إنَّ المشهد السياسي والاجتماعي العراقي لا يسرّ الناظرين إليه عن قرب. ليس هذا فحسب، بل هو يثير الغضب والحزن والكثير من التساؤلات، خصوصاً وقد اختلطت الأمور ببعضها، وانتشرت الأكاذيب والافتراءات التي تشوِّش الرؤية الموضوعية والتفكير السليم لدى المحلل كما لدى المواطن البسيط. وللأسف، وقد شاهدتُ بعينيَّ وسمعت بأذنيَّ، خلال فترة وجودي في جنوب العراق لعدة أسابيع انتهت قبل أيام، أنَّ أوساطاً عريضة من الجمهور -مع استثناءات مهمة في القطاعات الأكثر وعياً وطنياً واستقلالياً- صدَّقت، أو هي في طريقها إلى تصديق هذه الأكاذيب والمقولات الزائفة والتضليلية التي يروجها أهل الحكم ومن يدعمهم من أوساط دينية وعشائرية. في هذه المشاهدات والانطباعات والتحليلات، التي قد لا تخلو من النَفَس الذاتي والعاطفي، سأحاول تقديم عرض لبعض مكونات وأحداث المشهد العراقي، مؤجّلاً الغوص التحليلي النظري في جذورها وخلفياتها الأعمق إلى مناسبة أخرى:لعل أخطر تلك المقولات التضليلية الزائفة هي تلك القائلة «إن زوال حكم المحاصصة الطائفية يعني زوال «حكم الشيعة» وعودة حكم خصومهم الطائفيين»! وهي مقولة تعني، ضمناً، أن الحكم القائم منذ عام 2005 يمثّل جماهير العراقيين «الشيعة»، وهذا افتراء على الحقيقة، ووهمٌ خَطِرٌ تكذّبه مشاهد مدن الخراب والعوز والرثاثة وسوء الخدمات العامة، في الجنوب خصوصاً؛ مدن تعوم على بحيرات نفط وغاز «يترك ليحترق في الجو فيما تُستورَد كميات هائلة من المُسيَّل منه من إيران»، ومزارع وحقول مهجورة على ضفاف أنهار كبرى بدأت تحتضر وتجف وتتحول إلى تُرعٍ آسنة فيما يتم استيراد أكثر من 95% من المواد الغذائية من دول الجوار، وبخاصة من تركيا وإيران. مدن جنوبية بدت وكأن زلزالاً قد ضربها وحوّلها إلى أنقاض بائسة تستقبل العواصف الترابية بشكل متكرّر وتعج بالمعطَّلين عن العمل والشحاذين والمكتئبين المستعدين للانتحار -ليس بلا دلالة ارتفاع نسبة المنتحرين والمنتحرات في عموم العراق في السنوات الأخيرة- والمتعاطين والمدمنين على المخدرات، مقابل تكاثر محدثي النعمة وأصحاب «المولات» والقصور والفلل الفاخرة لأثرياء المرحلة المتخمين بالمال السحت المسروق علناً من ثروة الشعب النفطية، حتى بلغ الأمر أخيراً سرقة النفط الخام نفسه بكسر أنابيب نقله وتصديره من قبل عصابات معقدة ومتداخلة مع بعض القيادات في أجهزة أمنية مكلّفة حراسة تلك الثروة.
ضمن مسعى الترويج لهذه المقولة التضليلية، شاهدت فيديو مقتطعاً وقصيراً يكثر تداوله بين الناس هناك، ويتحدّث فيه وكيل مرجع ديني كبير، ويقول لجمهوره كلاماً يتضمّن هذا المعنى، محذّراً ممّا سمّاه «التسقيط السياسي للمكون الأكبر» في الإعلام التواصلي، قائلاً، وهو ينظر من تحت نظارتيه نظرة ذات مغزى: «مو إذا راحت منكم -يقصد السلطة السياسية- ما راح ترجع لكم»! والحقيقة هي أن زوال حكم المحاصصة الطائفية والعرقية وقيام حكم وطني مدني لن يعني أبداً إقصاء الشيعة كـ«مكوّن مجتمعي وهوية فرعية للغالبية السكانية» عن الحكم وإدارة الدولة، بل سيعني فقط سقوط حكم الأحزاب والميليشيات الإسلامية الشيعية الفاشل باعتراف قادته وزعمائه، ووصول أحزاب وشخصيات وطنية استقلالية سيشكّل الشيعة تلقائياً غالبية جمهورها وقياداتها، مثلما شكَّلَ العراقيون الشيعة «تلقائياً» غالبية جمهور وضحايا انتفاضة تشرين السلمية عام 2019، وبنسبة تقارب المئة في المئة، والتي أغرقها ما يسمّونه «حكم الشيعة» المزعوم بالدماء!
