أقل من قرن من الزمان، كان وادي سانتا كلارا، وسط كاليفورنيا، عبارة عن مساحة نائية من بساتين الفاكهة ومصانع التعليب، تتخللها حفارات التعدين. ليأتي عام 1941، لتضرب البحرية اليابانية بيرل هاربور الأميركية، مما أدى إلى سلسلة من الأحداث التي أعادت تشكيل هذا الوادي ليُعرف بـ«وادي السيليكون» (سيليكون فالي) وتحويله إلى واحد مِن أعظم مناطق تركيز الثروة في العالم. بعد ضرب بيرل هاربور، استعد البنتاغون للتوغل في المحيط الهادئ، ولكن، خوفاً من هجوم مفاجئ آخر، قام بعملية إعادة توزيع مراكزه العسكرية والبحثية عبر أجزاء من الساحل الغربي، وكان أحد هذه المواقع هو «Moffett Field»، وهي قاعدة جوية مهجورة إلى حد كبير على الخليج تحميها جبال سانتا كروز. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية، بقيت آلة الحرب، وأعيد استخدام نفس المراكز العسكرية والبحثية في المواجهة المتصاعدة مع الاتحاد السوفياتي. وفي ظل التخطيط لحرب نووية، شجّع البنتاغون المقاولين على تحويل المشاريع العسكرية بعيداً من المراكز السكانية الرئيسية. وقد امتثلت شركات الأسلحة خصوصاً ونقلت صواريخها وقسمها الفضائي إلى وادي سانتا كلارا.

اجتذب مقاولو الحرب الباردة العلماء الموهوبين وطلاب الدراسات العليا إلى الوداي المعزول مُتحين لهم فرصة الحصول على براءة اختراع مربحة أو إدارة شركة ناشئة. وعادة ما كانت تكدح أقسام الأبحاث الجامعية، على الأقل من الناحية النظرية، من أجل الصالح العام. لكن خلال الحرب الباردة، تم مسح الخط الفاصل بين العمل الأكاديمي والعمل الربحي، وهو ما أصبح تطوراً أساسياً لنظرة وادي السيليكون العالمية. وقد أنتجت الظروف الخاصة للوادي طرقاً لممارسة الأعمال التجارية ورؤية العالم الذي لم يكن من الممكن أن يزدهر في أي مكان آخر - وأدى في النهاية إلى إطلاق منصات إلكترونية مثل: «فايسبوك» و«يوتيوب» و«تويتر».
ومثل الكثيرين، كان ماكس فيشر، الصحافي في «نيويورك تايمز»، يفترض أن مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي تأتي في الغالب من سوء الاستخدام من قبل المشتركين أو من جهات بعينها مثل وكالات الدعاية والقراصنة وباعة الأخبار المزيفة، وفي أسوأ الأحوال كانت المنصات الاجتماعية المختلفة قناة عرض سلبية لمشكلات المجتمع الموجودة مسبقاً. لكن عملياً، وعندما قام فيشر بمقابلات مع مئات الأشخاص الذين درسوا وسائل التواصل الاجتماعي أو استغلوها أو تأثروا بها، وكذلك مع العمّال والمديرين التنفيذيين في وادي السيليكون، ونشرها في كتابه تحت عنوان: «آلة الفوضى» (The Chaos Machine: The Inside Story of How Social Media Rewired Our Minds and Our World - 2022) توصّل إلى أن التقنية الحديثة المعتمدة في وادي السيليكون تُسهم في إثارة الكراهية، ونشر المعلومات المضللة، والاتهامات الكاذبة في كثير من الأحيان ضد الأقليات، حيث يستكشف الكتاب بعمق مسألة ما إذا كانت هُناك سمات معينة لوسائل التواصل الاجتماعي مسؤولة حقاً عن استحضار الخوف والغضب الجماهيري. فقد استمرت الأحداث الغريبة والمتطرفة وأعمال الشغب، وتكوّن المجموعات الراديكالية، والإيمان واسع النطاق ببعض المؤامرات الغريبة في الارتباط بوسائل التواصل الاجتماعي.
