«الصّفة الأساسية للمال هي أنّه يجعلنا نفعل أموراً نحن لا نريد فعلها» من فيلم «وول ستريت»، 1987

هل يمكن أن ننتخيّل لبناناً مطبّعاً مع إسرائيل؟ سلامٌ واتّفاقٌ واعتراف؛ ثم، بعد سنوات، قد يصبح من المعتاد أن ترى السياح الإسرائيليين في بيروت، وشراكات بين جامعاتنا وجامعاتهم، وكتاباتٌ بالعبريّة على السّلع في الأسواق؟ يمكن أن يُقال الكثير هنا، ولكن الشيء الوحيد الذي لا أريدك أن تفعله هو أن تمارس ذاك الأسلوب العربي في المحاججة: الـ«لا» الجازمة التي تتبعها هزّة واثقة بالرأس. هل تفهمون ما أقصد؟ حين يقول لك، بثقة، «هذا لن يحصل أبداً»، من دون أن يقدّم أيّ حجّةٍ أو دليل على ذلك، ولكنّه يرفق النّفي بحركةٍ خاصّة بالرأس توحي بأنّ الموضوع محسومٌ، بيّن، ولا مجال فيه للنقاش. كأنّه يعرف شيئاً لا تعرفه أو يرى المستقبل أمامه بعينيه. وبمعنى أنّك يجب أن تشعر بالغباء إن حاولت استئناف الحديث معه أو الاستفسار عن مصدر ثقته العالية. هي حركةٌ يمارسها أساساً الذّكر العربي، وبخاصّة النوع المثقّف منه أو من يعتبر نفسه سلطةً ما؛ حاولت تقليدها بشكلٍ مقنع ولم أتمكّن، ولكنها تتضمّن رفع الفكّ بشكلٍ حادّ في لحظةٍ حاسمة مع النظر بالعينين إلى أعلى. المهمّ، يمكن أن أكتب كتاباً عن اللحظات التي واجهني فيها أحدهم بهذه الحجّة الفولاذيّة، التي لا تحتاج إلى تبرير («لن يسمحوا بالانهيار في لبنان»، «هؤلاء لا يمكن أن ينحازوا إلى أميركا»، «لقد سقط النّظام، من المستحيل أن يستمرّ»)؛ وقد كانت تتبعها في العادة واحدة من نكبات التاريخ العربي المعاصر. ففي هذا الموضوع تحديداً، رجاء، لا تقم بحسم الأمور على حسابك.
لن أكرّر ما قلته سابقاً بأنّه، لولا وجود مقاومة مسلّحة في لبنان هي أقوى وأكثر شرعيّة من أي قوة داخلية، لكان التطبيع قد حصل منذ زمن؛ مع اتفاقات «ابراهيم» على الأرجح إن لم يكن قبل ذلك. وكانت ستخرج، في البداية، مظاهرات ضدّ الاعتراف، وتكتب مقالات قاسية، وترشّ شعارات ضدّ إسرائيل والصهيونية على حيطان المدينة، ولكنّها لن تكون أكبر من التظاهرات التي خرجت في مصر والأردن. لا حاجة، أيضاً، للقول بأنّ هناك جوقة تطبيعٍ في لبنان منذ زمنٍ بعيد، وهي اتّسعت بعد التطبيع الخليجي المعلن. رأيناها تعمل، بوضوحٍ، حين برز ترسيم الحدود البحريّة، وهي سوف تخرج في كلّ مناسبةٍ قادمة (لاحظوا كيف أصبح الجميع، فجأةً، خبيراً في قانون الحدود البحرية، ولديه رأيٌ جازم في مسائل تقنية معقّدة كنّا نصلّي، أيّام الجامعة، كي لا نرى مثلها في الاختبار). ومثل أيّ مشروعٍ منظّمٍ ويهدف لتحقيق تأثيرٍ معيّن ويعمل على المدى البعيد، فإنّ مشروع التطبيع في لبنان يستخدم، في آنٍ، أكثر من خطاب ويعمل على أكثر من مستوى: هناك من ينشر فكرة أن الاتفاق مستحسن، وأنه يثبت أن التعاون مع إسرائيل مثمر وهو أفضل من معاداتها؛ وهناك من يستخدم الاتفاق ليثبت أن إسرائيل «عقلانية» وأن السلام معها هو الطريق المحتوم للازدهار في المستقبل، وهناك من يعارض الاتفاق فقط للمزايدة وكي يعلن - للمرّة المئة - أنّها اللحظة التي قرّر فيها نزع الشرعيّة عن المقاومة. الأساس هنا هو أن نفهم أنّ موضوع «إسرائيل» في ذاته هو أكبر من الكيان الصهيوني ودولته، وأكبر من بلدٍ صغيرٍ مثل لبنان. حين نفهم سؤال التطبيع في سياقه الأوسع، قد نتمكّن من فهم أسبابه ومنابعه ومساراته المحتملة، أمّا الاختباء خلف فكرة «الحاجز النفسي» (المانع الداخلي الذي يصعّب عليك أن تقابل إسرائيلياً في الخارج، أو أن تراه يمشي في مدينتك)، فهو ينفع حين تكون وسط جبهةٍ متراصّة حصينة على الاختراق ولكن، حين تكون المؤامرة سائرة من حولك، فإن «الحاجز النفسي» يصبح سلاح الواهم (لأنه إن كان دفاعك الوحيد فهو، ما أن يسقط - وهو يسقط بسهولة - حتى يذهب معه كلّ شيء).

