تنمو بين الشباب الأفريقي في الوقت الراهن نزعة وعي سياسي ومجتمعي ربما هي الأكثر انتشاراً وراديكالية من نوعها منذ نهاية «حروب» التحرر الوطني، أو على الأقل نهاية ستينيات القرن الماضي، وما قادت إليه من توافق غالبية النخب الأفريقية، بما فيها مؤسسات عسكرية ضعيفة التكوين، ظلت لعقود أسيرة «الحاضنة» الاستعمارية أو هوامش ضيقة من المناورة بعلاقات مع الكتلة الاشتراكية، مع قوى الاستعمار السابق. وبينما حرصت فرنسا باستمرار على استشراف رؤى الشباب الأفريقي في دول نفوذها التقليدي في أكثر من مناسبة، كما تم في واغادوغو، أي لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بطلاب جامعة العاصمة البوركينية نهاية تشرين الثاني 2017، وتعبيره البلاغي في كلمته عن رغبته في الوقوف إلى جانب الشباب الأفريقي وأن يكون الشخص الذي يساعد أوروبا على اغتنام هذه الفرصة: «الاستماع إلى الشباب الأفريقي لاستخلاص أفضل ما فيه ووضع مقدراته لخدمة العالم أجمع»... فإن هذا التوجه جاء تجسيداً لمنحاها الكولونيالي الضمني في بنائها. وتكرر هذا الخطاب في مونبيليه (تشرين الأول 2021)، لكن نقاش ماكرون «على الهواء» مع 12 شاباً وفتاة من عدة دول أفريقية («انتقاهم» المؤرّخ الكاميروني البارز أتشيلي مبيمبي) برّز هذه المرة فجوة بائنة ومكشوفة للجميع بين «الخطاب الفرنسي الاستعماري الجديد» وواقع قناعات الشباب الأفريقي -حتى وسط نخبة تلقّت تعليماً أوروبياً رفيعاً، كما في حالة د. ستيف بيكو ورفاقه في حركة الوعي الأسود BCM في جنوب أفريقيا قبل عقود- بأن استمرار الرؤية الاستعمارية لدول قارتهم، مدعومة بنظم حكم طفيلية بامتياز، بات أمراً مرفوضاً وتجاوزه الزمن؛ الأمر الذي كشفت عنه الأحداث المتلاحقة في «مستعمرات» فرنسا السابقة من دعم شعبي وشبابي ملموس لأيّ تحركات سياسية تضع، ولو مرحلياً، مناهضة الهيمنة الفرنسية (والغربية) على أجندتها.

لكن، بطبيعة الحال، يظل هذا الوعي مرهوناً بتبلوره في خطوات على الأرض تضمن عدم تكرار «الاستلاب الثوري» الناجح عقب فورات سابقة، ما أعاق نجاح مشروعات التحرر الوطني في أغلب دول القارة وتوقفه، أو على الأقل تمكّن الإمبريالية الأوروبية-الأميركية، بامتداداتها الطبيعية داخل نخب أفريقية، من ضبط أيّ تفاعلات «ديموقراطية» بحيث لا تتجاوز عملية إعادة تدوير الهيمنة كما يبرز في هذا المقام. المثال الأوضح على ذلك في جنوب أفريقيا الراهنة مع قرب اكتمال العقد الثالث للتحول الديموقراطي بعد القضاء على النظام العنصري 1993-1994 دون تحقيق التحول المنشود، رغم زخم وتنوع حركة التحرر تاريخياً وحركياً، ومن أبرزها تجسيداً لتطلعات الشباب الأفريقي حينذاك حركة الوعي الأسود وزعيمها الشاب ستيف بيكو.

