سواء كانت المنشورات الأخيرة المتزامنة لعددٍ من الكتاب السعوديين ــــ وهي "تقرّع" اللبنانيين وتبدي "خيبة الأمل" منهم ومن ضعف "مردود الاستثمار" فيهم ــــ مدفوعةً من الحكومة، أم تعبيراً "أصيلاً" عن عقلية نخبة المؤسسة السعودية ونظرتها الى نفسها والى الآخر؛ فإن تكرار ذكر الجالية اللبنانية في هذه المقالات والتصريحات، والتلويح بطردها "عقاباً" على سلوك حكومة لبنان أو أحزابه، تستدعي منّا مواجهة اشكالية جدية ــــ ولكن قادمة على أيّ حال وكان من المحتّم التفكير فيها والتعامل معها، طال الزمن أم قصر.
في المبدأ، ليس من المفترض أن يكون اللبنانيون الذين يعملون ويعيشون في السعودية، وعائلاتهم، على طاولة النقاش أساساً (بغض النظر عن السياسة والآراء ومن غاضبٌ مِن مَن). من جهة، فإن العرف بين الدول "المتحضرة"، أقلّه في القرنين الماضيين، هو في فصل السياسة والأزمات عن العلاقات البشرية والاجتماعية والاقتصادية؛ وأن لا تلجأ هذه الدول، لدى كلّ اشكال دبلوماسي، الى "الحرب الشاملة" ضد خصمها ومواطنيه. كما أنّه (لأسباب نفعية وانسانية)، يقوم العرف على أن لا تؤثر الخلافات ــــ بل والحروب في حالات كثيرة ــــ على حياة ومصالح أفرادٍ (أو شركات) ليسوا مسؤولين عن سياسة حكوماتهم ولا علاقة لهم بها. من جهةٍ أخرى ــــ ايضاً بمقاييس العالم الحديث والبروتوكولات الدولية ــــ كما أنّه على الزائر والعامل الوافد واجبات والتزامات (كأن تطيع قوانين البلد الذي يستضيفك، وأن لا تستفزّ تقاليده وعاداته، وأن لا تهرّب المخدرات على طائرتك الخاصة، الخ…)، فإنّ البلد الذي يمنح الإذن بالزيارة أو الإقامة لأجنبي عليه، بالمثل، واجبات، أقلّها أن يلتزم بقوانينه التي سنّها والتأشيرات التي أصدرها، وأن لا يميّز على أسسٍ عرقية أو دينية، أو يتعسّف كيداً في مسائل تمسّ صميم حياة الناس ومعاشهم.
غير أنّ قوانين الهجرة واجراءاتها، في نهاية الأمر، هي ملكٌ للحكومة وتحت سيادتها المطلقة؛ ولا أحد سيمنع دولةً ما من طرد وافدين لديها، أو تخسيرهم أعمالهم، أو انتهاك حقوقهم القانونية (كما جرى في أميركا بعد هجمات سبتمبر) الّا إن كنت تملك سلطةً عليها ورادعاً. وحين تكون الآلاف من عائلاتك تقطن في بلدٍ آخر وتعمل فيه وتعتمد على رحمة سلطاته، فأنت، في نهاية الأمر، تقف موقف تلك السيدة العراقية اللاجئة في إحدى دول الجوار التي لم تملك، في وجه مرارة المنفى وظلم الغريب، الا أن تردد المثل الشعبي العراقي "اشعندك على ابن الناس غير مروته؟" (ماذا تملك على الغريب غير مروءته؟).
ولأننا نعرف حكام السعودية و"مروءتهم"، ولأن من يقصف اليمنيين ويقتلهم لن يتورّع عن طرد مواطنين ينتمون الى بلدٍ صغير، ولأن السعودية، بالتحديد، قد مارست هذا الاسلوب مراراً في الماضي، فإننا نقف هنا اليوم؛ وعلينا أخذ تهديدات السعوديين بجدية، وأن لا نستغرب أن تكون سياسات العقاب الجماعي هي الرصاصة الأخيرة في يد نظام الرياض حين لا ينال ما يريد.
