حديثنا هنا عن مذكّرات صائب سلام التي صدرت للتوّ في ثلاثة أجزاء بعنوان: «صائب سلام: أحداث وذكريات». وقلتُ من قبل إن الأجزاء الثلاثة هي يوميّات دوّنها صائب ونشرتها العائلة كما هي من دون تصحيح أو تنقيح أو تحرير، مع أنها تنقل صورة معبّرة عن مكنونات صائب سلام وتفكيره في محطات تاريخيّة هامّة شارك هو في صنع بعضها. سلفَ القول إن صائب سلام أغفلَ الحديث عن أهمّ مرحلة في تاريخه السياسي، ألا وهي آخر عهد له في رئاسة الحكومة بين عامي 1970 و1973. هو يعود إلى تلك الفترة لكن في الجزء الثالث من اليوميّات، إذ يقول فجأةً إن الصحافي شكري نصرالله سأله في اتصال هاتفي بينهما عن تشكيل حكومة الشباب. يقول صائب إنه بحث في يوميّاته المدوّنة عن تلك الفترة ولم يجد شيئاً من ذلك: «لم أدوِّن حرفاً من مجريات الأحداث في ذكرياتي» لكنه يقول إنه وجد شريطاً «مفرّغاً» عن تشكيل حكومة الشباب (ص. 1355، ج3). وعندما يذكر الصحافي نصرالله لا يذكر أنه سجّل معه مذكّراته، وهذا ما يزعمه نصرالله في كتابه «مذكّرات قبل أوانها» (هل أن نصرالله سجّل كما زعم مقابلات مذكّرات مع صائب أم لا، ولو فعل، لماذا لا يزال تمّام سلام يحفظها من دون نشرها؟ الجواب عن السؤال يبقى مع شكري نصرالله لأنه هو الذي استفاض في الحديث عن مشروع تسجيله لمذكّرات صائب سلام في جنيف، وأن صائب كان يتكفّل بإقامته في المدينة لتأمين المقابلات اليوميّة بينهما).
مع زوجته تميمة مردم بك (بسام لحود - برستيج)

يوردُ صائب في الجزء الثالث مقطعاً عن حكومة الشباب. حكومة الشباب سبقت الحرب وبعض سياساتها ساهمت في إشعال الحرب، واستقالة صائب من الحكومة سبقت اشتباكات أيار 1973 بين الجيش والمقاومة الفلسطينيّة (وكان الجيش وميليشيات اليمين مسؤولين عن اشتعال تلك الحرب التمرينيّة للحرب الأهليّة). أهم ما غفل صائب عن ذكره عن تلك الحقبة: 1) أن الملك فيصل زار لبنان في عام 1971 والتقى بصائب وأهداه—كما أهدى كامل الأسعد— «خنجراً مرصّعاً بالأحجار الكريمة». وصائب حريص على ذكر كل اتصال بينه وبين أي ديبلوماسي سعودي فكيف لا يذكر خبر اجتماعه أكثر من مرّة بالملك فيصل في بيروت؟ («الحياة»، 30 أيلول 1971). 2) قد يكون من أخطر ما تتحمّل حكومة سلام-فرنجيّة مسؤوليّته هو خضوعها لقرار أميركي بمنع لبنان من قبول هبة عربيّة لاقتناء الجيش اللبناني أسلحة رادعة ضد الطائرات الإسرائيليّة التي كانت تقصف أسبوعيّاً في لبنان (راجع الوثائق الأميركية التي أفرجَ عنها كما أن جيمس ستوكر في كتابه «حيّز التدخّل» يذكر مواقف مماثلة من الستينيّات—لبنان عريق في رفض حكوماته الدفاع عن البلد بوجه إسرائيل). وحكومة لبنان رفضت أيضاً في تلك الحقبة هبة تسلّح سوفياتيّة. أي أن سلام وعهد فرنجيّة مسؤولان عما لحق الجنوب ولبنان من خراب ودمار. 