رسالة الثورة ضدّ «الثورة المضادة»
ظهر ستيف بيكو (1946- أيلول 1977) كصوت شاب «مثالي» ومتفرد واضح الملامح فكرياً وحركياً، وسط حركة تحرر أفريقي منقسمة على نفسها وفق اعتبارات إيديولوجية وقبلية وطبقية، وما ارتبط بها أحياناً من مصالح تكريس الهيمنة وأدوات العنصرية وإن بصور غير واعية في بعض الأحيان، داعياً، وسط تصاعد غضب عمّالي وطالبيّ منفصل نسبياً عن القيادة التاريخية لحزب المؤتمر الوطني بزعامة أوليفر تامبو بعد رحيل ألبرت لوتولي (رئيس المؤتمر الأفريقي 1952-1967)، إلى تجاوز هذه الاعتبارات كلية واعتبار أن الأسود (في جنوب أفريقيا) يعني الإنسان المقهور، وأن (هوية) «العرق» race تكون عبر تجربة تاريخية من القمع في سياق خاص. واستطاع بيكو، بجرأة بالغة، أن يزعزع النهج التوافقي الذي لجأت إليه نخبة «التحرر الوطني»، بداية من تصورات «رسولية مقدسة» قحّة تشرّبها لوتولي وعبّر عنها في عام 1960، الذي شهد نيله جائزة نوبل للسلام، بتأكيده استسلام الكنائس (دون فصل بين الأوروبية والأفريقية) للدولة العلمانية لوقت طويل للغاية، بل إن بعضها دعم الأبارتهايد. «ولم يفُت الوقت بعد على المسيحيين البيض للنظر في أناجيلهم وإعادة تحديد إيمانهم. إنني أحذّر من يعنون بالمسيحية، ومن يعنون بأن يجوبوا العالم ويبشّرون بالإنجيل، أن الفرصة في جنوب أفريقيا تبلغ (حتى الآن) 300 عام، وأنها لن تستمر إلى الأبد. إن الوقت ينفد».
واستغرقت لوتولي هذه التصورات في مؤلفه الشهير Let My People Go (1962) بتناص توراتي مألوف يشبّه تجربة السود في جنوب أفريقيا بتجربة «خروج» اليهود من مصر حسب النصوص المقدّسة، وبداية من اقتباس عنوان مؤلفه «أطلق شعبي (ليعيدوا لي في البرية)» (خروج 5: 1) وحتى إخلاصه -الذي لا يبارى بين نخبته- لدمج القيم المسيحية في النضال ضد العنصرية وغضّ الطرف عمّا لاحظه بيكو لاحقاً من تزييف الوعي «اللاهوتي العنصري»، وملاحظته الدالة سياسياً بعد أحداث سويتو 1976: «لطالما انفرد الربّ الأبيض بالحديث...»، ولقد جاء الوقت «الذي سيرفع فيه الرب الأسود صوته ويفرض على الجميع سماعه ويطغى على ضوضاء غريمه». واعتبر بيكو ضمنياً أن «كنائس السود» كانت في جوهرها واجهة سوداء بقيادة بيضاء حسب مبادئها وممارساتها وتطلعاتها، وهو نقد حاد للغاية ثبت لاحقاً -خاصة في مفاوضات التحول الديموقراطي نهاية الثمانينيات- صوابه رغم جهود محافل الكنائس الأوروبية والأميركية للتدليل على نقيض ذلك في السنوات التالية وانخراط هذه الكنائس في فرض تسوية لم ترقَ فعلياً إلى نضال أفارقة جنوب أفريقيا.
مثّل بيكو وحركة الوعي الأسود، كما رصد نايجل غيبسون في دراسة موجزة (1988)، جانباً مهماً من مرحلة جديدة في ثورة جنوب أفريقيا في عقد السبعينيات


وبشكل عام، فقد مثّل بيكو وحركة الوعي الأسود، كما رصد نايجل غيبسون في دراسة موجزة (1988)، جانباً مهماً من مرحلة جديدة في ثورة جنوب أفريقيا في عقد السبعينيات، ولا سيما أنها تكوّنت بالأساس من شباب سود تلقوا تعليماً جامعياً في كليات أسستها الحكومة العنصرية للسيطرة على عقولهم، بالتلاقي مع رؤية مؤسسي الحركة لأهمية عقل المقهورين. ويمكن القول إن عنوانها الرئيس كان ما ورد في مؤتمرها الافتتاحي في عام 1969 من تأكيد أعلى أن كلمة أسود تعني شعوراً جديداً بوحدة المقهورين وتحررهم، وتجاهل مصطلح «غير البيض» الذي عدّوه (مؤسسو الحركة الشباب) انتقاصاً من كينونتهم.