ثلاثون الفضّة
منذ سنواتٍ طويلة، بعيد حرب 2006 خاصّةً، أفرادٌ كثيرون من النّخب الصاعدة المسيّسة في لبنان تقرّبوا بحماسة من مشروع المقاومة. هناك نقطة أساسية هنا، هي أنّ الجوّ في «معسكر المقاومة» أيّامها كان انتصاريّاً متفائلاً، ولم يكن الوقوف بجانب حركة مقاومة، بالنسبة إلى العديد من هؤلاء، يعني حقّاً أنك ستكون محاصراً ومحارباً ومعزولاً، مع حياةٍ من الشّظف والخطر؛ بل كان - على العكس تماماً - يبدو بمثابة رهانٍ على «الفريق الرّابح». هنا مكانٌ مثير يمكن أن تحصل فيه على مسار مهني وشهرة وشرعيّة، وقريباً قد تكون لك أيضاً السلطة، والقوة والمراكز والهيمنة. ولكن، بعد سنوات، اكتشف الجميع أنّ «الاقتصاد السياسي» قد تغيّر بشكلٍ جذريّ في بلادنا، وأنّ الطّريق الوحيد المتاح للتمويل والرواتب العالية والبرستيج، الوصول إلى مرتبة «الطبقة الوسطى المحترفة» بالمعنى المعولم للكلمة، أو حتّى الاعتياش من انتاج الفنّ أو الثقافة، هو عبر الالتحاق بالغرب ومؤسساته، أو بربيبه الخليجي (حتى السياسي المحلّي لم يعد مصدراً إلّا لمن لم يتح له ما هو أفضل). هناك جملة طريفة نُسبت لأحد هؤلاء بعد «انتقاله»، وهي أيضاً معبّرة، حين قال شيئاً يشبه: ما معنى أن «أخسر في السياسة» فيما راتبي قد أصبح عشرة آلاف دولار، بعد أن كنت فقيراً؟ ما كان ليحصل إذاً لو انتصرت؟
لديّ صديقٌ عنده عادة، تعود في اعتقادي إلى ثقافة السبعينيات، بحيث يفترض أنّ خلف كلّ رأي سياسي تطبيعي أو بالغ السّوء، وخلف كلّ مكانٍ مشبوه، «شيء إسرائيلي ما»، وضابطٍ اسمه شلومو يجلس في مكتبٍ في تل أبيب (لن أكشف عن اسمه، ولكنه كاتبٌ زميل في الصحيفة ويعيش ويدرّس في أميركا منذ عقود، وشعره طويل). ما أقوله دوماً له هو أنّ هذا التصوّر، ببساطة، ليس «عملياً» ولا «ضرورياً» في أكثر المجالات. لماذا تخاطر إسرائيل بتمويل سياسيين وأحزابٍ بشكلٍ مباشر؟ أو انشاء جمعيات تخدم أهدافها أو تتدخل في الوسط الإعلامي؟ هذه أمورٌ يمنعها القانون، وتستدعي اجراءات أمنية، ولها ثمنٌ غالٍ إن كشفت. من جهةٍ أخرى، إن أخذنا الموضوع من ناحية أهدافهم في الساحة اللبنانية الداخلية، والأولويات والمخاوف والأطراف التي يتمنون صعودها، وتلك التي يعادونها، فما الفارق فعلياً بين السياسة التي قد تشجّع عليها إسرائيل في لبنان وبين، مثلاً، سياسة الإمارات؟ أو سوروس؟ أو ألمانيا، أو أيّ من حكومات الاتحاد الأوروبي؟ «الهزيمة» الفعلية أمام التطبيع لن تكون في لحظةٍ مستقبليّة قد تحصل، بل في الفترة التي تمّ فيها (أيضاً بعد عام 2006) التطبيع مع فكرة أنّ أميركا يمكن أن تكون صديقاً فيما إسرائيل عدوّ، وأنه في وسعك أن تفصل بين إسرائيل، المحمية الدوليّة، وبين من يحميها حول العالم. طريفٌ أننا حين كنا أطفالاً، في الثمانينيات، كانت فكرة المساواة بين إسرائيل وأميركا بديهية عند الطبقات الشعبيّة، وأنّ لا فرق في السياسة بين هذه وتلك. في ألعاب الـ«فليبر» أيامها، وكانت بينها لعبة كرة قدم، كنّا نستحرم اختيار المنتخب الأميركي، أو نفعل ذلك مضطرّين وسط وابلٍ من السخرية واللوم. هذا ليس وعياً «فطرياً»، بل كان من بقايا تراث وثقافة سياسية وفهمٍ للعالم تكرّس في المنطقة، قبل أن يتمّ مسخ هذه العناصر كلّها في العقود الماضية. بعد سنواتٍ طويلة، فهمت مقدار التحوّل الذي حصل حين وجدت صحافياً يصرّح، بوقاحة، حين عيّره أحدهم بالتموّل من حكومة أميركا: «وهل أميركا عدوّ كي لا أعمل معها؟ هل تعتبرها الحكومة اللبنانية دولة عدوّة حتّى أتصرّف على هذا الأساس؟» (الوقاحة هي أنّ المثقّف الواعي يحتاج إلى اذنٍ من الجهات الرسمية لكي يشكّل موقفاً تجاه حكومة قُتل أطفال بلاده، لعقود، بسلاحها وبتحريضها، وهو ما قد يحصل مجدّداً في أيّ يوم). «التطبيع» هو اسمٌ آخر لدمجك الكامل في منظومة العولمة الأميركية، ماليّاً وأمنياً وسياسيّاً، والاتّفاق يأتي لاحقاً بعد تأمين الهيمنة. «حزب الله»، اليوم، هو التناقض الأساسي والبنيوي مع هذه العمليّة، ولهذا السبب هو عدوٌّ «وجودي» لهؤلاء النّاس، وبالمعنى الطبقي قبل السياسي (وهو أشدّ العداء).
إن قصدنا الثورة بمعناها الأصلي، بما هي تغيير كامل وجذري للنظام السياسي والأمني والاقتصادي الذي يحيط بنا، فالمقاومة، في منطقتنا وفي عصرنا الحالي، هي المعنى الحقيقي للـ«ثورة»


الاختبار نفسه سوف يأتي إلى جنوب لبنان. منذ سنوات وأنا أكرّر أنّه، في وقتٍ ما، في فرصةٍ مؤاتية، سوف يصعد صوتٌ من الجنوب تحديداً، منطقة الحدود مع فلسطين، ويتوجّه لأهله متسائلاً عن سبب العداء العسكري مع إسرائيل. هذا لن يحصل فيما الحروب لا تزال تدور في الاقليم والناس تقاتل والمخاوف كثيرة. ولكن، حين يتغيّر السياق، سوف يتمّ - لا ريب - استخدام كلّ ما تمّ الاستثمار فيه في السنوات السابقة، من الحصار والتهديد والابتزاز إلى الحرب الطائفية ولغة الابادة. «الصّوت» سيشرح، ببساطة، أنّك لا تزال خلف المتراس وفي حالة حربٍ معلّقة مع إسرائيل. بمعنى أنّ منزلك ومتجرك وبناك التحتيّة، وأيّ شيءٍ تبنيه في الجنوب، معرّضٌ للتدمير في أيّ حربٍ قد تقوم في أيّ وقت. حدودك مع فلسطين مقفلة، هي «نهاية الطريق» ومكان عسكريّ، بدلاً من أن تكون معبراً للسياحة والتجارة، يتدفّق فيها المال والاستثمار، وترتفع قيمة الأرض وتزداد الفرص. الجنوب هو أكثر من سيستفيد مادياً من السلام مع إسرائيل. من جهةٍ أخرى، أنت أرضك، كلبناني، قد تحرّرت؛ فلمَ تختار، وحدك، السيناريو الأوّل على الثاني، وتجعل نفسك هدفاً لأكبر قوىً في الأرض، محاصراً مطارداً؟ لأجل فلسطين؟ لأجل العروبة؟ لأجل إيران؟ هل تريد إزالة إسرائيل منفرداً؟ إن كانت مشكلتك عقائدية أو دينيّة أو «ايديولوجية» فإنّ في وسعك تصريفها بأشكالٍ شتّى غير المقاومة المسلّحة (كرفع العرائض ضدّ الصهيونية أو الخطابة في المساجد). الاغراء والاغواء يعملان أيضاً على المستوى الجماعي، وإن كانت الوعود «الجماعية» بالازدهار والثراء السهل كثيراً ما يتّضح كذبها، بعد فوات الأوان، إلّا أنّها ستجد جمهوراً في كلّ مرّة (السبب الذي جعل للنصّابين رزقاً على مرّ التاريخ، رغم تكرار الأسلوب ذاته والوعود البراقة المستحيلة نفسها، هو أنّ النّاس في قرارتها تريد أن تصدّق هذه الأمور).

حدود اللّغة
الاجابة على ما سبق تبدأ من موضوع فلسطين. منذ سنوات، أشعر أنّ الكتابة عن فلسطين قد أصبحت صعبة و، أحياناً، مستحيلة. هذا بمعنى اللغة التي نستخدمها، وليس مجرّد المضمون. أصبحت هذه الكتابة تبدو هزيلة في التعبير وفارغة من المعنى، وهذا سببه اختلاط المفردات وتلويثها، حتى أصبح لكلماتٍ مثل «تحرير» أو «صراع» أو «فلسطين» مضامين مختلفة جذرياً بحسب من يستخدمها، أو يحاول تطويعها لصالح مفهومه التحريفي (العدو الحقيقي الذي ينهي وجودك هو ليس الذي ذاك يحارب سرديتك ولغتك ويعارضها بوضوح، بل من يحاربك عبر استخدام سرديتك ومفرداتك). هذه الازدواجية تبدأ، عندي، من مفهوم «القضية الفلسطينية» نفسه. سأشرح باختصار: أعتبر أن لـ«القضية الفلسطينية»، تاريخياً، مفهومين توازيا وتعايشا ولكنهما، في العمق، مختلفان إلى حدّ التناقض. الأوّل يمكن أن نسمّيه «المفهوم القُطري» للقضيّة، أي تحرير فلسطين كقضية وطنية للشعب الفلسطيني، تقوده فصائله السياسية في وجه الاستعمار الصهيوني. في المفهوم الثاني تكون فلسطين بمثابة جزءٍ عضوي من مشروعٍ أوسع يواجه الصهيونية على مستوى المنطقة. النّاصريّة هنا مثال؛ أي أنّ مشروعاً وحدوياً ينوي اعادة ترتيب المنطقة سياسياً وتحقيق استقلالها هو، بنيوياً، سوف يكون في تناقضٍ اجباري مع الصهيونيّة. حتّى لو أراد النظام الناصري - فرضاً - التخلّي عن فلسطين، أو كان لا يهمه مصير أهلها ولا يتعاطف معهم، فإنّ إسرائيل (وأميركا) لن تسمح بصعود قوّةٍ مستقلّة في المنطقة أكبر منها وتملك قرارها، فهي سوف تصطدم بك. أي أنّ المواجهة مع الصهيونية هي حتميّة في كلّ الأحوال هنا، باعتبارها جزءاً من صراع على كامل المنطقة.
