لم يُكتب علينا أن نعيش كل بضع سنوات حرباً إسرائيليّة جديدة على بلد عربي ما؟ تدور المدافع والطائرات الإسرائيليّة من دولة إلى أخرى وهي تصطاد المدنيّين والمدنيّات. يخطئ من يظنّ أن الأمور تنفجر هكذا بسبب هذا الصاروخ الحمساوي أو الجهادي أو لأن حزب الله اختطف جنديّاً أو إثنيْن.
إن العقيدة الصهيونيّة التي على أساسها تأسست دولة الكيان الغاصب تحتاج إلى نمط من العدوان المُتكرّر. يخاف العدوّ من المستقبل ويعلم ان معينه الديمغرافي في تناقص مستمرّ وأن مخزون مدّ دولة المهاجرين بجنود جدد يتناقص باستمرار. تصبح إسرائيل دولة «رماديّة» ديمغرافيّاً (أي دولة ذات غالبيّة من المُسنّين، مثل ألمانيا) على نسق الدول الأوروبيّة التي ينضب معينها الشبابي فتستورده من دول فقيرة أو أفقر. ماذا ستفعل إسرائيل عندما يشيخ سكّانها؟ هل ستوظّف عمّالاً مستوردين من دول آسيويّة في جيشها الإرهابي؟ هي فعلت شبه ذلك عندما فتحت أبوابها في التسعينيات لدفعة من المهاجرين الروس الذين واللواتي لم تكن تربطهم علائق مع العقيدة المؤسّسة ولا مع الدين الطاغي. لاحظ الجيل الأوّل من قادة العدوّ ان الجنود من المهاجرين الروس وغير الروس لا يقاتلون بالشدّة نفسها التي وسمت قتال الجيل الأوّل الذي كان يعرف ان في نتيجة المعركة يتقرّر بقاء أو زوال الدولة.
لكن الخوف لا يزال يعتري صفوف العدو. هشاشة الدولة لا يخفيها الإفراط في الوحشيّة الصهيونيّة. وجدليّة صراعنا مع العدوّ أنه يمدّ كل جيل جديد بأسباب جديدة لاستمرار العداء معه ولإبقاء هدف هزيمة الدولة العدوّة. يحاول النظام العربي الرسمي باستمرار ان ينشر فكر التطبيع مع العدوّ لكنه لم ينجح إلى الآن، رغم جهود السادات ومبارك ومرسي والسيسي. يحتاج العدوّ إلى الحروب والمجازر، لكن هذه الحروب والمجازر هي التي تحتّم استمرار مأزق العدوّ وحالة العداء ضدّه: هي كمثال السيّد والعبد في «فيناميلوجيا الروح» لهيغل. يمدّنا العدوّ بأسباب ضرورة القضاء عليه.
العدوّ يحتاج إلى ترويع وإرهاب الخصم - بالمعنى الحرفي - من أجل الحفاظ على التفوّق الموقت (وهو موقّت وإن استمرّ لعقود طويلة). هذا ما عبّر عنه مناحيم بيغن بالنسبة إلى فعاليّة مجزرة دير ياسين في كتابه «التمرّد»: المجازر ليست ضروريّة عسكريّاً ميدانيّاً لكنها عند العدوّ ضروريّة عسكريّاً (له) على المدى الطويل. المجازر عنده ليست عمليّات انتقام أو تصرّفات وحشيّة طائشة ترتكبها جيوش الغزاة. هي حاجة نفسيّة للعدوّ من أجل ان يحدث نوعاً من الاضطراب والذعر والترويع عند الخصم. لكن لم يعد هذا العامل مثل ما كان من قبل. صحيح ان عدد الغارات والقتلى يزداد عبر السنوات لكن الفعاليّة تتقلّص باضطراد. لم يعد جندي الخصم مثل جنود الهزل العربي عام ١٩٤٨ أو مثل الجيش المصري في سيناء عام ١٩٦٧. لم يعد جندي المقاومة يخاف من سطوة العدوّ في أرض المعركة. من هنا أهميّة حرب تمّوز التاريخيّة في سياق الصراع الدائر. هي من دون مبالغة أهم تطوّر في الحروب العربيّة ــ الإسرائيليّة منذ ١٩٤٨، والصهاينة في الغرب يعترفون بذلك مع ان إعلام النفط والغاز والحريريّة يصرّ على وصف أداء حزب الله بـ«الهزيمة» خدمة لدعاية العدوّ بين العرب ولتقليص المنفعة المقاومة. لو لم تكن الأنظمة الخليجيّة المتورّطة في ضخ البغض الطائفي تسيطر بصورة شبه تامّة على وسائل الإعلام العربي لكان العالم العربي يحتفل بصمود تمّوز كما يحتفل سنويّاً بعيد المولد النبوي. خاف جنود العدوّ من صبية متطوّعين. لم تعد ساحة المعركة كما كانت عليه من قبل. فرّ جنود العدوّ مذعورين من تقدّم وبسالة جنود المقاومة.