كما تبنّى بيكو، الذي وجد تفسيراً متسقاً مع مصالح بني وطنه لمواجهة العنصرية، أفكاراً تحررية تقاربت كثيراً مع الماركسية (بنسختها لدى فرانز فانون إن جاز التعبير) من جهة التأكيد المطلق على محورية دور الإنسان في النضال من أجل حريته، وبوعي أكبر من زملائه الذين تبنوا بعده أفكار «لاهوت التحرير الأسود» وفسروا تفسيرات الماركسية على تأكيد النزعة الإنسانية لدى ماركس، وحولوا اللاهوت الأسود إلى «سلاح نظري في أيدي المقهورين»، في تخفيف للأسس الطبقية للنضال التي عوّل عليها بيكو دائماً. ويمكن القول إن بيكو وحده واجه ثورة مضادة، بتعريفها المبسط كحركة لمواجهة التوجهات الثورية «الأصيلة»، من النظام العنصري، وجرت مقاربات الحركة الوطنية بقيادة حزب المؤتمر الوطني ودعم نقابي كبير بقيادة الزعيم النقابي البارز منذ مطلع الثمانينيات سيريل رامافوسا، الرئيس الحالي لجنوب أفريقيا ورفيق بيكو الإيديولوجي حتى حين.

«أيها الإنسان الأسود، أنت وحدك»
بدت اللحظات الأخيرة في حياة المناضل الشاب ستيف بيكو بعد اعتقاله عند حاجز مروري في 21 آب 1977 مروعة، إذ تكشّفت رويداً رويداً تفاصيلها بعد أعوام من مصرعه ومعاناته، ولا سيما بعد اعتراف أربعة ضباط من الأفريكانر Afrikaners (ذوي الأصول الهولندية) في مطلع عام 1997 بقتله وتقديم تفاصيل وملابسات الحادث. بأي حال، فقد تعرّض بيكو لتعذيب منهجي منذ اعتقاله بتهمة التخريب. وجاء التشخيص الطبي في صباح 7 أيلول 1977 لمعاينة «إصابات خطيرة في المخ» مضطرباً أيما اضطراب، رغم ما صرّح به د. لانج إثر معاينته منفرداً بيكو في مقر شرطة في بورت إليزابيث بأنه ليست ثمة أدلة على «عدم اعتيادية صحة المعتقل العامة». وجاء في تقرير طبي ثلاثي (ضم د. لانج، وكلاً من د. توكر، كبير جراحي المقاطعة، والطبيب المتخصص د. هيرش، وأُلحق لاحقاً بأوراق قضية وفاة بيكو المعروفة بقضية فيريافا Veriava) ملاحظة مستوى ضعيف من الوعي، وضعف في الساق والذراع اليسريين وثقل في الكلام. ورغم تفاصيل التقرير التي أشارت في مجملها إلى جلطة دماغية يقاومها جسد شاب، فإن بيكو لم يحظَ بعلاج طبي، وتدهورت حالة بيكو في 11 أيلول، حيث لاحظ د. توكر عند فحصه أنه يعاني من زيادة في التنفس وترغية عند الفم. ورغم وجود مستشفيات جيدة في بورت إليزابيث، أصرت قوات الشرطة على نقل بيكو إلى أحد مستشفيات السجون وكان أقربها في بريتوريا على بعد 700 ميل. ووافق د. توكر (الذي أفاد بشهادات مغايرة لاحقاً) على نقل بيكو على متن «لاندروفر» غير مجهزة طبياً، وتم حمل بيكو في 12 أيلول «وهو في حالة حرجة» (وعارياً كما روي لاحقاً وفي وقت يبلغ فيه متوسط درجة الحرارة الصغرى 12 درجة مئوية أو أقل) في رحلة شاقة، أو إعدام بطيء، تحمّلها بشق الأنفس التي لفظ آخرها عند وصوله إلى بريتوريا وإيداعه زنزانة جديدة.
وكما رفع بيكو، بنقاء ثوري واضح، شعار أن الإنسان الأسود يقف فعلياً بمفرده «Black man, you are on your own» وأن عليه النضال «وحده» لتحقيق حريته، فإن أيامه الأخيرة جسّدت أكثر من غيرها واقعية هذا الشعار، فقد شهد النضال الوطني في جنوب أفريقيا بعد عام 1976 مع تراجع حضور عماد هذه الحركة، المؤتمر الوطني الأفريقي، مقابل هبة عمالية وطالبيّة استمرت لأشهر طويلة، عمّقت من آلام الاقتصاد العنصري الذي كان يعاني بالفعل من كساد طويل أشبه بالكساد العالمي الكبير، وأدوار فعالة للنقابات والاتحادات الطالبيّة وصلت بالمطالب الوطنية إلى مستويات جديدة لم تدر في خَلد قيادات المؤتمر الوطني التقليدية بنيل حزمة من الحقوق.

