لكل قابيل هناك هابيل، مثلاً ثنائيات توم وجيري، لوريل وهاردي، عنتر وعبلة، طرزان وجين، تانتان وميلو، ميدِيا ومُعِين، والخليلين. أيضاً لِكثرة الكلام هناك قلة معنى، ولكل بث «صحافي» أرعن و نَزِق هناك مارسيل غانم.نبذتُ بكل سعادة جهازي التلفزيوني منذ اثنتين وعشرين سنة، ولم أنظر إلى الوراء أبداً. ما البرامج الحوارية كـ«صار الوقت»، الذي شاهدت بعض مقتطفاته لأول مرة على «يوتيوب» أخيراً، إلا إثباتات على صوابية صيامي عن المشاهدة. شكراً يا مارسيل!
كان حريّاً به تسمية البرنامج «صار وقت إتلاف أعصاب المشاهدين» أو تعبئة غرائزهم حتى الثمالة. أيّ لعب على مشاعر الناس هذا؟ أيّ ضرب على الوتر التقسيمي الحساس؟ أيّ إرهاق نفسي جماعي؟ يا محلى المصارعة التدجيلية على حلبات لاس فيغاس. وكأنّ البلد برمّته بات محكوماً بإيقاعات رقصة فالس لشخصين فقط، متناغمي الخطوات في هذا الشبّاك الزمني من حاضرنا، يدوران حول بعضهما البعض على ألحان تشايكوفسكي، فيما أربعة ملايين نسمة أصبحوا «جميلة نائمة» مغناطيسياً تحت همسات الراقصين، أحدهما زعيم الأبواق المتلفزة والآخر زعيم مسرح البرلمان. دعونا جانباً من شريكهما الثالث في الرقصة، ساحر الهندسات المالية، المقلّد جائزة أفضل حاكم مصرف مركزي في العالم (نعم، في العالم) من يورومَني 2006. بس وين المَني، ما خبّرونا.
الراقص الأوّل يدير برنامجه كتمرين في الصراخ العالي اسمه «مشادة» كلامية أو عراك يدَوي لا فرق، مُهندَس أصلاً بشكل يضمن له النصر مهما كانت قوة المحاججة عند الطرف الآخر. الكازينو يربح دائماً دورات البوكر في آخر المطاف. مارسيل غانم طرف وليس حكَماً بين ضيوفه، فيما رأيه غير قابل للتغيير ولو خربت الدِني، و«يروحوا يبلطوا البحر» كما يقول. البرنامج وصاحبه ليسا إلا نموذجاً مصغراً عن تخبّط بلد بأكمله.
الراقص الثاني يحاكي اللعبة نفسها في المسرحية النيابية. أيّ قيادة ريادية هذه لا تتمكن من إلهام ممثلي المسرحية، عفواً النواب، ليكونوا أفضل ذواتهم؟ على العكس، نرى بطلها يستنهض أسوأ ما في النفوس المريضة سياسياً ونبش القبور في تاريخنا.
الراقص الأول يوجّه على الهواء إهانة نعتية «شو نكدة» لضيفته المحترمة وكأنه يدردش في «قهوةْ لِئجاز» مع شبيبة الحي، يقهقه ويتابع كأن شيئاً لم يكن! ثم ينفعل غضباً من رأي لا يناسبه، فتنتصب قامته بتوتر ويخطو ذهاباً وإياباً بعصبية في الاستوديو، ويصرخ عالياً بوجه أحد أفراد عصابته «طوني بتسكت لأني ما بدي فوت بهالنقاش...اُقعُد، اُقعُد». شو هيدا؟ لوين رايحة ثقافة التلفزيون في لبنان؟ هل أصبحت سابقة رفع الإصبع الوسطي عالياً وعلناً على الشاشة، كما أعطاه لرئيس حكومة مخطوف، وسام «بون پوان» يضيفه المرء إلى سيرته الذاتية كي يتلقى عروض توظيف من المحطات؟
الراقص الثاني يوبخ بصرامة أحد الأطفال «ولك فيك ترتاح؟» فيغمى الطفل على كرسيّه من الفكاهة، فيما يسحسح له ابن عمه النائب ودموع الضحك تملأ وجههما. الرئيس يشرح المادة الانتخابية أنها «مادة إجرها من الشباك» قبل أن ينهي الجلسة بطرقة على المنبر. وعندما يحتقن جو الجلسة التالية، يُخرِس سريعاً أحد زلمته «سماع، سماع يا علي»، ثم ينصح أحد نواب التقليد «بَيّك بعدو طيب شو بِقول بَيّك أنا قبلان (...) ما عم بعمل حوار». يقذف أحدهم فوق صوت الرئيس «جابولو ايّاهم بالملالات لعملوا النصاب بالـ 82 بالقوة»، فيستفيق الطفل المعني من سباته «حاجي بقا إنت والنصاب تبعك». يا لهوي، وجدتني منتصباً احتراماً لحاضر البلد ومستقبله. ناخبو الـ 2022 في كل الدوائر أرادوا برلماناً فاشلاً، وحصلوا تماماً على برلمان فاشل.