جدليّة صراعنا مع
العدوّ أنه يمدّ كل جيل جديد بأسباب جديدة لاستمرار
العداء معه


يحاول النظام العربي
باستمرار أن ينشر فكر
التطبيع مع العدوّ لكنه لم ينجح إلى الآن

تعلّمت فصائل المقاومة في غزة الدرس جيّداً في الحروب والمواجهات التي تلت حرب تمّوز: وليس هذا صدفة طبعاً. لا تزهو مقاومة حزب الله بأفعالها في إعداد وتجهيز وتدريب وتسليح فصائل المقاومة في غزة لكن ليس في الأمر سرّ. لم يكن الجندي المجهول «سامي شهاب» يسوح في غزة أو يهرّب السجائر والسيّارات في الأنفاق، ولم يكن مثل قادة السلطة في رام الله يهرّب هواتف خليويّة في صندوق سيّارته. الرجل الذي كان موفداً من أجل نقل تجربة المقاومة من لبنان إلى غزة اعتقل بأمر من سلطات الرديف الإسرائيلي في القاهرة التي أطلقت حملة شنيعة ضدّه. نظام «كامب ديفيد» نظام محكم لا تستقيم اتفاقيّة الذلّ من دونه. السيسي دشّن لعهد إطلاق الشلّة الليكوديّة الصفيقة في الإعلام والثقافة المصريّة (وبتهليل من يساريّين وناصريّين مصريّين). «سامي شهاب» هو الاسم الحركي لعمليّات المقاومة في غزة.
إطلاق الصواريخ مرحلة جديدة من العمل المقاوم لكنه يصطدم بجدار الأكاذيب الحديدي للعدوّ. يصرّ العدوّ في كل مرّة على ضخ كم هائل من الخداع والرياء في الإعلام العالمي، ويتسابق إعلام آل ثاني وآل سعود وآل نهيان على اجترار مضامين دعاية العدوّ. في ١٩٩١، زعم العدوّ ان صواريخ «باتريوت» اسقطت كل صواريخ صدّام التي هطلت على فلسطين المُحتلة. كل ذلك كان كذباً، تبيّن فيما بعد. الـ«باتريوت» أعيد إلى حقل التطوير من البداية بعد فشل ذريع لم تعترف به أميركا إلا بعد مضي بضع سنوات. المسرحيّة تتكرّر مرّة أخرى. يزعم العدوّ كما في الحروب الأخيرة على غزة أن نسبة «نجاح» «القبّة الورقيّة» بلغ أكثر من تسعين في المئة. تساءل عربيّ على تويتر: إذا كانت نسبة النجاح عالية إلى هذه الدرجة فلماذا تزعق إسرائيل عن حاجتها لشن حرب لحماية نفسها من صواريخ غزة؟ لكن علماء في جامعة «إم آي تي» الأميركيّة أخضعوا تجربة «القبّة الورقيّة» في الحرب الأخيرة إلى دراسة وافية وتوصّلوا إلى خلاصة مفادها ان المزاعم الإسرائيليّة كاذبة بنسبة تقارب الخمس وثمانين في المئة، أي أن نسبة نجاح النظام المضاد للصواريخ لا تتعدّى الخمسة في المئة على أكثر تقدير. عالم من الجامعة أكّد الخلاصة نفسها هذا الأسبوع عن تجربة النظام المذكور، وشكّك في أن تكون أكثر من خمسة في المئة. لكن إعلام الغرب وإعلام النفط والغاز والكاز يردّد دعاية العدوّ كمساهمة منه في المجهود الحربي الإسرائيلي.