باختصار، ثمّة من يخلط، عن عمد، بضع مئات من لصوص الحكم والساسة الفاسدين بملايين العراقيين الشيعة من ذوي الدخل المحدود والمعدمين الذين هم أشد المتضررين من هذا الحكم. فهذا الجمهور المليوني بهويته الفرعية يتسع للجميع، فيه الإسلامي والعلماني، واليساري واليميني، والمهتم بالشأن السياسي وغير المهتم به، ولكن أهل الحكم يبتزون الناس عامة بتهديدات كاذبة خوفاً من بروز قطب وطني استقلالي يؤدي إلى قيام حكم وطني يجمع شمل العراقيين ويعيد للعراق هويته العربية المناهضة للغرب الإمبريالي والصهيونية وينقذ وطنهم من حالة الموت السريري الإجباري بعيداً من الطائفية السياسية والمحاصصة المقيتة!

العداء اللفظي لأميركا والسعي لكسب رضاها
المقولة الثانية التي يروجها إعلام الأوليغارشية الحاكمة ببغداد والمشتغلون في خدمتها مفادها أن الأحزاب والفصائل المسلحة الشيعية المهيمنة على الحكم هي معادية لأميركا وتريد عراقاً مستقلاً وذا سيادة. وهذه أكذوبة فجَّة أخرى، فقد لاحظ المراقبون أن حكومة محمد شياع السوداني، المدعومة من هذه الأحزاب والميليشيات، وعلى قصر عمرها، لم تختلف عن حكومة مصطفى الكاظمي، المحسوب على أصدقاء السفارة الأميركية في تملقها للولايات المتحدة بهدف نيل رضاها (بشهادة رئيس الوزراء الأسبق الداعم لها وصانعها الفعلي نوري المالكي قبل أيام قليلة كما سيأتي بيانه بعد قليل). والأدلة العملية على ذلك كثيرة، بدءاً من تصريح السوداني بعد يومين من استلامه مهامه أن حكومته تتجه نحو زيادة إنتاج النفط وليس خفضه، وهو أمر رحبت به الخارجية الأميركية مباشرة بحرارة في حين إنها كانت قد وجّهت أقوى التهديدات لحليفتها التقليدية المملكة السعودية لأنها وافقت على خفض الإنتاج النفطي واعتبرت قرارها ذاك انحيازاً لروسيا في حربها بأوكرانيا! وهكذا رأى العالم حلفاء أميركا السعوديين وهم يتمردون عليها ويخفضون إنتاجهم النفطي ويتلقون تهديداتها برفع الحماية عنهم، أمّا الذين يزعمون أنهم أعداؤها المجاهدون ضدها في العراق فيزيدون الإنتاج ويضخون المزيد من المال والنفط لدول التطبيع المفلسة ويعقدون القمم الرئاسية الدورية معها!
أضف إلى ذلك، إطلاق السوداني عدة تصريحات غامضة تثير الريبة بخصوص قانون شركة النفط الوطنية المطعون به دستورياً والمعطل بموجب حكم من المحكمة الاتحادية العليا. وهو القانون الذي خطط له ووقف خلفه بعض أقطاب النظام السابقين والمحسوبين سياسياً على «الإطار التنسيقي»، كعادل عبد المهدي وإبراهيم بحر العلوم، وقد استهدف خصخصة الثروات النفطية العراقية وتحويلها إلى ملكية لعوائل الأوليغارشية الحاكمة وحماتها الأجانب. كما لوحظ تعجل السوداني محاولة تشريع قانون النفط والغاز المريب والذي يلهث خلفه الإقطاع السياسي الكردي بزعامة البارزاني «ليشرعن» له تصدير النفط والغاز الذي بدأ به منذ عدة سنوات حتى إلى الكيان الصهيوني. إضافة إلى تهميش فضيحة «سرقة القرن» وإهمالها كمقدمة «لطمطمتها»، والتراجع التدريجي عن وعد الانتخابات المبكرة، وهو التراجع الذي أكده عرّاب حكومة السوداني، نوري المالكي، في حديثه الأخير.
