في ندوة فكريّة هامّة شارك فيها عشرات المثقفين العرب، في دار الندوة - بيروت (آذار 1968) للبحث في أسباب ونتائج الهزيمة عام 1967، وقف ممثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الشاب الصحافي غسّان كنفاني، وقدَّم رؤية نقدية عميقة وشاملة حول دور الأحزاب العربيّة في صناعة الهزيمة، وكيف ساهمت الحالة المتردية الداخلية لأحزابنا في كارثة حزيران. كانت كلمة كنفاني تصوّب سهامها إلى واقع أحزاب الأمة في تياراتها المتعددة، وتفضح حالة العطب التي أصابتها والتي كشفتها مأساة وكارثة 5 يونيو حزيران 1967. (ملاحظة: لو عاد الشهيد كنفاني وألقى كلمته تلك عن الأحزاب الفلسطينية والعربية اليوم وبخاصة تلك التي ولدت بعد عام 1967 فلن يضطر إلى تغيير حرف واحد من كلمته. بل وقد يكتشف أن حالها صار أسوأ من حال أحزاب ما قبل النكسة). ومن يُطالع حال الأحزاب القوميّة واليساريّة، في بلد مثل الأردن مثلاً، يجد أن واقعها الراهن لا يسرّ صديقاً ولا يُغيظ عدوّاً. مجموعات مبعثرة هامشيّة ومُفككة بلا بوصلة أو مشروع وطني تحرّري أو رؤية جادة للتغيير الجذري في الأردن. بل إن مكاتبها تستقبلك وقد رفعت صورة «جلالته» وأحفاده. هذا المشهد الحزين لم يكن واقعها دائماً، حين كانت تمارس النضال الثوري السرّي، تواجه الهزيمة وتعتبر نفسها جزءاً لا يتجزأ من حركة التحرر العربية الساعية إلى تحرير فلسطين وإقامة نظام ديموقراطي ثوري واشتراكي جديد.
كان للأحزاب القومية واليسارية رؤية سياسية وحاضنة شعبية، أمّا اليوم، فحال أحزابنا في الأردن يُشبه مثيلاتها في الملكيات والجمهوريات العربية كافة، لا أحد يجرؤ على قول ربع ما كان يقوله قبل عام 1990، قبل انهيار الاتحاد السوفياتي ودخولنا عصر «الانفتاح» و«الديموقراطية» و«الانتخابات» و«التنمية المستدامة» واجترارنا لمقولات ما بعد «معاهدات السلام»! وفي بعض البلدان العربية لن تحصد كل هذه الأحزاب مجتمعة على مقعد واحد في «انتخابات لممثلي الأمة» سواء كانت انتخابات حرة نزيهة أو مزوّرة. الأمر سيان.
لماذا الأردن؟ لم لا؟ أو لا لشيء مُحدد تماماً. ربما لأنه بلد «صغير» يعكس صورة الوطن العربي الكبير؟ ويخضع للاستعمار العسكري الأميركي المُباشر. القواعد الأميركية وسفارة واشنطن في عمّان لا ترعى مصالح قواتها وعملائها في «البلد» وحسب بل في المنطقة كلّها.
يُفاخر نظام الملك عبد الله الثاني أنه يملك «علاقات استراتيجية» مع واشنطن ولندن وباريس، ويحترم اتفاقياته الأمنية مع عواصم الاستعمار. كما يُفاخر بدوره في «محاربة الإرهاب» وعلاقته المستقرة مع تل أبيب وشقيقه الأكبر نظام كامب ديفيد في القاهرة. هذا كله معروف، إنما نسوّقه هنا لنسأل: وماذا تفعل الأحزاب القومية والتقدمية واليسارية إزاء هذا الواقع؟ وكيف تناضل هذه القوى في بلد مستعمر أصبح يرزح بالكامل تحت عجلة الاستعمار الأميركي والأجنبي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً؟ بلد مستعمر يعني بلداً فيه فائض كبير من الجوع والفقر والفساد والمرض.
يذكرنا د. مازن حنا، الباحث والطبيب، في ندوة بعنوان «الحزب بين الثوري والإصلاحي غاية أم وسيلة؟» نظّمها «مركز الفينيق العربي» في عمّان، ويقول ما هو بديهي وهام: على الحزب (الثوري) أن يمتلك برنامجاً يسعى إلى تحقيقه، مهاماً نضالية يضعها أمام الجماهير ويناضل من أجل المستقبل، وحين يختفي هذا يصبح برنامج الحزب عبئاً عليه، لا يكسب جماهير بل يخسر ما لديه ويضمحل، تتحول مهمة أعضائه - الوحيدة – الحفاظ على اسم الحزب، يتحول الحزب بدوره إلى صنم، الإبقاء على اسمه هو الهدف الوحيد، ولو يافطة مُعلّقة على جدار حيث يجلس أربعة أو خمسة أشخاص في مكتب يستأجرونه، وينكفئ الحزب على ذاته، هكذا يضمحل، وهذا هو الوضع الأمثل بالنسبة إلى الدولة.