3) وقف صائب سلام وبقوّة (ومعه تجّار الأدوية) بوجه أفضل تجربة لوزير في مكافحة الفساد، وهي تجربة وزير الصحّة إميل بيطار الذي حاول القضاء على احتكار الأدوية لتوفير الدواء للفقراء والمعوَزين (يقول سلام عن واحد من أفضل وزراء لبنان في تاريخه المعاصر: «بينما كانت غلطة كبيرة إدخال إميل بيطار الذي أزعجني جداً بديماغوجيّته» (ص. 1345، ج 3) ويزهو بأنه كان صاحب قرار إقصائه بعد أن اعترضت عليه احتكارات الدواء في لبنان. 4) وهو فعل الشيء نفسه بالنسبة إلى المرسوم 1943 الذي وضعه وزير المالية إلياس سابا من أجل زيادة الرسوم على الكماليات في لبنان وكان أن احتجّت كل جمعيات كبار التجار والصناعيّين ضد القرار (يعترف سلام أنه أخذ «موقفاً حازماً» ضد المرسوم، ص. 1346، ج 3) أي أن سلام يتنصّل من أفضل ما صدرَ عن وزراء في حكومة الشباب ويزهو أن نجاح الحكومة (التي خُتمَت بصراع أهلي) كان «رائعاً» فيما هو يعترف (عن تلك الفترة) بتفشّي «الرشوة دون حسيب أو رقيب، وانغمس فيها طوني فرنجيّة ومحازبوه في زغرتا» (ص. 1344). ويعترض على أن طوني فرنجية وصونيا فرنجيّة «وزبانية زغرتا» أفسدوا سير الحكم وعطّلوه (ص. 1344، ج 3). وكيف يربط سلام بين استتباب الأمن في حكومته وهو استقال اعتراضاً على عمليّة كوماندوس في قلب بيروت وبتواطؤ شبه مؤكد من قائد الجيش، إسكندر غانم؟ 5) يتضح من سرد صائب كم أن دور جورج أبو عضل كان كبيراً في تشكيل الحكومة وفي تقديم المشورة لسليمان فرنجية. هو الرجل نفسه الذي كان سليمان فرنجيّة يريد تعيينه وزيراً قبل أن يصله موفد مصري رفيع يحذّره من أن أبو عضل كان متعاملاً مع إسرائيل.
وينسب صائب إلى نهاد بويز (النائب الكتلوي الرصين) أن «كميل نوفل بدأ يحضر إلى بيروت بكثرة من أجل تعزيز الروابط بين فرنجية والأميركيين» (ص. 632، ج2). هذا مستبعد جداً لأن نوفل كان مترجماً معتمداً في وزارة الخارجية ولم يكن من نطاق صلاحيّاته القيام بمبادرات ديبلوماسية من هذا النوع (لي قريباً حديث آخر عن نوفل الذي تقاعد مبكراً، في عام 1977، من وزارة الخارجية لأسباب سيطول شرحها). ويبلغ غرور صائب أقصاه عندما يقول: «لم أحدّث أميركيّاً ذا مكانة بصراحة ومنطق إلا وتغيّرت آراؤه أو أضحت أكثر اعتدالاً» (ص. 633، ج2). لكن صائب اعترف أنه التقى بإليانور روزفلت ورونالد ريغان وجوزيف سيسكو وغيرهم كثيرين لكن سياساتهم بقيت متطرّفة صهيونيّاً بعد تعرّضهم لحجج ومنطق صائب. وعندما حضر حفل تنصيب البطريرك خريش تأسف لحال المسلمين: «كل هذه مظاهر القوة والجبروت، فأين المسلمون المساكين من كل هذا»؟ (ص. 636، ج2). أمّا الجمهور المسيحي في الحفل فقد استقبل صائب، «كالعادة»، حسب ما يقول، «بالتصفيق الشديد والهتافات» (ص. 636، ج2). ويذكر صائب عن ضلوع سليمان فرنجية في منح شركة «بروتيين» الاحتكارية (لصاحبها كميل شمعون) «رصيفاً كبيراً وأساسياً في المرفأ» (ص. 636، ج2). وهذا أمر مهم لأن الاحتجاجات ضد شركة شمعون كانت من شرارات الحرب الأهلية وهي تكشف عن غرق كميل شمعون في الفساد، وإن كان بعض الشباب اللبناني الساذج (وغير العليم) لا يزال يتغنّى بعهده على مواقع التواصل الاجتماعي. ويذكر صائب مكاسب شمعون من تجارة السلاح وركضه «الدائم وراء المنافع الماليّة» (ص. 637، ج2). ولماذا يتستّر صائب، مثل كل زعماء لبنان، على سلاطة لسان وبذاءة عبد الحليم خدّام الذي كان يتكلّم بأقذع العبارات بوجه زعماء لبنان. يكتفي صائب بالقول إن خدّام يتكلّم «بكلام لا يتفوّه به رجل دولة» (ص. 656، ج2). ويستحق خدّام صفة رجل الدولة بقدر ما يستحقّ صائب صفة التواضع.
صائب حريص على ذكر كل اتصال بينه وبين أيّ ديبلوماسي سعودي فكيف لا يذكر خبر اجتماعه أكثر من مرّة بالملك فيصل في بيروت؟


ولا ينفك صائب في اليوميات، كما في تصريحاته في سنوات الحرب، عن النطق باسم «مشاعر المسلمين». فهو يتصل بياسر عرفات ويعترض على زياراته لكمال جنبلاط ويقول له إنه يسيء «إلى مشاعر المسلمين» (ص. 641، ج2). ويتحدّث صائب ببعض الصراحة عن سياق الحرب وبعض أسباب اشتعالها. يذكر في هذا السياق تعصّب وجهل وغرور واستخفاف سليمان فرنجية بأمور البلد ويقول إن حملات بيار الجميل ضد المقاومة الفلسطينية كانت «بالاتفاق مع سليمان فرنجية، بل بتحريض خفي منه» (ص. 651، ج2). وهذه الحقيقة تتضارب مع إصرار محور الممانعة على ربط فرنجية بالخط العروبي فقط لأنه عاد في ما بعد وانفصل—لأسباب لا علاقة لها بالعروبة—عن الكتائب والقوات. ويتوقّف صائب عند مفارقة هامة عن اشتعال الحرب: يقول إن الزعماء المسيحيّين كانوا يعوّلون على الشيعة في معاركهم ضد المسلمين السنة فيما أن المفاجأة في الحرب كانت في انخراط الشيعة القوي في المعارك ضد الكتائب والجيش والأحرار (ص. 651، ج2. كم كان يحلو لزعماء الموارنة التذكير بأن نائب رئيس حزب الأحرار، كاظم الخليل، كان شيعيّاً. من أولى علامات الحرب في الجنوب اللبناني احتلال ثوار لبنانيّين يساريّين لمزارع كاظم الخليل).