أمّا وفق المفهوم الأوّل، القُطري، فإنّ أقصى ما ستصل إليه هو أن تتفاوض مع الصهيونية على حقوقٍ للشعب الفلسطيني (حقوق مدنية، ثقافية، سياسية، قومية، أو حتى «دولة» ما على جزءٍ من فلسطين)، أي، بكلمات أخرى، التّفاوض على شروط الاحتلال. قضيّة فلسطينية ليس في ظهرها الاقليم بأسره أعلى سقفها أن تجد تسوية مع الصهيونية، وأنت لا تتفاوض مع أحد ليزيل نفسه. والنخب الفصائلية التي اختارت هذا الطريق كانت تفهم حدوده منذ البداية، ومن هنا مفردات خطاب السبعينيات الذي كان مهووساً بأن «يعترف بنا العالم»، أو يعتبر الخروج من بيروت «انتصاراً ديبلوماسياً» - ما معنى «الاعتراف» بك و«الديبلوماسية» هنا؟ أن تحصل على مقعدٍ حول الطّاولة، لا أكثر ولا أقل. ومن هذا المنظور أيضاً، يصبح الصراع الداخلي على تمثيل هذا الشعب الفلسطيني أمام «العالم» وإسرائيل أهمّ من الصّراع المباشر مع إسرائيل ذاتها، فأنت تعرف أنّك لن تزيلها عسكرياً مهما حصل (ومعها جيشها وأميركا والعالم، وأنت معك شعبُ محتلّ أو مشرّد). من هنا، نجد البعض اليوم يوجّه النقد للسلطة الفلسطينية ولـ«فتح»، ولكن ليس من باب أنهم تخلّوا عن الكفاح المسلّح بل بما معناه: طالما أنّنا قد تخلّينا عن الكفاح المسلّح، فنحن أقدر منكم على تمثيل فلسطين في نمط «النضال السلمي» هذا؛ لدينا تمويل خليجي وغربي، لدينا منظمات مجتمع مدني، نتحدّث لغتهم ونحن الطبقة الصاعدة. لقد أصبحت نسخةً قديمة يا أبا مازن. هذان المفهومان عن «القضيّة» لا يفترقان في الأهداف والسقف فحسب، بل هما متناقضان متعاديان، يخرّب أحدهما على الآخر، ومن العبث أن تحاول المزاوجة بينهما أو أن تعتبر أن تخادماً بينهما ممكنٌ، حتى في المصطلحات.

القطريّة، في بلادنا، بطبيعتها تجعلك حقيراً. الموضوع ذاته ينطبق على الاقتصاد؛ إن كنت مسجوناً ضمن حدودٍ صغيرة، ولست مندمجاً في دورة انتاج واستثمار وتواصل مع الاقليم من حولك


ما علاقة هذا كلّه بسؤال لبنان؟ هناك معادلة للكاتب حسن الخلف عن مفهوم المقاومة والثورة. الكثير من «الثوريين» في بلادنا هم ليسوا ثوريّين فعلاً، يقول الخلف. هم في الحقيقة «اصلاحيّون»، يأخذون أوطاننا المأزومة، ويقبلون سلفاً بحدودها، ومؤسساتها، وأزماتها البنيوية، وعلاقتها التبعية بالخارج، ثمّ يعرضون ما يعتبرونه حلولاً لحكم هذه البلاد بشكلٍ أكثر كفاءة (وهي في الغالب تتضمّن أن يصلوا هم إلى الحكم). بتعابير أخرى: كلنا، مثل الفلسطينيين، ضحايا العملية نفسها، أي حالتنا التاريخية، حالة «ما بعد الاستعمار». الفلسطيني ضربه استعمارٌ استيطاني تجلّى عبر احتلال أرضه بشكلٍ مباشر وتهجيره، وأنت سجنك في أوطانٍ لم تخترها، تابعة بلا سيادة، خياراتها مقفلة ومحدودة وتتعرض، واحدةً بعد الأخرى، إلى انهيارٍ أو غزوٍ أو حربٍ - تتكرّر بشكلٍ دوريٍّ، تكسر مجتمعها وتذلّ أهلها. فكرة حسن الخلف هي أنه، إن قصدنا الثورة بمعناها الأصلي، بما هي تغيير كامل وجذري للنظام السياسي والأمني والاقتصادي الذي يحيط بنا، فالمقاومة، في منطقتنا وفي عصرنا الحالي، هي المعنى الحقيقي للـ«ثورة» (بغض النظر إن كنت ترغب بها، أو تعتبرها «جيدة» أو لا). والنسخة الوحيدة القائمة منها اليوم، في «الواقع الحقيقي»، هي في قلبها إسلامية خمينيّة نشأت في إيران، ولا مجال لتغطية ذلك أو تعميته أو الالتفاف عليه.