مدن جنوبية بدت وكأن زلزالاً قد ضربها وحوّلها إلى أنقاض بائسة تستقبل العواصف الترابية بشكل متكرّر وتعج بالمعطَّلين عن العمل والشحاذين والمكتئبين المستعدين للانتحار


ثم جاءت زيارة السوداني الأولى إلى الخارج لتكون إلى ركن التطبيع العربي الثاني مع الكيان الصهيوني، أي الأردن، الذي يرفض شعبه الشجاع اتفاقية وادي عربة مع دولة العدو. أليست دلالات هذه الزيارة وأهدافها واضحة، ومنها: تفعيل ملفات المشاريع النفطية والتجارية العبثية كأنبوب نفط «البصرة-العقبة» ومدن الأسواق الحرة في الصحراء على الحدود لضخ المزيد من السلع الرديئة والمشبوهة المصدر لكسب رضى واشنطن؟ أمّا عمليات القصف الاستعراضية التي كانت تستهدف السفارة ونقاط التواجد الأميركية العسكرية التي كان يقوم بها دعاة المقاومة والممانعة قبل تشكيل حكومة السوداني، فقد خفَّت ثم توقفت وحلَّ محلها قصف إيراني وتركي للأراضي العراقي شمالاً، يتم الرد عليه ببيانات الاستنكار والإعراب عن «القلق العميق»، وكحد أعلى بإعادة انتشار القوات العسكرية على الحدود الشمالية مع تركيا وإيران. علماً أن هذه القوات العراقية ممنوعة من دخول المدن الكردية العراقية التي تريد حمايتها. أمّا مأساة تنشيف دجلة والفرات وقطع مياههما من الدولتين الجارتين المسلمتين تركيا وإيران، فهي آخر ما يفكّر فيه أهل الحكم فيما مشاهد جفاف النهرين ورافدهما ورواضعهما والأهوار، ومناظر هلاك قطعان الجاموس والماشية الأخرى والأسماك وهجرة السكان اليائسين من الريف المتصحر إلى المدن، المكتظة أصلاً، تُقَطِّعُ نياط قلوب مَن يشاهدها عياناً!

التنوع المجتمعي يحتضر
نصل إلى أخطر كارثة تهدّد التنوّع المجتمعي العراقي الموروث الجميل منذ الغزو المغولي عام 1258، وها هو يلفظ أنفاسه الأخيرة: قبل أيام قليلة، صرح بطريرك المسيحيين الكاثوليك في العراق لويس روفائيل ساكو، قائلاً إنَّ «التجاوزات ضد المسيحيين العراقيين والإقصاء المتعمّد لهم دفعت نصف عديدهم السكاني إلى الهجرة من وطنهم، والباقون منهم مدرجون على قوائم انتظار الهجرة، بسبب عدم الاستقرار وغياب تكافؤ الفرص وعدالة القانون، من دون الأخذ في الاعتبار أنهم أهل البلاد الأصليون وشركاء في الوطن»!
فمَن نصدّق، بطريرك المسيحيين الكاثوليك العراقيين، الذي تربطه علاقات طيبة بالأوساط الحاكمة ويطرح هذه المعلومات المأساوية، أم أولئك الذين يروجون صوراً وفيديوات عن التسامح والإخاء بين العراقيين فنرى فيها بعض الشباب وهم يحملون الصلبان والعلامات المسيحية على صدورهم ويشاركون في شعائر ومراسيم التعزية الشيعية، أو عن وجود مجموعة مسيحية في قوام «الحشد الشعبي»، تكرّر اتهام بعض قادتها في الإعلام العراقي ومنصات التواصل الاجتماعي بالفساد والاستيلاء على بيوت المسيحيين المهاجرين بشكل غير مشروع؟
كما تحدّثت تقارير إخبارية ومشاهدات عيانية موثوقة عن وجود هجرة داخلية كبيرة لأبناء الأقليات الدينية والعرقية، حيث تتجه أعداد ممّن فشلوا في الهجرة إلى الخارج، من مدن الجنوب والوسط إلى محافظات الإقليم شمالاً، كأربيل ودهوك، في انتظار أن تسنح لهم فرصة جديدة للهجرة. وهذا بحد ذاته يؤكد أن حكم المحاصصة الطائفية وهيمنة الأحزاب والميليشيات الإسلامية على محافظات الوسط والجنوب هو عامل الدفع المباشر وغير المباشر لهجرة أبناء المكونات الصغيرة إلى خارج أو داخل وطنهم.