رامافوسا وبيكو: أضغاث «حلم الإنسانية الحقة»
رثا الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوسا، في أيلول الفائت، بيكو لمناسبة ذكرى مصرعه الـ45 «المأساوي، وحيداً على سجادة بالية على أرضية صخرية في زنزانة سجن». وربط الرثاء، على نحو غائي ومصطنع، بالانتقادات الموجهة إلى نظامه وسط الشباب الجنوب أفريقي بتأكيده أنه بعد مرور 28 عاماً على الديموقراطية في جنوب أفريقيا «فإننا نواجه العديد من التحديات مثل الفقر والبطالة والتفاوت. ونتيجة لذلك، نفقد رؤية كيف وصلنا إلى تطبيق المبادئ التي تأسس حولها دستورنا، والتي دارت حول أفكار بيكو وتعاليمه».
وفي واقع الأمر، فإن الرثاء استعاد خطاب رامافوسا النقابي، حيث عمل في السبعينيات والثمانينيات نقابياً بارزاً قبل زواجه من تشيبو موتسيبي ابنة البليونير والزعيم القبلي الزولوي أوغستين موتسيبي وشقيقة باتريس موتسيبي (أغنى رجل أسود في جنوب أفريقيا) في عام 1996، مؤكداً: «علينا تذكر دعوته (بيكو) القوية للشعب ليكون هو من يصوغ تحرره، إن هذه الدعوة هامة الآن كما كانت في وقتها».
غير أن الرثاء يستدعي مفارقات محيرة؛ إذ إنه بينما كانت تعاليم بيكو تصاغ على نحو واضح بتأثير من أساتذته في نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، كان رامافوسا، ابن ضابط الشرطة الأفريقي البسيط صمويل رامافوسا، ينهي مرحلته الثانوية في سويتو (التي ولد فيها عام 1952) وانتُخب في مطلع السبعينيات رئيساً للحركة المسيحية الطالبيّة (وظل مخلصاً لتعاليمها)، ودرس القانون في جامعة نورث المخصصة للسود في شمالي الترانسفال. ولاحظ المؤرخ البارز توم لودج تمثيله لجيل جديد من قيادات المؤتمر الوطني الأفريقي باعتباره «ابن الأبارتهايد» بامتياز وليس ابناً لنخبة أفريقية. لكن دراسته الجامعية تعطلت بسبب مشاركته في حركة الوعي الأسود، حيث ترأّس باسمها فرع الجامعة للمنظمة الطالبية الجنوب أفريقية SASO، واعتُقل لمدة 11 شهراً في عام 1974 عقب ترتيبه مسيرة مؤيدة لجبهة التحرير الموزمبيقية «فريليمو»، وتوصل خلال احتجازه (حسبما أعلن مطلع التسعينيات في خضم عملية التحول الديموقراطي) إلى خلاصة أن إيديولوجية «الوعي الأسود»، باعتمادها على التحليل الطبقي وعدائها للراديكاليين البيض، قد اكتمل دورها تماماً وأنه «لا يمكنها أخذنا إلى نقطة متقدمة».
وجاء التحول الدراماتيكي في مسار رامافوسا عقب انتفاضة طلاب المدارس في عام 1976 واعتقاله لمدة ستة أشهر أخرى اضطر والده بعدها للاستقالة من الشرطة، فيما استكمل رامافوسا دراسته القانون بالمراسلة، وانضم بعدها إلى القسم القانوني بمجلس نقابات جنوب أفريقيا CUSA الذي ظهر في ذلك الوقت منافساً قوياً لاتحاد النقابات الجنوب أفريقية FOSATU الذي كان يمثّل خط العمّال السود المستند إلى أفكار الوعي الأسود باستبعاد البيض من مناصبه القيادية. وساهم رامافوسا بقوة في تأسيس الاتحاد الوطني لعمال المناجم NUM (1982) وتولى أمانته العامة للاستفادة من تشريعات علاقات العمل الصناعية التي طورت العمل النقابي في جنوب أفريقيا بعد فترة الكساد الاقتصادي المؤثرة في السبعينيات والتي كادت تقضي على نظام الأبارتهايد واقتصر تأثيرها على خلخلته بشكل واضح في العقد التالي.