وقد اعتقد القائمون على وسائل التواصل بقدرتهم على كبح هذه الكراهية والتحريض المتزايدين، لكن قد أعاقهم الشيء نفسه الذي كان من المفترض أن يساعدهم، وهو: العشرات من كتيبات القواعد السرية التي تملي ما يجب عليهم السماح به على المنصات وما يجب إزالته. وبالنسبة لمستخدمي «فايسبوك» مثلاً، الذين يزيد عددهم على ملياري مستخدم، فإن هذه القواعد غير مفهومة إلى حد كبير. وتهدف تلك القواعد إلى الحفاظ على المنصات آمنة، وتوضح كُل شيء بداية مِن الخط الفاصل بين حرية التعبير وخطاب الكراهية إلى حدود الحركات السياسية المسموح بها. ولكن كتيبات القواعد أثبتت عدم كفاءتها للحد من الأضرار التي غالباً ما تتسبب فيها المنصة نفسها، وفي وقت كانت المنصات تفيض بالتطرف، والدماء تنزف بشكل متزايد في العالم الحقيقي اتهمت الأمم المتحدة «فايسبوك» رسمياً عام 2018 بالسماح لتقنيتها بالمساعدة في إثارة الكراهية ضد المسلمين من الروهينغا، لتكون إدارة «فايسبوك» شريكة في واحدة من أسوأ عمليات الإبادة الجماعية منذ الحرب العالمية الثانية.
حصل فيشر على وثائق مسربة تُحدد سياسات التعبير عبر منصة «فايسبوك»، ما دفع الموقع لدعوته وعرض عليه إتاحة ما يقرب من 12 من صانعي سياسات الشركة للتحدّث، وكانت مُلاحظات فيشر عنهم أنهم جميعاً محترفون، ويتمتعون بعقلية صلبة، واكتسب البعض منهم سمعة طيبة في واشنطن العاصمة في مجالات مثل مكافحة الإرهاب أو الأمن السيبراني، ولديهم خلفيات مثيرة للإعجاب في مجال حقوق الإنسان والسياسة. ولكن، سيتضح لاحقاً أن أيديولوجياتهم والتحيزات المسبقة لديهم لا تزال قائمة بقناعة شبه دينية منذ أن كانوا في حرم جامعاتهم، وانتقلت معهم إلى وادي السيليكون. تخفي البراعة التقنية إخفاقات عميقة، يقول فيشر، حيث لا توجد قائمة أعمال منظمة أو شاملة، فقط عروض PowerPoint التقديمية وجداول بيانات Excel المنفصلة، والردود المتناثرة على المسائل الجيوسياسية المعقدة، وكتيبات إرشادية مع قواعد متناقضة. هذا ما تم تعليمه للقائمين على «فايسبوك». لذا تبقى أحد أكبر الأسرار لصناعة التكنولوجيا هو أنه «لا أحد يعرف تماماً كيف تعمل الخوارزميات التي تحكم وسائل التواصل الاجتماعي في الواقع». عرض مسؤول تنفيذي في مقر «فايسبوك» على فيشر قضية: منع الإرهابيين من التجنيد على المنصة، وتحديد مجموعات الكلمات التي تشكل تحريضاً غير مقبول على العنف. لكن بالرغم مِن المجهودات في هذا الإطار يبدو أن المشكلات تزداد سوءاً، وتفشل الشركة غالباً في التصرف حيال خطاب الكراهية والمجموعات العنصرية والعنيفة المغلقة التي تتكاثر على المنصة. وقد يكون هذا راجعاً لحقيقة أن هناك مزيجاً من الغطرسة والجهل موجود بالفعل في العلوم السلوكية التي استخدمتها منصات التواصل الاجتماعي. وقد عبّر مارك زوكربيرغ، مؤسس «فايسبوك»، عن سذاجة مُذهلة عندما قال إن «هناك قانوناً رياضياً تقوم عليه العلاقات الاجتماعية البشرية ويحكم التوازن بين ما/لماذا نهتم بها».
