قراري سيدان: الماضي السحيق، والخوف. لا يمضي الماضي، فسواده ماثل دوماً في الحاضر.
يصادر الزعيم جماهيره. إنهم السواتر الحديدية التي تنعش زعامته. إنها سواتر بشرية تتحرك كدمى متحركة. يجيد الزعيم استغلالها عند الحاجة. فالزعيم هو السيد الذي يدعي أنه القادر القوي. يتسلح بمهابة التغيير. يصطلي بالزمن القاهر الذي أدمى الشعب، شعبه. فهو يحيي فيهم على الدوام أزمنة حروب دموية. إنه الشفيع الأوحد، وعدم الثقة به، مقامرة بهذا الشعب، وبأمنه، ووجوده.
لا ينتظر الزعيم يوم الانتخاب، ليلقي القبض على مناصريه. فالحياة السياسية اليومية، توقظ في الفرد حواسه التي قد تنأى أحياناً عن مجاهل الذاكرة. من هذا المبنى فالناخب مدعو، من دون مواربة، لأن يستل سيفه، ورقة الاقتراع، يصوبها نحو العدو الوهمي. إنه الناخب – المقاتل الاحتياطي في الفيلق السياسي الطائفي، المخلص لمبادئ محددة. يبايع الزعيم، من دون إدراك أو نقاش.
يأتي السلوك الانتخابي من تداعيات البنية الاجتماعية. وتتأثر بقواعد تطيح بالواقع، واقع البلد، وواقع الشعب


تجسّد الزعامة الزمنية في ذاتها، الأبعاد الدينية. فكل زعيم قادر على اعتقال مرجعية دينية عليا، ليتحول القتال عنفاً مقدساً مبني على ركائز دينية لا لبس فيها. يستند الزعيم إلى مباركة النظام السياسي الطائفي، الذي أبى إلا أن يحوّل الصراع السياسي إلى صراع بين الطوائف والمذاهب.
تروج ألسنة الإعلام للفكر السياسي البائد. فهو يهطل بغزارة على الجماهير، بكل أساطين الفكر الكابت، والدائم. والمؤثر. فأي قدرة للفرد أو للجماعة أن تدافع عن فكر آخر، أو أن تطابق مصالحها مع مصالح هذا الواقع؟ ينتصر الفكر السلفي الطائفي المغلق، مخترقاً أوزون الدفاع الإنساني، غير القادر على تلمس أي فكر مناهض.

