علامتان فارقتان تقدّمهما الورقة المسرّبة لاتفاق ترسيم الحدود البحرية الجنوبية.من ناحية، لطالما كان لبنان مستعمرة لدول المركز الرأسمالي في الغرب، وهذا ما يدركه كثيرون ولو أن أبعاده غير مفهومة عند معظم الناس. حالة لبنان التابعة، وغير الفريدة، مجسّدة في عدد لا يحصى من التصرفات الموجودة في مجتمعه ومؤسساته الرسمية والمدنية. إنما ما يمكن قوله في هذه العلاقة إنها، ولعقود، منذ الاستقلال، تستّرت وراء مسرحية مضبوطة وفعّالة هي التي جعلت إدراك أبعاد السيطرة الغربية على لبنان مجهولة حتى عند أعتى المنتقدين لسلطان الغرب في الجمهور اللبناني.
لكن ما تقوم به هذه الورقة غير مسبوق، إذ إنها ترسم علاقة بين لبنان والغرب، ممثلاً بدولة العدو والإدارة الأميركية والشركات الرأسمالية النفطية، دون مسرحة. وتضع العلاقة الاستعمارية بتفاصيلها واضحةً على ورق، بصفتها علاقة تبعية ودونية، فيها مهزوم وفيها أسياد. هذا الاتفاق مماثل للإدارة الفرنسية-البريطانية لقناة السويس قبل تأميمها. ولبنان يستحق معه لقب أكثر دولة متخلّفة في العالم. متخلّفة من حيث قبولها رسمياً بموقع ريادي لعودة البشرية جمعاء في التاريخ إلى الوراء.
العلامة الفارقة الثانية لهذا الاتفاق بالنسبة إلي، هي في إحدى دلالاته التاريخية.
لقد نسجت المقاومة اللبنانية، متمثلةً بحزب الله، علاقة توازن سيادي مع العدو، بحيث تكفّلت بعد إنجاز تحريرها التاريخي للجنوب بتأمين حمايته وحماية لبنان من اعتداءات القوة الاستعمارية المتسلطة في جنوب حدوده، وذلك بفعالية إنسانية قلّ مثيلها وضمن صيغة مؤسساتية ثابتة ومتفوقة. وقامت هذه المؤسسة بعملها متعايشةً مع نظام سياسي لبناني عميل ومتآمر ضد شعبه عندما لا يكون متآمراً ضدها، وذلك بحجة الحفاظ على السلم الأهلي بدايةً ثم غيرها من التبريرات حسب الظروف. ومع ذلك، وكمؤسسة، قدّمت المقاومة للمجتمع اللبناني مجموعة من المكتسبات التاريخية التي لم تُعط لغيره في الجوار العربي، بالرغم من وجود دول مركزية قوية. من هذه المكتسبات، علاقة توازن سيادي مع دولة العدو، مع أرجحية لصالح المقاومة بالرغم من تفوق سلاح العدو. علاقة، كما قلت، تتضمن حماية لبنان، إنما أيضاً تتضمن تهديداً وجودياً فعلياً للعدو الذي بات برأيي، في هذا الإطار، لا يحميه منها سوى انتمائه إلى منظومة الغرب العسكرية في المشرق العربي.
لماذا لا يعامَل العدو بالمثل في هذا الاتفاق، فترى مجالاته للمناورة ومفاوضة التفاصيل ومستجدات التنقيب مفتوحة


في ورقة الاتفاق، علاقة التوازن هذه غائبة كلياً. تكاد تتساءل أين فعالية المقاومة في فقرات هذه الورقة؟ ولا أعني هنا فقط مسألة الخط 23، إنما أيضاً كل شيء يضبط هذا النص. لماذا يجب أن تكون الإدارة الأميركية الوصي بصورة رسمية على كل أشكال استخراج الثروة البحرية اللبنانية، وإلى الأبد؟ لماذا لا يعامَل العدو بالمثل في هذا الاتفاق، فترى مجالاته للمناورة ومفاوضة التفاصيل ومستجدات التنقيب مفتوحة، بينما لبنان مأسور على أكثر من صعيد؟ قد يقال لي إنه لولا المقاومة، لما حصل لبنان على شيء، وأنا أوّل من يقول ذلك، لكن ليس بسبب المفاوضات، إنما بسبب الجهات الرسمية اللبنانية، كونها عميلة أو متعاملة، بدرجات متنوعة، كانت هذه الثروة البحرية ممنوعة على لبنان. لكن في ما يخص العدو، وبعد تخطي عقبة الجمود الرسمي اللبناني في الملف، أي بعد أخذ قرار الدخول في المفاوضات ومواجهة العدو من خلال طرح مطالب لبنان، أي طرح سيادته على الطاولة، لماذا يجب أن تكون مطالب لبنان مبنيّة على الخط 23 وعلى كل هذه القواعد الذليلة المعلنة وغير المسبوقة؟ هذا ولن أطرح الآن حقيقة أن لبنان دخل هذه المفاوضات غير محضّر، وبنى بشكل واضح قضيته على وعود واحتمالات ولم يقايض على شيء ملموس، فنحن لا نزال لا نعرف ماذا يتضمن البلوك تسعة.
هنا العلامة الفارقة التي تقدّمها الورقة: هذه ربما المرة الأولى التي تؤدّي فيها علاقة تعايش المقاومة مع النظام اللبناني إلى نتيجة تخريبية بل تدميرية بعمل المقاومة ومكتسباتها.
هذا الكلام، أرجو أن يُسمع ويؤخذ بالجدية المناسبة من قبل القراء بعيداً عن جو المزايدات في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. المسألة ليست في الحجة الدائمة أن حلفاء المقاومة الحاليين هم أفضل الموجود أو لا، المسألة في أن العمل ذاته، الذي جرى صون إطاره منذ عام 2005 إلى اليوم، بات مهدداً. وكي لا أحرج المقاومة في علاقتها مع حلفائها المفرّطين بقوتها، سوف أكتفي بانتقادها هي، ولومها على انعدام «المخيّلة السياسية» عندها، كي لا أقول أكثر، والتي اتسمت به في العقود الماضية ومنذ خروج الإدارة السورية من لبنان. المسألة ليست في اختيار الحلفاء من بين «الواقفين على أرجلهم»، بل في صنعهم ولو من نقطة الصفر، والتأثير إيجابياً بالموجودين. هذا ما لم يفعله حزب الله إطلاقاً، بالرغم من تحذيره من قبل الكثيرين من عواقبه التي باتت أمامنا الآن، بل للأسف، مع التيار العوني، كان له دور معاكس في أعوام 2005 ــ 2012 بيّنت الأيام أن نتائجه مصيرية.

* أستاذ جامعي