العالم العربي يراقب ما يحدث. فرضيات دول الخليج وحليفتها إسرائيل سقطت في الامتحان. ليس صحيحاً البتّة ان الحروب العربيّة الدائرة - التي كانت معروفة سابقاً باسم «الربيع العربي» الدامي - شغلت الرأي العام العربي عن قضيّة فلسطين. مارك لنش في جامعة جورج واشنطن أجرى بحثاً سريعاً على تويتر (نُشر في موقع المدوّنات لـ«واشنطن بوست») توصّل فيه إلى أن الرأي العام العربي يسارع إلى الانشغال بقضيّة فلسطين حالما تنقضّ إسرائيل على خصم عربي، رغم سقوط محطة «الجزيرة» التي كانت تلعب دور الجامع والمُؤطّر للرأي اعلام العربي عن فلسطين، وإن بحدود الموقف القطري التطبيعي والمنسجم مع مشروع «توماس فريدمان العربي» للاستسلام أمام العدوّ. أي أن محاولة نسيان فلسطين لم تنجح (كل الإعلام الدعائي من قبل أبواق العصابات السوريّة المُسلّحة وبعض إعلاميّي «الجزيرة» حول ان «إسرائيل لم تفعل ما يفعل بشّار» كانت تهدف إلى التخفيف من غضبة العرب ضد العدوّ في الحرب المُقبلة - أي تحضيره مُسبقاً لعدوان مقبل من العدوّ).
نتسمّر أمام الشاشات (التلفزيونيّة أو الحاسوبيّة أو اللوحيّة) مرّة كل سنتيْن أو أكثر. العدوان الإسرائيلي طقس من الحياة العربيّة الذي أُريد منه ان يتحوّل إلى روتين مثل الاستحمام والحلاقة. يتصوّر العدوّ ان تكرار العدوان يخدّر الجمهور ويسمح بتطويع العدوّ. لكن العدوّ يتفاجأ كل مرّة امام خطأ حساباته: ليس صحيحاً ان وحشيّة الحرب السوريّة ستجعل من وحشيّة العدوّ الإسرائيلي أمراً غير لافت. وليس صحيحاً ان تكرار العدوان سيضعف العزائم ويخدّر الأذهان. لم يحدث ذلك. لكن وحشيّة العدوّ تزداد وقصف الجوامع لم يعد واحداً من قائمة إنكار ونفي العدوّ. يتقدّم الناطق العسكري الإرهابي ويتبنّى قصف الجوامع والمنازل والمستشفيات. الذين يصيحون باسم الدين الحنيف يصمتون، والروابط الإسلاميّة التي أنشأها النظام السعودي لإعانة أميركا في الحرب الباردة ضد الشيوعيّة تختفي فجأة أو تنشغل بمسائل أهم مثل إرضاع الراشدين.
لم يظهر وجه الفتنة الكالح المتمثّل بسعود الفيصل أمام الكاميرات هذه المرّة من أجل ان يتصنّع تعاطفاً مع شعب فلسطين، كما تصنّع تعاطفاً مع شعب سوريا وهو الذي زكّى الفتنة هناك وبحماسة لم نعهدها منه من قبل (أو لم نعهدها منه من قبل في العلن، لأن تآمر آل سعود كان يدور في الخفاء في الماضي). صحيح ما قاله الرفيق عامر محسن على «فيسبوك» هذا الأسبوع. كلمة تخاذل لم تعد تصلح لوصف الموقف العربي الرسمي الجماعي. إن النظام العربي الرسمي برمّته متحالف جهاراً وعضويّاً مع الحكم الاحتلالي الإسرائيلي. ما شاع عن تمويل أولاد زايد للحرب الإسرائيليّة على غزة كجزء من الحرب الكونيّة التي يشنّها الحلف السعودي ــ الإماراتي على الإخوان المسلمين هو صحيح على الأرجح. دولة الإمارات باتت مقرّاً ومرتعاً للاستخبارت الإسرائيليّة والأميركيّة. ماذا كان سيكون رد فعل مجلس التآمر الخليج لو أن فرقة اغتيال تابعة لحزب الله قامت بعمليّة قتل في دبي وأمام كاميرات الفنادق والشوارع؟ مرّ اغتيال المبحوح مرور الكرام ويبدو أنه كان مُنسقاً مع أولاد زايد.