عودةٌ إلى سؤال التطبيع في لبنان، فإنّ الموضوع ينطلق من منظورك للأمور. من منظورٍ «لبنانوي» قطري فإن خياراتك، كما في حالة فلسطين، تصبح محدودة وواضحة: هل يمكن للبنان، وحيداً، أن يهزم إسرائيل وأميركا؟ مستحيل. والتنطّح للمواجهة في هذه الحالة، وأنت بلدٌ صغير، لا يعود عقلانياً أو مجدياً من الأساس. لا يمكن لبلدٍ صغير أن يكون «معادياً للمنظومة» (anti-systemic)، وهذا يعني أن ترضخ، بداهةً، لـ«ما هو موجود»: الهيمنة الأميركية والسطوة الخليجية والتطبيع مع الصهيونية. أي خيار آخر في هذه الحالة يصبح شعاراتياً أو انتحارياً. القطريّة، في بلادنا، بطبيعتها تجعلك حقيراً. الموضوع ذاته ينطبق على الاقتصاد؛ إن كنت مسجوناً ضمن حدودٍ صغيرة، ولست مندمجاً في دورة انتاج واستثمار وتواصل مع الاقليم من حولك، فما هو الدور الاقتصادي الذي يمكن أن تتخيله، عدا أن تكون «امبوريوم» رأسمالي على السّاحل، يحاول أن يجتذب - بأي طريقة - ما أمكن من أموال من السوق الدّولي؟ نسمع الكلام الجميل عن «الاقتصاد المنتج» ولكن لا أحد يشرح لنا مقوّماته، وأوّلها أن تكون لديك شبكة انتاجٍ واستهلاكٍ وسوقٍ واسع؛ من قال لكم أنّ هذا «الاقتصاد المنتج» يمكن أن يقوم في بلدٍ بحجم مزرعةٍ في أوكرانيا؟ وهل يمكنك، أصلاً، تحقيق هذه التنمية المستقلّة من دون سيادة وقوّة؟ ضمن الاطار «القطري» القائم، الخيارات ستكون قليلة وواضحة، والعديد من الفئات في البلد، وإن اعتبرت نفسها ثوريّة، هي حقيقةً تتمسّك بهذا النظام وتحاول، حين يتأزّم، أن تجري عليه «صيانة» تضمن استمراره. حتى من بين مؤيّدي المقاومة، يقول حسن الخلف، البعض قد يصفّق لليمنيّين حين يقاومون العدوان ويحققون انتصاراتٍ مبهرة ولكن، إن رسمت له مستقبلاً تكون فيه مع اليمني في منظومةٍ أمنية واحدة، تتقاسم معه المخاطر والموارد، فهو سيأخذ خطوةً إلى الخلف ويتردّد؛ هو في النهاية لا يريد أكثر من مكانٍ مريحٍ لنفسه ضمن الساحة المحليّة، الصغيرة والأليفة - على عيوبها وأزماتها.
أنت لا يمكن أن تضمن الظّفر في شيءٍ مسبقاً؛ بل إنّ الأكثر صلابةً هو من يكون متقبّلاً، سلفاً، لاحتمال الهزيمة. ورهانه ليس على لعب دور البطولة بالمفهوم الهوليوودي، والرقص أمام الكاميرات وفي احتفالات النّصر، بل رهانه أنّ الهزيمة في الحقّ، حتى إن وقعت، هي خيارٌ يستحقّ، وأفضل من البديل الذي بعشرة آلاف دولار. إن حصل ذلك وحكم القدر، يكون التطبيع حاصلاً وهو أبسط الخسائر. الصهيوني وتطبيعه خلفهما نظامٌ عالميّ بأكمله، ولكن من وقف في وجههما طوال هذه السنوات كانوا أناساً من بلادنا، يرون ما لا يراه الكثيرون، ويصدّقون أنهم سيغيّروا العالم كلّه.

* كاتب من أسرة «الأخبار»