حتى نفهم التصريحات والكتابات السعودية، ولهجتها الفوقية الآمرة، ونظرتها الى اللبنانيين كخدمٍ عصوا أو أبدوا "جحوداَ" و"نكراناً للجميل" (وهي تعابير مفتاحية، تكررّت مراراَ في المقالات المذكورة)، علينا أن نفهم نظرة السعودية الى نفسها أو، بالأحرى، النظرة التي تقدّّمها المؤسسة والصحف والتلفزيون الى جمهورها عن النظام السعودي وعلاقته بالعالم الخارجي. في هذا الخطاب، السعودية ليست دولة "عادية" كباقي الدول، لنظامها سياسات تصيب وتخطىء، وله تاريخ وجرائم وأدوار في المنطقة؛ بل هي تقدّم كبلدٍ "استثنائي"، "مملكة الخير"، لا تربطها بالباقين الا علاقات احسانٍ خالصة (من جانب السعودية)، والسيئة الوحيدة في سياساتهم هي أنهم "طيبون" وكرماء أكثر من اللازم. هذه الصورة المثالية عن النفس هي التي تسمح للمعلقين وللنخب بالكلام بهذا القدر من الثقة والتطلّب، والنظر الى مسألةٍ كالعمال الزائرين، هي علاقة تبادلية روتينية ومنافعها تذهب في الاتجاهين، كضربٍ من "مكرمة" أو "هبة"، يجوز حجبها ساعة الغضب (هذا كأن نعتبر أنّ السماح للسعوديين بالدراسة في لبنان، والتطبب والسياحة فيه، هو امتياز نكرمهم به، وأن اموالهم ومصالحهم وأملاكهم في البلد ــــ وهي بالمليارات ــــ حقٌّ لنا متى شئنا مصادرتها).
على الضفة اللبنانية، هناك خطاب يرجّع صدى هذه العقلية، تجلّى في صدامٍ بين رفيق الحريري وتحسين خياط (ومحطة "الجديد") قبل عقدٍ ونصف، حين منع الحريري بثّ مقابلة تنتقد الحكم السعودي، واعتبر أن الموضوع "خطّ أحمر"، لأن المملكة صديقة للبنان ولها عليه "أفضال"، ولأن في نقد السعودية تهديداً لمصالح اللبنانيين الكثر الذين يعملون فيها. هكذا أسس رفيق الحريري لفكرة أنّ السعودية "تابو"، لا تخضع لتقاليد الإعلام وحرية الرأي، وأنّنا نحن المسؤولين عن غضبة حكام الرياض إن حصلت، وليس من يتخذ القرار ويظلم الناس. هذه العقلية قديمة، تجدها في مقولة ربّ العمل في مسرحية زياد الرحباني الشهيرة، حين ينصح الموظّف بأن "يذهب الى الخليج". "الخليج" هنا هو ليس حلاً لمشاكل الموظف الفقير، بل لمشاكل رب العمل؛ فهذه الهجرة تسمح لمن يدير البلد بأن يتجنب مواجهة كلفة ما ارتكب، وأن يتخلّص من الشباب ومطالبهم ومسؤولياتهم عبر تصديرهم. هي ليست حلاً لمشاكل بطل المسرحية في "بالنسبة لبكرا شو"، الذي سيمضي سنوات عمره في الخليج، بلا ضمانات ولا جنسية أو استقرار (وفي انتظار أزمة نفطية أو سياسية تنهي وظيفته، كما يحصل اليوم)، فيما زوجته تسامر السياح في بيروت، لهاثاً خلف ارتقاء طبقي يتيح لهم أن يعلّموا أولادهم "كما يجب" ويحضّروهم … حتى يعملوا في الخليج.
لا نعرف اين سيكون آخر الطريق؛ ولكنّ هناك أمراً واحداً مؤكداً: في القضايا السياسية، كما في الأمور الشخصية، الابتزاز لا يمكن التعامل معه الا عبر رفضه منذ بدايته، والّا فإنك تضع نفسك على منزلقٍ بلا قعر. إن تنازلت اليوم في مسألة نافلة "حتى لا يطردوا اللبنانيين"، فهم سيطالبونك بالدخول في حروبهم الطائفية غداً "حتى لا يطردوا اللبنانيين"، والموت لأجلهم بعد غد "حتى لا يطردوا اللبنانيين". حين تواجه من لا يتورّع عن استخدام العائلات والناس البسطاء "أوراقاً" للإبتزاز، فمن الأفضل لك أن تحسم موقفاً مبدئياً في وجهه منذ البداية، محتفظاً بكرامتك، قبل أن تخسر ــــ بعد حين ــــ الكرامة والمصلحة معاً.