تقف المقاومة العربيّة المُتبقيّة في موقف صعب. يحلم العدوّ أنه يستطيع ان ينهي وبالضربة القاضية كل حركة مقاومة تصعد وبذرائع متنوّعة. كان الخطر منبعه قومي عربي ثم تحوّل إلى شيوعيّ عالميّ قبل أن يتحوّل إلى خطر إرهابي إسلامي عالمي. يخال للعدوّ أن هذا يسهل القضاء عليه وان ذلك سيثبّت أقدام إسرائيل على الأرض العربيّة. لكن الذي حارب الحاج أمين الحسيني (لم يلتقِ هتلر إلا مرّة واحدة - أو مرتيْن حسب بعض المصادر خلافاً لمقال جنبلاط الأسبوعي الذي زعم فيه أن الحسيني التقى مع هتلر «مرّات عدة») نال الشقيري فيما بعد، والذي حارب الشقيري نال عرفات وجورج حبش فيما بعد، والذي حارب الاثنيْن نال الجائزة الكبرى المُتمثّلة بحسن نصرالله... وهكذا دواليك. هذا عهد الاستعمار: يظن أن القضاء على زعيم وطني واحد كفيل بالقضاء على المشروع الوطني التحرّري برمّته. هذا ما لاحظه شلومو أفنيري في كتابه «صناعة الصهيونيّة الحديثة» عندما «علّم» على فلاديمير جابوتنسكي (مؤسّس صهيونيّة العرق الفاشيّة والتي يتحدّر منها «الليكود» و«كاديما») أنه رغم شدة وتيرة قوميّته لم يأخذ في الحسبان إمكان تطوير الخصم لقوميّة مناهضة: لم يدر في خلد الصهاينة الأوروبيّين احتمال نشوء حركة قوميّة في صفوف الفلاحين المُحتقرين (من قبلهم).
لن تُحسم هذه المعركة ولن تُحسم معركة مرّة في تاريخ الصراع العربي ــ الإسرائيلي. هذا هو مأزق إسرائيل الذي لا خلاص لها منه. ما إن تنتهي من خصم، أو أن يضعف خصم لها - لأسباب لا علاقة لها بها غالباً - حتى ينبتُ لها خصوم جدد أشدّ وأدهى من الخصوم السابقين. لا يقف أمام إنهاء الكيان إلا الدعم الأميركي. لهذا ينكبّ العمل الدبلوماسي الإسرائيلي برمّته على تصليب عود اللوبي الإسرائيلي المُمسك بتلابيب الكونغرس الأميركي. نجح الصهاينة في نفي إمكانيّة الحوار أو النقاش حول الصراع التاريخي في المؤسّسات السياسيّة والثقافيّة والإعلاميّة الحاكمة في أميركا. هناك لاعب كرة سلّة شهير دوايت هوارد غرّد مرّة هذا الأسبوع بعبارة «فلسطين حرّة». قامت الدنيا عليه ولم تقعد ومحا العبارة واعتذر عن كتابتها. من غير المسموح التعاطف مع شعب فلسطين هنا. النظرة التوراتيّة أو الأمنيّة المُستوردة تسود. كان الإعلام قبل ثلاثين سنة عندما قدمتُ إلى أميركا يسمح بكاتب واحد في الصحيفة يمكن له (أو لها في حالة ماري مغروري في «واشنطن بوست») نقد إسرائيل بلطف شديد. هذا لم يعد مسموحاً. صعود اليمين المسيحي في عهد ريغان قلب المعادلات وحوّل الحزب الجمهوري إلى شيء آخر. عندها قضي على الجناح الشرقي في الحزب، وقتلت فئة المستعربين في وزارة الخارجيّة الأميركيّة (هل كان روبرت مورفي أم رايان كروكر آخرهما؟) هذا لا يعني أن هؤلاء كانوا يمثّلون مصالح شعب فلسطين. أبداً، كان كل هؤلاء مرتبطين بشركات النفط والتسلّح وسلالات الخليج.
أوقع خالد مشعل حركته في ورطة عويصة: كيف يتفق مشروع المقاومة مع التعويل على دول الخليج - وقطر تحديداً - مع التحالف الذي لم يكن وثيقاً على ما يبدو مع حزب الله؟ ظنّ مشعل مثله مثل النظام القطري ان الربيع سيكون إخوانيّاً: كان ذلك عندما سلّم الحكم السعودي نفسه بذلك وأعطى قيادة الجامعة العربيّة إلى حمد بن جاسم. النشوة لم تستمرّ وانقسمت حماس بين جناح عرفاتي مهاجر وجناح مقاوم في الداخل. لكن كيف يعاد بناء جهاز المقاومة في ظل خناق جغرافي من كل الجهات؟ ولم يكن تعويل «حماس» على حكم الإخوان في حكم مرسي اكثر حكمة: استمرّ نظامه في هدم الأنفاق وفي بناء علاقات أمنية وثيقة مع العدوّ ولم يتدخّل الإخوان لإقلاق راحتها.