يعتب صائب كثيراً على نظام القذافي الذي كان قد أقام علاقات وطيدة معه في أوائل السبعينيّات. يقول إن القذافي وعده بتمويل مشروع إنمائي «لكن القذافي وجماعته ظلّوا يماطلون ويكذبون ويصرفون الملايين العديدة في لبنان على حثالة البشر، وللتخريب وإثارة الاضطرابات، مستنكفين عن مدّ المقاصد بما سيُنفق في سبيل الخير» (ص. 656، ج2). الويل للذي يعد صائب بالتمويل ولا يفي. فإنه سيقتص منه في يوميّاته كما اقتصّ من آل سعود. والرهاب الشيوعي رافق صائب في سنواته. فتراه يحكم عند اندلاع الحرب أن «أكبر العوامل في الاضطرابات الأخيرة كلّها كان التخطيط الشيوعي المتستّر بكمال جنبلاط والمقاومة الفلسطينيّة» (ص. 663، ج2). الشيوعيّون لم يكونوا على استعداد أبداً للحرب (وهذه تؤخذ عليهم) كما أنهم آمنوا للنهاية بجدوى النضال البرلماني. إن إعداد الكتائب والأحرار واقتناءهم للسلاح وتدريب ميليشيات لم يكن لها مثيل في أوساط الشيوعيّين أو القوميّين العرب. على العكس. هؤلاء آمنوا بأن الحلّ آتٍ لا محالة (لكن صائب يغيّر تقييمه للحرب فيصل إلى خلاصة في سنواته الأخيرة أن بيار الجميّل مسؤول بصورة كبيرة عن الحرب الأهليّة). ويبدي استغرابه لتعاطي المفتي مع الشيوعيين ويقول: «الرأي العام المسلم (الذي يعبّر صائب عنه بطبيعة الحال) لم يفهم كيف يتفق مفتي المسلمين مع الشيوعيّين ويتعاطى معهم» (ص. 675، ج 2). لكنه يعترف أن الاتفاق بين الشيوعيين والمفتي كان «اتفاقاً جيداً» إثر حدوث نزاع في منطقة الطريق الجديدة بين الشيوعيّين وبعض شباب المنطقة.
وممتع أن صائب لا يوفّر حلفاءه (هل كان لديه من حلفاء، نسأل بعد نشر الكتاب؟) من النقد. يقول عن حليفه في «الوسط» كامل الأسعد، الذي ساهم في إيصاله إلى منصب الرئاسة الثانية بعد فوز فرنجيّة أنه كان «أمضى معظم شهور المحنة يتنقّل بين مدينتيْ كان ونيس» (ص. 668، ج2). وحليفه المُستجد رشيد كرامي يقول عنه: «غريب أمر كرامي» (ص. 669، ج2) إذ هو تغيّب عن اجتماعيْن للتحالف الثلاثي الذي ضمّه مع إده وسلام. وعندما قرّر سلام وإده في عام 1975 أنه حان وقت استقالة حكومة كرامي تملّص كرامي ثم ثار كرامي في مكالمة هاتفيّة مع صائب فما كان من صائب إلا أن وضع «سماعة الهاتف مكانها… غاضباً» (ص670، ج2). ويعترف أنه كان وراء فكرة التقارب بين شمعون وياسر عرفات (كان أبو حسن سلامة وحسيب الصباغ ووليد الخالدي من صلات الوصل) لكنه عابَ على عرفات «شططه في تدليل كميل شمعون» (ص. 670، ج2). ويورد صائب بعض الأفعال الإجرامية التي دشّنها حزب الكتائب في الحرب، ومنها احتجاز النساء المسلمات والفلسطينيّات، ما استدعى تعليقاً من ريمون إده: «كيف أن الأمر وصل بالكتائب إلى الاعتداء على النساء» (ص: 672، ج2).
وزاره السفير علي الشاعر (الذي أدار عمل المخابرات السعودية في لبنان قبل أن يُعيّن سفيراً) وعرضَ عليه مقالاً نُشر في «السفير» وفيه اتهام لصائب بأنه شنّ حملة ضد الشيوعيّة «فقط» بعد عودته من زيارة السعودية «تسديداً لفواتير قبضتُها هناك» (ص. 675). وقال الشاعر إنه أرسل نسخاً عن المقالة إلى الأمير فهد والأمير سلطان. وأبلغ صائب الشاعر مدى استيائه من الزيارة (لم يفصح لنا الأسباب لكن كالعادة قد تكون متعلّقة بشحّ في التمويل. وأطلع سلام الشاعر على نسخة من كتاب كان قد أرسله إلى الأمير فهد، واستاء الشاعر بدوره واعترض سلام أن المسؤولين في المملكة يأخذون معلوماتهم «من أمثال منير العجلاني وجبران شامية وصلاح الدين المنجد» (ص. 675، ج2). وذكر الشاعر، من دون شرح من صائب، أن تبديلاً لحقَ بمواقف المملكة نتيجة اتصالات بينهم وبين فرنجية وشمعون. وقال الشاعر إن فرنجية تدخّل مع الملك خالد لمنع تعيين الشاعر سفيراً.