ثانياً: الخضوع الانفصامي
إنها أكثر الحالات انتشاراً بين الناخبين. هي إطار تقسيمي ما بين الفرد، وبين ذاته. يتقاتل الفرد مع نفسه. ثنائية تعبّر عن ذاتها. والذات أسيرة خصومة دامية لا حدود لها. إنه مجال ضيق ما بين الهرب من مستنقع الواقع، وصعوبة البقاء في هذا المستنقع.
تشتعل عند الناخب، الفكرة في التمرد، عند الأزمات العابقة على الفرد، اقتصادياً، وسياسياً، غير أن شعلة التمرد ما تلبث أن تخفت في جحرها عند مجابهة خضم القوة المناهضة الثابتة. الفرد هنا في مواجهة تنظيم، منسق، دائم، فينكفئ الفرد أمام انجرار الأكثرية الساحقة والضاغطة في آن معاً. يحاول دوماً «الاستثنائيون» التسلل خارج البوتقة، أي خارج السلطة التي تستولي على القرار الجمعي، فتصبح قواعدها أشبه بشرطة ثقافية قادرة على الإمساك بقوة بمعصم الأفراد. غالباً ما يطرح «التنافر المعرفي»، كساحة للصراع بين فريقين غير متساويين بالفرص المتاحة، فيصبح الاندحار مساراً عاماً، لا يقبل الشك ولا اليقين.
ثمة مفارقة بين القول والفعل. إنها ثنائية التناقض في قبول ما ترفض، وفي رفض ما تقبل، يتصارع في وجدان الناخب عملاقان متناقضان: الشيء ونقيضه. ينفصل الناخب عن ذاته، يشكك في قراره. شيء منه هو امتداد لما يرفضه، وشيء يكمن في ذاته دوماً. من هذا المنطلق يصبح الرفض في ثناياه، رفضاً للطبقة السياسية، ليس إلا، إنه الرغبة في المنافسة، حيث يفرض الواقع المعاش استغلال شعور الجماهير الآسنة في الفقر والإذلال. قد يكون هذا السلوك باختيار خارج المنظومة، صادقاً، غير أن قدرته على إثبات دينامية وجوده بقوة يبقى أسير اللعبة الخارجية وتداعياتها الداخلية. لذا عبّرت عن نفسها بالهجرة، أكثر ممّا عبرت بصناديق الاقتراع.
لا تسمح صندوقة الاقتراع بالهرب. إنها تعي أن الورقة هي الحقيقة. فلا تنظر إلى غير الورقة. تنتصر السلطة حين تنظر إلى النتائج العامة، وترفض التسليم بنموذج آخر لا يمكن أن يرى النور طالما يرقد في حصار حديدي قابض، إنه المثلث القويم: السياسي، والديني، والعقائدي.
ثمة ورقة لا تعرف صندوقة الاقتراع، يعيشها الفرد خارج نطاق السياسة. فهو يضع إصبعه في ما يعتبره حداثة. كأن يقبل ما يرفضه أهل الشأن في طائفته أو مذهبه، أو مسار القوة الحزبية المهيمنة.
غير أن الحرب الباردة، تقف خارج حدود الاختيار السياسي. فالطقوس السياسية التاريخية تقبض على أعناق الخارجين عن بوتقة القيم السائدة، فيما يتربع الزعيم سعيداً، مستفيداً من تقاليد وهبته صولجان القوة. إنه اقتصاد السوق السائد عبر تجسيد لسيطرة قمعية، يدرك الزعيم أن إعلانه السياسي – التجاري، يغوي المستهلكين، وهو في محاولة اعتراف المؤمنين به، يقطع الطريق أمام أي سلطة أخرى، تحاول أن تبصر النور.
والزعيم ذاته، يعيش تلك الثنائية: عصرنة في سلوكيات محددة، ومحافظة في سلوكيات الزعامة والاستئثار.

ثالثاً: المكابرة في الخضوع
إنه سلوك اعتراضي معلن، غالباً ما يخفي في ثناياه بعضاً من محاولة اختراق، وبعضاً مما يرتقيه الساسة الأقوياء من ضرورة الاختراق. تعرف الحياة الانتخابية لبنان نموذج الثنائية المغلقة. إنها قدرة اتجاهين سياسيين، حزبيين، على التنافس، الاستقطاب. وفي مطلق الأحوال، سواء من منطق التنافس، كحزبي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحرّ، أو الاستقطاب، كما يمثل حزب الله وحركة أمل، فإن النتيجة تكاد تكون واحدة، ألا وهي حصر التنافس ضمن إطار واحد.
تتسبب هذه الوقائع في تسلل أفراد، لا يشكل وجودها، بالضرورة، بداية تغيير. إنها على نقيض ذلك، أبعد ما يمكن تصوره، من الابتعاد عن بالوعة النظام، وأسسه. فليس هذا التغيير نسقاً جديداً من الفعل السياسي. إنه حصيلة اشتباكات بين القوى الكبرى، سرعان ما تصبح هذه الأقلية ضرورة حتمية لإبقاء النظام الريعي في عنفوان شبابه. فحداثة التغيير عند الناخب تنجلي برد الفعل، أشبه بنزوة عابرة، ليبقى هذا الناخب ضحية القوة «الرمز»، كقوة سابقة له، ممتدة في آفاقه، خاضعة لوحول الفكر والثقافة التي تقوم على الخرافة السياسية كمفهوم غامض، يثقل بالتعابير الفولكلورية.
يبقى أن نقول: تتفرد الانتخابات النيابية، كمعطى دستوري، خارج الحياة السياسية. إنها توقظ في الجماهير الرغبة في الحداثة، غير أن كل انتخابات، أجريت، وستجرى، ستدعم مفهوم النظام الريعي، فيما تحلم الجماهير بمستقبل أفضل.
* أستاذ جامعي وباحث