وقف نظام اوسلو موقف الحليف مع العدوّ. كيف أن الشعب الفلسطيني سمح لمحمود عبّاس بلعب دور أنطوان لحد؟ هذا الذي وصفه ياسر عرفات قبل أن يموت بحميد قرضاي إسرائيل وأميركا. قتلت إسرائيل عرفات كي يصعد عبّاس مكانه. قرّرت واشنطن ان تمويل أي فصيل فلسطيني لا يمكن ان يمرّ إلا من خلالها من أجل تركيز ثروة القضاء على الثورة بيد عبّاس (والمفارقة ان سلاح المال استعملته أميركا ضد عرفات بعد 11 أيلول بعد ان كان هو قد صعد في حركة «فتح» بواسطة المال النفطي، كما ان عرفات هو الذي حوّل مشروع الثورة إلى ارتزاق عبّرت عنه خير تعبير العبارة الساخرة عن «ثورة حتى آخر الشهر» في زمن الحقبة البيروتيّة من عمر الثورة).
يقف العالم العربي على عتبة تحوّلات لا تحديد لمسارها. لا يحيد عن فهمها أكثر من النظريّة الممانعة عن تسيير أميركا وتخطيطها لكل مجريات الانتفاضات العربيّة. لحسن الحظ ان أميركا لا تسيطر وإن حاولت بسعي مستمرّ. هي تواكب وتتآمر وتتكيّف مع التطوّرات وتقود مع دول الخليج حلف الثورات العربيّة المضادة التي تعيد عجلة الطغيان إلى ما كانت عليه من قبل. إعلام الخليج يريد ان يصدّق أن أميركا قادرة مع حليفتها إسرائيل على السيطرة على الوضع. تكبيل الشعوب ورشوتها لو أمكن حتميّة لاستمرار النظام العربي القائم. ساعدت التناحرات الأهليّة في أكثر من بلد وبأمر وتمويل وتسليح سعودي أو قطري (أو الاثنيْن معاً كما في سوريا) في تحوير مسار الانتفاضات العربيّة. لم يعد أحد يتحدّث عن موجة من الديمقراطيّة تجتاح العالم العربي. أبواق آل سعود يقدّمون الحجج النظريّة لتسويغ ضرب حريّة الشعوب: يقولون ويقلن إن التخلّف العربي لا يسمح بتقبّل واستطبان ما أسماه فؤاد عجمي بـ«منحة» المُستعمِر. هم يقولون بصريح العبارة إن العرب يستحقّون القمع والطغيان لأن خياراتهم لا تتفق مع خيارات المُستعمر ووكلائه المحليّين.
لن تُهزم غزة. تاريخ الحروب على غزة طويل: من الخمسينيات كانت دولة العدوّ تقسم أغلظ الإيمان على أنها ستنهي بصورة قاطعة ظاهرة المقاومة. أبطال مرّوا في تاريخ المقاومة في غزة، وأبطال يستبسلون في الدفاع عنها اليوم، وأبطال لم يولدوا بعد سيدافعون عنها غداً. غزة لم تعد مضرب مثل الفقر والعوز: باتت مضرب المثل في المقاومة والصمود (الصمود الحقيقي وليس العنوان الذي يلوك به إعلام أنظمة سوّقت لنفسها على أنها تقدميّة).
خيار «أوسلو» لم يعد موجوداً وباعتراف العدوّ. لن تستطيع أميركا تنصيب محمود عبّاس إلى الأبد. سلطة رام الله باتت نظاماً عربياً آخر، لكن يفوق الأنظمة في تخاذله وفي اعتماده على العدوّ للاستمرار. (لا) حلّ الدولتيْن بات غير وارد. يعترف الصهاينة المذعورون في الغرب بذلك، حتى أن جون كيري حذّر الإسرائيليّين من ذلك في اجتماع مغلق في برلين. مشروع المقاومة يتجدّد ويتبلور. خبرات المقاومة العربيّة تتراكم وتتكامل. لكن في المقابل، هناك صف عربي صهيوني يؤازر العدوّ بشتّى الوسائل (المنظورة في الإعلام العربي وغير المنظورة). لكن مصير هؤلاء سيرتبط بمصير كيان زائل لا محالة. الصبر، على صعوبته، جميلٌ.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)