وبحماس شديد، يذكر صائب الميليشيا التي أسّسها باسم «روّاد الإصلاح» (وتحمل اسم «المقاومة الشعبيّة» على طريقة الاسميْن في «حركة الناصريّين المستقلّين: المرابطون») والتي غفل هو وتمام سلام عن ذكرها، بعدما أرادا الفصل بين عملهما السياسي والعمل الميليشياوي الذي طبع مسار الكثير من الزعماء (عندما كان يخوض تمام سلام الانتخابات النيابيّة حليفاً لسليم الحصّ كان يكثر في التحدّث عن «الأوادم» خلافاً لـ«الزعران» وذلك في ذمّ المرشحين المنافسين ذوي السيَر الميليشيَوية). وكانت ميليشيا صائب مدعومة من حركة «فتح» فيما كانت ميليشيا كامل الأسعد مدعومة من «الصاعقة» والنظام السوري. وأراد صائب أن يصل عدد قوّة مقاومته الشعبيّة إلى 1020 عنصراً وأوكل إلى عميد متقاعد (منير حمدان) قيادتها العسكريّة. لكن التمويل كان مشكلة عند صائب في مسألة ميليشياه: ويمكن وصف يوميّات صائب بأنها تعبير عن سنوات من التبرّم من شح التمويل، إن للمقاصد أو للميليشيا أو لمشاريع «تنمويّة» يضطلع بها صائب. وفي أول عام 1975 أرسل صائب ابنه تمّام إلى السعوديّة «محاولاً الحصول على بعض الدعم منها» لأن صائب لم يعد قادراً—حسب وصفه—على «الصمود في بيروت أمام الضغط الشيوعي الذي تؤيّده المقاومة وما يتمتّع به من إمكانات ضخمة من مال وسلاح وإعلام» (ص. 663، ج2). ولا يبالغ صائب في الحديث عن مصادر تمويل هائلة كانت بحوزة الحركة الوطنيّة، ومن عدة دول خصوصاً أن هناك من يحاول اليوم نسب كل أسباب نجاح حزب الله العسكري إلى الدعم الذي يصله من... دولة واحدة واقعة تحت حصار خانق. وصائب يشكو أن موارده الماليّة الشخصيّة «نفدت أو كادت». لم يفدنا صائب بنتائج زيارة تمّام التمويليّة إلى الرياض.
لكن لم يبدُ أن زيارة تمّام أنعشت آمال صائب، إذ هو اتصل بعدد «من أثرياء المسلمين» واجتمع مع عدنان القصّار ووفيق النصولي ورفيق غندور ونزيه قاسم وطلب صائب منهم (وصائب يمون على أثرياء المسلمين كما يظهر في بداية الحديث) تعزيز ميليشيا «روّاد الإصلاح» «للوقوف بوجه العصابات التي راحت تعيث فساداً» (ص. 677، ج2). حدّد صائب لغندور وقاسم دفع مبلغ 200 ألف ليرة «لفتح الباب أمام حماسة بقيّة الأثرياء». استمهلاه يومين ثم أبلغا صائب عبر تمّام أنهما قرّرا أن كل واحد منهما سيتبرّع بـ25 ألف ليرة. عندها، قال صائب لعامل السنترال عنده إنه سيلغي موعداً له معهم و«قرّرتُ أن أترك لشباب الأحياء حريّة التصرّف». ماذا يعني صائب هنا؟ هل يهدّد الأثرياء بالشوارع بسبب تخلّفهم عن دفع المال اللازم له؟ أليس هذا نموذجاً عن الخوّات التي كانت المرابطون وغيرها من الميليشيات تفرضها؟ وصائب على قناعة أن الأثرياء كانوا مستعدّين للاستجابة لطلبه لكنّ «عدنان القصّار أقنعهم بغير ذلك» (ص. 677، ج2). كعادته، لا يقدّم صائب دليلاً على ما يقول من اتهام.