صحيح أن هجرة أبناء الطوائف الدينية والإثنية الصغيرة قد بدأت منذ فرض الحصار الغربي على العراق عام 1991، أي في عهد النظام الاستبدادي السابق، وحتى قبل ذلك بعقود، ولأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى، وهي هجرة مألوفة في مجتمعات أخرى مشابهة شملت جميع المكونات الاجتماعية، ولكنها لم تتحوّل إلى ظاهرة وكارثة حضارية خطرة تكاد تُفْقِد العراق إلى الأبد تنوّعه وتعدّديّته الدينية والعرقية واللغوية والقائمة منذ عشرات القرون. إنها كارثة لم يمر بمثلها العراق منذ الغزو المغولي وسقوط بغداد العباسية عام 1258، في وقت كان المنتظر أن تنخفض أو تتوقف الهجرة تماماً في الوضع الجديد ومع زوال الدكتاتورية وانتهاء الحصار الشامل! إنها واحدة من مظاهر خراب تسبّب به الحكم الطائفي وهيمنة أحزاب وميليشيات الفساد التي سلمها الاحتلال الأميركي حكم العراق مقابل أن تتعهد بتدميره وتحويله إلى بلد ميت سريرياً بلا صناعة ولا زراعة ولا جيش ولا تعليم ولا طب ولا استقلال ولا سيادة وبثروات منهوبة جهاراً نهاراً من قبل حكامه!

لقاء خاص مع صانع ملوك الطوائف
في لقاء خاص -متوافر على «يوتيوب»- أجرته قناة فضائية عراقية تبث من خارج العراق مع رئيس مجلس الوزراء الأسبق وزعيم ائتلاف «الإطار التنسيقي» الداعم لحكومة السيد السوداني، السيد نوري المالكي، سجّل الضيف تراجعاً تدريجياً ومحسوباً عن فكرة الانتخابات المبكرة التي ساد اتفاق بين قوى المنظومة الحاكمة على إجرائها قبل تشكيل الحكومة الجديدة. فردّاً على ملاحظة أبداها المذيع وقال فيها «بحسب المنهاج الحكومي لهذه الحكومة إن عمر هذه الحكومة هو سنة، ثم يتم إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، ولكن خلال الفترة الماضية تغيرت الصورة وأصبحت: خلال فترة سنة تجرى انتخابات محلية، وكأن هناك رسالة بأن عمر هذه الحكومة أربع سنوات، فهل هذا صحيح؟»، قال المالكي: «الأصل هو أن تأخذ حكومة السوداني مداها وفق السياق القانوني والدستوري لمدة أربع سنوات، ولا أحد يستطيع أن يمنعها من أن تأخذ مداها هذا». ثم استدرك قائلاً: «ولكننا وبناء على تفاهمات واتفاقات بعد الانتخابات الأخيرة لا نمانع من إجراء انتخابات مبكرة ولكن بشرط أن تكون مقدماتها سليمة وناضجة إلى الحد الذي يمكننا من إقامة انتخابات مبكرة صحيحة. ولكن رأيي الشخصي هو: سوف لن تكون عملية التأهيل للانتخابات المبكرة سهلة».

لعل أخطر تلك المقولات التضليلية الزائفة هي تلك القائلة إن زوال حكم المحاصصة الطائفية يعني زوال «حكم الشيعة» وعودة حكم خصومهم الطائفيين!


وكلام المتحدث واضح؛ فهو يجعل الأصل استمرار حكومة السوداني لأربع سنوات كأية حكومة منتخبة، ولكنه يجعل الانتخابات المبكرة ممكنة بشروط تشمل تغيير قانون الانتخابات ورفض التصويت الإلكتروني الذي يقول إنه أثبت فشله، ووجوب تغيير مفوضية الانتخابات، ولم ينقصه سوى أن يقول، سنجري الانتخابات المبكرة بشرط أن نضمن مقدماً فوزنا فيها مئة في المئة!