وقاد رامافوسا، في نكوص عن مبادئ بيكو ووعيه الأسود ونضال العمال والطلاب الجنوب أفارقة، توجهاً «مستنيراً» داخل الدوائر العليا لعملاق التعدين الأنغلو-أميركي في البلاد، وقاد عملاً نقابياً ميدانياً متميزاً دفعه في عام 1985 للانفصال بالاتحاد الوطني عن مجلس النقابات للانضمام إلى مؤتمر لنقابات الجنوب أفريقية COSATU حديث التأسيس والموالي لأفكار المؤتمر الوطني الأفريقي «التوافقية» مع النظام العنصري، والذي انضم إليه رامفاوسا لاحقاً في عام 1986 مع احتفاظه بتوجهات سياسية ناقدة للمؤتمر كما في انتقاده الشهير لـ«ميثاق الحرية» باعتباره برنامجاً مرحلياً انتهى وقته، ثم توقيعه على عريضة (1989) تدين ويني مانديلا بتهمة قتلها طفلاً اختطفه حراسها، وإن تولى في العام التالي، بعد نجاحه في إحكام قيادته داخل أبنية تأييد المؤتمر الوطني الأفريقي البالغة التعقيد حينذاك، منصبَ الناطق الرئيس باسم لجنة الاستقبال الوطني المكونة عند خروج نيلسون مانديلا من السجن في عام 1990.
وتزامن مطلع التسعينيات مع الانتقال التدريجي لرامافوسا من طوابير العمال السود الكادحين، الذين مثّلوا القاعدة الانتخابية الأكبر لنجاح المؤتمر الوطني الأفريقي وحلفائه في الفوز في انتخابات الانتقال الديموقراطي 1994، إلى صفوف نخبة رجال الأعمال والسماسرة، السود والبيض على حد سواء، وإن ظلت قدراته القيادية حاسمة في شعبيته حتى انتخابه رئيساً للبلاد، فيما يواجه راهناً، وقد دخل عقده الثامن منتصف تشرين الثاني، تهماً عدة، حتى من قبل رؤساء ومسؤولين كبار سابقين بالمؤتمر الوطني والمعارضة، بالفساد والوصول إلى منصب الرئاسة عبر ديناميات الفساد المؤسساتي والمال السياسي.
ولا يمكن فهم «رثاء» رامافوسا لبيكو إلا في سياق محدد ووحيد، وبات تقليداً سياسياً أفريقياً بامتياز، وهو توظيف «ورقة» أفكار بيكو الثورية والتحررية، التي أعلن الأوّل قبل أربعين عاماً تقريباً عدم قناعته بجدواها الثورية، في الحفاظ على قاعدة شعبيته وسط العمال والفقراء السود الذين ازداد تهميشهم السياسي وقصر دورهم على كونهم «أداة رقمية» في الديموقراطية الجنوب أفريقية التي تقترب من إكمال عقدها الثالث.

خلاصة
يبدو واقعياً تماماً، وبمؤشرات تاريخية صادمة وواضحة للغاية من تجربة ستيف بيكو، ملاحظة أن الوعي الثوري في أفريقيا واجه طوال العقود الفائتة تحديات من داخل صفوف «القوى الوطنية» عوضاً عن المستعمر أو شبكات مصالحه في المتروبول أو الأطراف. ومن أبرز هذه التحديات، نجاح نخب قادت بلادها في فترات تحوّل مهمّة عقب الاستقلال أو مواجهة النظم العنصرية في فرض نسق قيمي خاص بها وبتفسيراتها للتحرر ورؤيتها التدريجية أو التوافقية مدعومة بتناص لاهوتي-ثوري ربما لا يفارق حدود الهيمنة العنصرية إلا قليلاً أو يعيد إنتاج تصوراتها مرحلياً (من بين تكتيكات الثورة المضادة) لتجاوز الحالة الثورية المنطقية وتهديداتها؛ وهي هنا عقد السبعينيات في جنوب أفريقيا بزخمه الثوري العمالي والطالبيّ الذي كان يبشر وقتها بسقوط النظام العنصري قبل قرابة عقدين من عام 1993-1994. وهي تجربة ربما تواجه مجمل وعي الشباب الأفريقي في الوقت الراهن وقابلة للتكرار حتى في ذروة الجماح الثوري في بؤر أفريقية متنوعة ولاعتبارات كثيرة ليس أقلها عجز «النقاء الثوري» عن تجاوز توجهات «النخب الوطنية» القائمة عضوياً على أجواء المجتمعات الكولونيالية، والمتدثّرة بمسحة دينية «تبريرية» ومفصّلة لهوى هذه النخب.

* باحث مصري متخصّص في الشؤون الأفريقية