وبناءً على اجتماع لصائب مع «الوزير المفوّض في سفارة الولايات المتحدة جورج لامبركيس» قرّرَ صائب على عجالة لكن بقطع أن «ليس هناك مؤامرة أميركيّة على لبنان» (ص. 678، ج2). 1) كيف يقرّر صائب بأمر المؤامرة الأميركيّة بناءً على اجتماع واحد مع لامبركيس؟ هل أنه يمكن لديبلوماسي أميركي أن يعترف أمام زعيم محلّي: دعني أخبرك، صائب بك. هناك مؤامرة أميركيّة ضد لبنان وأنا الأداة المنفِّذة في لبنان. 2) لامبركيس كان القائم بالأعمال لكن إسباغ صفة «الوزير المفوّض» كان إمعاناً في تكريم صائب لنفسه لأنه لا يجتمع مع الصغار. 3) لامبركيس هذا تركَ لنا مذكرات شفهية في مكتبة الكونغرس ولقد قرأتُها وفيها نجد: هو تحدّث عن تجربته في لبنان وذكر بالأسماء عدداً من المسؤولين اللبنانيّين لكنه لم يذكر صائب بينهم. ولا يبدو أن الرجل كان ضليعاً بشؤون لبنان مع أنه كتب أطروحة الدكتوراه عن علاقة الولايات المتحدة مع لبنان. هو مثلاً يقول إن ريمون إده هو روم أرثوذكس ويقول إن إلياس سركيس كان وزيراً للاقتصاد قبل أن يصبح رئيساً للجمهوريّة. ويقول هذا الديبلوماسي عن اللبنانيّين إنهم «كانوا معروفين بأنهم يغتصبون ويقتلون النساء الأوروبيّات». ومن المفيد في شهادة لامبركيس أنه يتحدّث بصراحة عن خطف ومقتل السفير الأميركي فرنسيس ميلوي في عام 1976. خلافاً لكل النظريّات والكلام السياسي يقول لامبركيس إنه عرف سائق السفير، اللبناني زهير مغربي، ويقول إنه كان دائم الشكوى في طلب المال. ويتهمه لامبركيس بتدبير الخطف من دون أن يكون مسؤولاً عن القتل (وهو كان ضحيّة للخطف والقتل).
ملاحظة: بالنسبة إلى ما أورده صائب في الجزء الثاني من أن وليد الخالدي طلب منه أن يبلغ السفير الأميركي في بيروت أن منظمة التحرير ستسعى لمنع إحراج إدارة فورد في الأمم المتحدة، سألت المؤرّخ الفلسطيني عن ذلك وهو لا يذكر تلك الحادثة ويستبعدها، خصوصاً أنه كان لمنظمة التحرير أقنية غير صائب لإيصال رسائل إلى الإدارة الأميركيّة (وكان صائب خارج الحكم في عام 1974).
ملاحظة ثانية: حول ما أوردته عن وثيقة أميركيّة فيها نص حديث بين ديبلوماسيّين أميركيّين وزكريا محي الدين، سمعتُ من الصديق المؤرّخ محمود حدّاد وهو لا يذكر حديثنا عن ذلك (والذي ذكرتُه في الحلقة الماضية) وأنني أرسلتُ إليه يوماً رابطاً بالوثيقة التي اختفت في ما بعد عن موقع الأرشيف الأميركي المُفرج عنه. لنقل إن ذلك تضارب في الذاكرة، ليس أكثر.
(يتبع)
* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@