مارسيل غانم بارع في تلفيق النكهة الكيدية، الشخصية منها والسياسية، مجتمعتان في آن لتربيع المفعول. يختار كلماته بعناية مثيرة للغيظ قصداً، ينمّقها بمفردات إنكليزية وفرنسية تقع عشوائياً في غير محلها في الجملة، أسوةً بالعادة اللبنانية في علوم اللغة والكلام للإشارة إلى رقيّ متحزلق وجاهل (بطاقة السجّاد «تاپّي»). هو ديكتاتور في مملكة أثيرية قائمة على صراع أهوج بين آراء مضادة، يحبّذ لها المايسترو أن لا تقنع الآخر أبداً وأن تبقى تحت مستوى الموضوعية لضمان نجاح الحلقة/ الحلبة واستدامة الملاكمة. تمارين في مخالفة المنطق أحياناً، في سوء النية غالباً، وفي انعدام الجدوى دائماً، كالمقتصِد بتفكيره والمتابع ريجيماً مؤلفاً من السُكّر وغزل البنات فقط. لا تغذية ولا بروتين. أشوقها تفاهةً عندما يكون الضيوف من نوع السيئ الذِكر نديم قطيش والأسوأ المتنفّع جوزيف أبو فاضل. للأسف، هنالك من يشتري بضائع كهذه فارغة المضمون، ومارسيل يؤكد شماتةً للبنانيين «اليوم قررتم المقاطعة، ولكننا لم نتأثر، اسمالله، شوفوا» مشيراً إلى جمهوره العرمرمي قبل الغرق في تصفيق الحضور. حرارة عالية بلا نور.
أي تلوث ينتشر على أثير الحياة في لبنان؟ يكفينا وباء الكوفيد. كَتّر خير هالزمن: اقتصادنا يُك. الليرة يُك. الكهربا يُك. الأشغال يُك. القضاء يُكّيْن. رئاسة الجمهورية يُك. رئيس الحكومة ورئيس المجلس يُك، فيما العقل الجماعي مدينة أشباح. باقي هالتنفيسة الصغيرة يلّي اسمها تلفزيون كوسيلة هروب للناس؛ لازم كمان تكون مراية لواقعنا المرير؟ شكراً مرة تانية يا مارسيل!
شكراً لك على الترفيه المصطنع دون مستوى البراءة أو العفوية، المبني على القاعدة الاستعراضية نفسها المستخدمة في خيال «نيوم» العلمي مثلاً. أشياء تمويهية تُحوّل الوسيلة إلى هدف بحد ذاته، أي تضع العربة أمام الحصان عثرةً، للتشويش على السببية في واقع الناس اليومي. كذلك إشغال الفرد وإشعال عواطفه بكل ما هو فوري، آني، وسريع الذوبان، وإلهاؤه بالحيثية القبلية والغريزة الاستفزازية (عجقة بعجقة بدءاً بتفاهات العربي والفارسي، الوهابي وكل ما هو لاوهابي، المسيحي والمسلم واليهودي، الفينيقي أبو الوجهين، السني والشيعي والدرزي، الماروني والأرثوذكسي، التيار والقوات، إلخ... حدها الصهيونية تتفرج بمرح ومُطبّعوها يصفقون). لماذا تُصرَف مئات مليارات الدولارات على أبنية شاهقة وروبوتات خدماتية وثقافات بلاستيكية ومونديال مُبرّد لا ناقة في مجموعهم ولا جمل، فيما حضارة اللغة العربية تتشمس في النسيان؟ الشعوب تريد مساهمة حقيقية في استدامة أمنهم الغذائي والصحي والسكني أولاً، ثم في علمهم والحضارة الإنسانية وحقوق الفرد ومفهوم السيادة والمساهمة في تقديم ولو إنجاز علمي محلي واحد للبشرية. في المجتمعات الأميركية، إذا كانت الأهمية الوهمية للحدث الرياضي المتواصل دون توقف قائمة على تنويم الطبقات الشعبية السفلى، بينما الشركات المساهمة الضخمة تفعل فعلها في الكونغرس والاقتصاد المحلي والعالمي، على الأقل الولايات المتحدة ما زالت السبّاقة في التطور العلمي وكرامة المواطن (إذا نجا المعتّر من مخالب الأوبيود والمخدرات). ما هي ذريعة المجتمعات العربية الفاسدة جملةً ومفرّقاً؟
«صار الوقت» ريادي في التفرقة المقيتة وصبّ الزيت على النار. يجيد لعبة تصوير الفرد الآخر أو حتى نصف الشعب على أنه عدوّ، من دون الانتباه إلى أن في ذلك مساهمة في تدمير البلد


«التوك شو» رائج على الكثير من المحطات الأميركية، بعضها يؤدي دوراً تقسيمياً لئيماً مثال «فوكس نيوز». هي تفاهات لتعبئة الرأس تشبه ظرفاً من بودرة القهوة، كل ما تتطلب من المُشاهد خلطها بالماء كوظيفة إلهائية؛ لكنها على الأقل وظيفة. غير أن «صار الوقت» يقدّم مياه مبَوْدرة مسبقاً...بماذا نخلطها؟ وماذا نفعل سوى استهلاكها دون أي جهد فكري؟ فريق مارسيل نشيط جداً، يدرس الملفات بقالب تخويني، يجيد صياغتها بتوجيهات سياسية حسب أجندة المموّل الاكثر انفاقا في محطة هي الاكثر استقطابا للمال السياسي. يلبسها ديكوراً عصرياً وقشرة رقيقة «شبه تحررية» ولكن في عمقها فوقية ورجعية ومعوّقة خلقياً، ثم يقدّمها على طبق مخدِّر للعقول العاطلة عن الفضولية أو الاستطلاع ما بعد القشرة، علماً أنها سهلة الخدش لمن يعي ولمن يريد.