شخصياً، ورغم أن بعض الشروط التي طرحها المتحدث معقولة، ولكنني لا أعول كثيراً على الانتخابات، سواء كانت عادية أم مبكرة، لأن إمكانية التغيير من الداخل بأدوات وأيدي أطراف النظام الفاسد نفسه منعدمة تماماً، وهي لا تعدو أن تكون محاولات عبثية لإطفاء حريق بصب المزيد من النفط عليه! وقد تأكد ذلك بعد عدة دورات انتخابية شابها التزوير باعتراف أقطاب النظام، وآخرها الانتخابات المبكرة التي جاءت بحكومة السوداني، والتي أريد لها أن تكون مخرجاً طارئاً ومتنفساً للمنظومة الحاكمة التي حاصرتها انتفاضة تشرين 2019، ولكني أسجل هذا التراجع عن وعود النظام من باب الأرشفة والتذكير لا غير.

المالكي يطمئن الأميركيين و«الأخ بايدن»
ورداً على سؤال يقول: «هل من الممكن أن يسحب الدعم الأميركي عن حكومة السوداني؟»، ردّ المالكي: «الأميركيون تواصلوا معي عبر قنوات معينة وسألوني عن رأيي، فأنا ليست لدي علاقات مباشرة بهم مع أنني على علاقة ببايدن منذ أن كان نائباً للرئيس (المذيع: وبايدن كان يعتبرك أخاً؟ فيجيب المالكي: نعم!) والأميركيون لديهم قلق من سيطرة أحزاب أو فصائل على حكومة السوداني وأنا طمأنتهم وقلت لهم هذا لن يحدث، ولذلك فهم لديهم قناعة الآن بأن هذه الحكومة تستحق الدعم، وأكثر من ذلك فقد توقفوا عن إبداء أي تصريح أو موقف سلبي ضدها... هم يراقبون ولكن من خلال أسئلتهم وتصريحاتهم فهم راضون عن هذه الحكومة، راضون عنها وخائفون... وأنا رأيي الشخصي أن الحكومة يجب أن تمضي، ال يرضى يرضى وال ما يرضى لا يرضى، ولكني أعتقد أن العالم يجب أن يكون راضياً عنا لأننا لا يمكن أن نعيش كجزيرة معزولة. والأميركيون سألوني: ماذا يمكن أن نقدم لدعم الحكومة العراقية فقلت لهم لدينا معكم «اتفاقية الإطار الاستراتيجي» وعليكم تنفيذها فاذهبوا واجتمعوا بحكومة السوداني ونفذوا بنودها ففيها دعم وإسناد لها. وأعتقد أن لديهم النية لفعل ذلك». ثم يأتي المالكي بمثال على علاقته الجيدة ببايدن وكيف دافع عنه أمام الأتراك والكرد وقال بايدن قولته التي تباهى بها المتحدث: «المالكي ليس إيرانياً ولا أميركياً بل هو يكون حيث تكون مصلحة العراق»!
الخلاصة التي يمكن أن يخرج بها المشاهد والسامع والقارئ لكلام المالكي هي أن الهدف الأول للمنظومة الحاكمة، سواء كانت تحسب كحليف لواشنطن أو لطهران، هو نيل رضى واشنطن أولاً، وبهذا فلا فرق نوعياً بين الطريفين من حيث التبعية للعامل الأجنبي والإقليمي، وكلاهما أبعد ما يكون عن الهم الاستقلالي والسيادي الوطني للعراق.

حكومة الغالبية فتنة دولية
وعن مشروع التيار الصدري تشكيل حكومة غالبية، قال المالكي: «هذا المشروع انتهى، وهو كان مشروعاً خطيراً لا يمس أمن العراق فقط وإنما يمس أمن المنطقة كلها، ولذلك حين أقول إنَّ الإطار التنسيقي نجح، فهذا يعني أنه نجح في إسقاط مشروع دولي كبير وخطير يمس أمن المنطقة كلها. ومن هنا، من العراق أرادوا أن تنطلق فتنة كبيرة تذهب إلى إيران وإلى لبنان وإلى سوريا، وهذه الفتنة تشبه تلك الفتنة التي أرادوها في سوريا لإسقاط الدكتور بشار الأسد، الفكرة نفسها. ولذلك قالوا إن المالكي أسقط مشروعنا في سوريا ولذلك أصررت أن لا يسقط بشار الأسد رغم أني كنت قد قدمت شكوى ضد سوريا في الأمم المتحدة... ولذلك قلت إن نجاح الإطار التنسيقي بتشكيل حكومة أسقط مشروعاً دولياً».