وفي سعي فيشر لفهم كيف يمكن أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي قد «أعادت تشكيل عقولنا»، يُشير إلى أن الفكرة الأساسية في وادي السيليكون هي أن جعل الناس يقضون المزيد والمزيد من الوقت على الإنترنت سوف يثري عقولهم ويحسّن العالم بشكل أفضل في نهاية المطاف، ما أكد أن الإيمان بالتكنولوجيا كقوة من أجل الخير لا يتزعزع. سرعان ما حذّر بعض باحثي «فايسبوك» المعنيين بدراسة تأثيرات التكنولوجيا الخاصة بهم أن الموقع قد يؤدي إلى تفاقم الانقسامات السياسية في أميركا، وقد حذروا داخلياً من أن المنصة تُستَغل عبر خوارزمياتها في انجذاب الدماغ البشري إلى الانقسام. في الواقع، استمر تجاهل تلك المسألة، وقد تم تصميم أنظمة «فايسبوك» بطريقة توفر للمستخدمين المزيد والمزيد من المحتوى المثير للانقسام في محاولة لجذب انتباه المستخدم وزيادة الوقت على المنصة. وأوقف التنفيذيون البحث في خطورة تلك المسألة ورفضوا التوصيات إلى حد كبير، وكان سؤال: «ما هي عواقب توجيه حصة متزايدة باستمرار من السياسات والمعلومات والعلاقات الاجتماعية البشرية من خلال منصات الإنترنت المصممة عبر الخوارزميات؟» من المحرمات. علماً أن هُناك تحوّلاً ملحوظاً في دور علماء النفس مِن تطبيقيين في مجالي الأمراض الطبية والعمليات النفسية إلى مهندسين اجتماعيين، مُستغلين علم النفس الاجتماعي للتنبؤ باللاعقلانية وتحفيز الآراء لتحيز في اتجاهات معينة سواء عبر الإنترنت أو في العمل أو في السياسة العامة. وبالرغم مِن تركيز علم النفس الاجتماعي على علاج العلل الاجتماعية المتصورة من خلال تعزيز نقاط القوة والفضائل، إلا إن هناك انحرافاً ملحوظاً نحو التعامل مع البشر كمكونات يمكن التلاعب بها في المجتمعات.
في صيف 2020، خلص تحقيق مستقل عن «فايسبوك» تم تحت ضغط من مجموعات الحقوق المدنية، إلى أن سياسات المنصة سمحت بتفشي المعلومات الخاطئة التي يمكن أن تقوض الديموقراطية، وكانت الخوارزميات تدفع الناس نحو غرف صدى للتطرف، وفقاعات لنشر الكراهية، ولعل الأكثر إدانة هو أن التقرير خلص إلى أن الشركة لم تفهم كيف أثّرت خوارزمياتها على مليارات المستخدمين. وتزامن هذا مع أكبر رد فعل شعبي أميركي عنيف في تاريخ وادي السيليكون، حيث واجه عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي جلسات استماع في الكونغرس، وغرامات بمليارات الدولارات، وأشارت الشخصيات العامة بشكل روتيني إلى الشركات باعتبارها واحدة من أخطر التهديدات في عصرنا. رداً على ذلك، تعهد قادة الشركات بمواجهة الأضرار الناجمة عن خدماتهم. وكشفوا النقاب عن غرف لنزاهة الانتخابات وتحديث سياسات مراجعة المحتوى. لكن نموذج أعمالهم -إبقاء الناس ملتصقين بمنصاتهم لأكبر عدد ممكن من الساعات في اليوم- والتقنية الأساسية المستخدمة لتحقيق هذا الهدف، ظلت من دون تغيير إلى حد كبير. وبينما تفاقمت المشكلات التي وعدوا بحلها، فقد كسبوا أموالاً أكثر من أي وقت مضى.
في دراسة فيشر تبقى الآليات السببية الأساسية لإظهار أن الأخلاق هي دافع غريزي نشأ في المجتمعات البشرية البدائية غامضة، فغالباً ما تكون قوانين السلوك البشري مُتضاربة، ومشتقة من فرضيات غير قابلة للإثبات. بعبارة أخرى، لا يمكن اختزال الحكم والأخلاق البشرية في دوافع غريزية يمكن التلاعب بها. وفي الواقع، لا يمكن إلقاء اللوم على وادي السيليكون بسبب الضعف النفسي الذي يقودنا إلى إلحاق الأذى أو التصرف ضد مصالحنا الخاصة. ولا على الاستقطاب الثقافي العميق في أميركا وأماكن أخرى والذي دفع المستخدمين لتحويل هذه المساحات الجديدة إلى أماكن للصراع الحزبي مما أدى إلى تدمير أي شعور مشترك بالرفاهية أو الواقع. وحتى أكبر شركات وسائل التواصل لا يمكن لومها على نموذج التمويل عالي التقنية الذي أدى إلى ظهورها، وذلك من خلال دفع استثمارات بملايين الدولارات مع اهتمام قليل بالنتائج المشوهة التي يخلقها. ومع ذلك، اكتسبت هذه الشركات بعضاً من أكبر ثروات الشركات في التاريخ من خلال استغلال تلك الميول ونقاط الضعف البشرية مُعلنة بذلك بدء حقبة جديدة تماماً في تجربتنا الإنسانية.
* كاتب مصري