«صار الوقت» ريادي في التفرقة المقيتة وصب الزيت على النار. يجيد لعبة تصوير الفرد الآخر أو حتى نصف الشعب على أنه عدو، من دون الانتباه إلى أن في ذلك مساهمة في تدمير البلد بكل أفراده وبنصفيه مجتمعين. ثم يختبئ مديره استقواءً خلف العلم والأرزة وكأنه هو مثال الوطنية الصالحة دون غيره. هل أخطأ هذا «الصحافي» في الرأي ولو مرة واحدة بحياته؟ أبداً، وَلَو، مارسيل غانم منزّه عن الخطأ، سريع في إصدار الأحكام الجماعية ولوم الآخر وشرائح كبيرة في المجتمع، من دون تقديم ولو فكرة واحدة عن كيفية إصلاح ما يعتبره آثام الآخرين أو تكبد عناء البحث عن الحلول الوسطى. معادلته الخوارزمية (اُوپس! عذراً المصطلح إيراني) مدروسة لكن رخيصة: يستميل ويستدرج في السر، يوعد (ولا يوفي لاحقاً)، وينصب الفخ على الهواء بفظاظة. الهدف والنتيجة إحراز نقاط بث عالية ورفع مستوى استقطاب المشاهدين. الأورانجي دونالد ترامب مدرسة في الدهاء لكل من يتعاطى الدسائس في تحويل الدعاية السلبية، مهما كانت مرحاضية، إلى شهرة. «صار الوقت» يدرك هذا السر.
يرقى التعليق السياسي في «صار الوقت» وما يشبهه إلى مغامرات في حديقة الحيوان. ربما أسخف من هكذا برامج حوارية هي سخافتي في مضيعة الوقت لكتابة ولو حرف واحد عنها. على الأرجح في كلامي تعالٍ، ولكن السقف أصبح على وطاوة لا تُحتمل نكاد نختنق. ما يجب أن يستأخذ القسط الأكبر من نشاطنا الجماعي هو تسليط الضوء على جراحنا واستكشاف ما يسعفنا. لم يعد يذهل أحداً مدى الفساد الذي شرّعه عصر الحريرية في نظام الحوكمة والإعلام المُسمَّم بشدة البترودولار السياسي. لكني ما زلت أتفاجأ يومياً بأن قلة قليلة من الناس تربط بين يأسهم من جهة، وزعيمهم زائد شيخهم زائد الأبواق التلفزيونية من جهة أخرى. كيف تصفق الناس لأمثال مارسيل غانم؟ كيف لأيّ شخص أن يأخذ على محمل الجدية ما يشبه واقياً منتصباً زيفاً واصطناعياً لأنه محشوّ بحصى تراشقية؟
مارسيل أعزب، لكنه لا يعيش وحيداً. مارسيل مغروم بـ مارسيل. الثنائي مارسيل ونرجسيته يدفعون بضيوف البرنامج وجمهوره إلى أي منحدر، لست أدري. مش قليلة عمله الجهادي في الإعلام منذ أكثر من ثلاثين عاماً. تتضاءل سلامة فطرته شيئاً فشيئاً مع الزمن. ربما اضطررنا قريباً إلى أن نسقيها مرتين في اليوم مع رشة زبل. للأمانة، كي لا أظلم الرجل وأُلبِسه بدلة أكبر من مقاسه، مارسيل لا يُعنّف بلداً ولا يخادع شعباً برمته. المسيرة الطويلة لتدمير الإنسان في لبنان تتم بتكاتف واتحاد الساحر المالي وقطاعه المصرفي والزعامة السياسية والمنفعة الشخصية والجهل الانتخابي وممثلي الله في المعابد والثقافة العنصرية المنتشرة ومصالح القِوى الإقليمية التي اشترت، بالجملة والمفرق، الكثير من زهور الحديقة كـ نديم قطيش ومارسيل غانم وغيرهم، في مزاد الهرج والمرج العلني. ليرة؟ ليرتان؟ هل أسمع ثلاث؟ أهديها كلها لهم، متمنياً بكل صدق أن يجدوا ويعطوا حباً ومحبة لشركاء الوطن، ربما يفقهون.

* ناشر لبناني ومحرر سابق لمجلات أدبية وفنية