أعتقد أن هذا المحور من تصريحات المتحدث تستحق وقفة خاصة لأهميته: واضح من كلام المتحدث أنه يعتبر مشروع التيار الصدري لتشكيل حكومة غالبية غير توافقية كما جرت العادة، وعدم إشراك بعض الأطراف الشيعية فيه مشروعاً فتنوياً دولياً كبيراً يمس أمن العراق والمنطقة بكاملها. ولأنه لم يقدّم المتحدث أية أدلة ملموسة تؤيّد اتهاماته، واكتفى بطرح وجهة نظره الاتهامية، فليس أمامنا إلا المقارنة المنطقية والوقائعية لدحض هذا الاتهام، مع تأكيد أنني لن أفعل ذلك دفاعاً عن التيار الصدري ومشروعه الذي تحفظتُ عليه مبكراً، لأن هذا التيار كان على الدوام حزباً من أحزاب المنظومة الحاكمة الفاسدة منذ عام 2005، وهو لا يختلف في شيء عن أي حزب آخر من أحزابها في المسؤولية عمّا حلَّ بالعراق وشعبه منذ ذلك التاريخ.
ثم، كيف يستقيم اتهام السيد نوري المالكي لمشروع حكومة الغالبية بأنه مشروع فتنة دولية وهو شخصياً كان قد سبق التيار الصدري إلى طرح فكرة «حكومة الغالبية» بعدّة سنوات، ثم تراجع عنها آنذاك تحت ضغط ساسة الفساد والطائفية السياسية التي يهدّد هذا المشروعُ امتيازاتها ودورَها، وعاد إلى تشكيل حكومة توافق ومشاركة وفق المحاصصة الطائفية والعِرقيّة، وقاد بنفسه حكومتين متواليتين. فلماذا يكون تشكيل حكومة غالبية حلالاً بلالاً ومشروعاً وطنياً عليه وحراماً ومشروع فتنة دولية بالنسبة لغيره من أحزاب المنظومة؟
ثم كيف يتسق ويستقيم كلامُ المتحدّث عن الإصلاح والإنقاذ وهو شخصياً قد اعترف قبل بضع سنوات، على شاشات التلفزيون، بفشل الطبقة السياسية كلها فشلاً ذريعاً، قائلاً حرفياً إن «الطبقة السياسية في العراق -وأنا منهم- قد فشلوا فشلاً ذريعاً في إدارة البلاد وينبغي أن لا يكون لهم دور في رسم خريطة العملية السياسية في العراق، نعم، كل السياسيين الذين أداروا هذه المرحلة، وأقول أنا منهم لكي لا يقال ها هو يحطنا في المحرقة ويخرج منها، وينبغي أن يبرز جيل آخر بخلفيّة الوعي لما حصل وبخلفية الأخطاء التي ارتكبوها» (الفيديو لا يزال منشوراً على «يوتيوب»).
وبالعودة إلى اتهاماته لأصحاب مشروع حكومة الغالبية بالضلوع في فتنة دولية، بما أن المتحدّث لم يقدّم أية أدلة أو بينات تعزّز اتهاماته هذه فلا يبقى أمام المراقب المحايد إلا المقارنة بين مشروع مُتَّهَم لم يُنَفّذ وآخر يجري تنفيذه منذ عام 2005 وحتى اليوم وانتهى بتدمير العراق. وبناء على هذه المقارنة نتساءل: أليس ما يعيشه العراق اليوم، من فساد وخراب شامل وموت سريري، هو نتيجة للمشاريع والحكومات التوافقية المتوالية والتي شارك فيها المالكي شخصياً وحزبياً، ألا يعني ذلك أن المشروع الدولي (الأميركي) بعد الاحتلال وإقامة نظام المحاصصة الطائفية والعرقية هو المشروع الفتنوي التدميري المؤَكَد والجدير بالإدانة والإنهاء، وما المشاريع الأخرى سوى أفرع تطبيقيّة له؟

* كاتب عراقي