أمّا عن القوى «الاشتراكية» و«الشيوعية» فحدّث ولا حرج. نصفها منظمات «غير حكومية» والواقع أنها حكومية جداً، وليبرالية جداً


أين ذهبت تلك القوى الثورية العربية في منطقة الخليج العربي التي كانت تُهدد منابع النفط وإمارات القمع والسجون؟ وكيف غابت القوى المنظّمة التي تعمل على نشر ثقافة وطنية مغايرة تبشّر بالوحدة والثورة؟ كيف اختفت الجبهة الشعبية لتحرير إقليم ظفار، والجبهة الشعبية لتحرير البحرين، والأحزاب والقوى المناضلة في شبه الجزيرة العربية؟ اليوم يوجد في مصر المحروسة عشرة أحزاب تدّعي بأنها الممثل الشرعي الوحيد لفكر ونهج جمال عبد الناصر... وناصر منها براء. وفي بلد عربي واحد يوجد أكثر من عشرة أحزاب تدّعي أنها تسعى إلى إقامة الديموقراطية والتنمية وهي عبء على الديموقراطية، والتنمية منها براء. أمّا عن القوى «الاشتراكية» و«الشيوعية» فحدّث ولا حرج. نصفها منظمات «غير حكومية» والواقع أنها حكومية جداً، وليبرالية جداً، تخلط عن عمد بين مفهوم اليسار الثوري وبين «منظمات حقوق الإنسان»!
يقول غسّان كنفاني عن معضلة الأحزاب التي كانت جزءاً من أسباب الهزيمة عام 1967:
«إنّ المعاني التي تحملها اصطلاحات مثل الثورية والناصرية والاشتراكية والعدالة والديموقراطية والحرية لا حصر لها في الكتابات التي نطالعها كل يوم، ولذلك فإنه يبدو من مجرّد رصد هذه الكلمات ومصادرها أن جميع الأطراف متفقة تماماً على كل شيء، وما يثير الدهشة أن أحداً غير متفق عملياً مع الآخر! يبدو أننا في حاجة ماسّة إلى إعادة القيمة للكلمات كتعاريف محددة تعني شيئاً مُتفقاً عليه، وهي خطوة كانت لازمة لجميع شعوب العالم في أواخر القرن التاسع عشر وهي على عتبة انطلاقها نحو العصر. لقد باتت الاصطلاحات مجرد اغتراب وأدى هذا الصمم المتبادل إلى انعدام في قيمة الحوار».
ومن المتعذّر أن تجد اليوم في بلد عربي جبهة وطنية عريضة وموحدة تضُم «القوى اليسارية» على الأقل، أو تلك التي تنشد التغيير والتنمية و«الحرية» و«المساواة»! فحالة التمزق والشلل والعطب أصابت الجميع تقريباً، أحزاب ما قبل وما بعد النكبة والنكسة. لن تجد هذه الجبهة الوطنية الموحدة حتى داخل فلسطين المحتلة. فكل ما يفعله بنا العدو الصهيوني وما تفعله الإمبريالية وسلطة أوسلو العميلة لا يكفي لتحقيق وحدة اليسار الفلسطيني، أو وحدة القوى الوطنية على اختلاف مشاربها في جبهة وطنية للمقاومة والتحرير! إذا كان هذا هو واقع الحال في فلسطين لك أن تتصور حال «الوحدة الوطنية» في أي بلد عربي آخر.
ومن المفيد أن نشير هنا إلى تجارب أحزاب وحركات تحرر عربية خاضت معارك وقدّمت تضحيات كبرى في مواجهة الاستعمار وانتصرت عليه، هذه مسألة جديرة بالتأمل في عصرنا الرّاهن، لأسباب كثيرة معروفة، على رأسها: لماذا لم تحقق هذه الحركات الوطنية، التي انتصرت وتسلّمت مقاليد السلطة، شروط الاستقلال الوطني الناجز داخل وطنها القطري؟ لماذا لم تحصد الجماهير الشعبية ثمرة هذه الانتصارات التي صنعتها الشعوب بالدم والعذاب؟
إنّ أي قراءة صحيحة لتجربة حركة التحرر العربية سوف تساعدنا على معاينة فشل قيادة الأحزاب والقوى الوطنية في حماية إنجازات الشعب وتبديدها، شرط أن تكون قراءة نقدية ثورية، تعقد مصالحة مع التاريخ والحقائق الباردة أولاً، من باب النقد الذاتي العلني وقول الحقيقة. فالغوص في تاريخ حركات التحرر العربية التي كانت في يوم مضى أملاً وخلاصاً للشعوب في بناء مجتمع عربي ديموقراطي وبديل يجب أن يدفعنا إلى البحث في مآلاتها ومصيرها بعد أن تخلت عن دورها وأصبحت، في معظمها، أحزاباً ومعارضاتٍ شكلية مُدجّنة تتلطّى في عباءة السلطة. بعضها صار أداة للسلطة. بل صار السلطة.
الخوض في هذا العنوان الكبير يدعونا مُجدداً إلى دراسة الواقع العربي في أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية وغيرها خلال العقود الستة الأخيرة التي أعقبت هزيمة وعدوان حزيران 1967 وفي القلب منها مطحنة الدم في السنوات العشر الأخيرة، وما جرى من تعميق لواقع التجزئة وتراجع اليسار والقوى التقدمية تحديداً وتقاعسها عن مجابهة المشروع الإمبريالي الصهيوني الرجعي، ومشاركة بعضها في هذا التمزق الطائفي والمذهبي في العالمين العربي والإسلامي.
تراجع حركات التحرر الوطنية واغترابها الهويّاتي الفكري وأفولها عن المشهد النضالي، وعدم تلمس عذابات الجماهير والدفاع عن حقوق الناس، وعجزها عن تحديد معسكر العدو ومعسكر الصديق، وتراجع البرامج النضالية المرتبطة بمواجهة الحركة الصهيونية والرجعيات العربية، واختلاط الأولويات الوطنية، وغيرها من أسباب، فتحت المجال واسعاً أمام تردي الأوضاع العربية أكثر، فكان من الطبيعي أن نشهد ما شهدناه في العشرية الأخيرة من جحيم، ومعادلات جاهزة للتدمير الذاتي. وفي ظل غياب سلاح عربي بوصلته فلسطين، وهدفه تحريرها، كان من الطبيعي أن تولد «داعش» وأخواتها وتجر معها 100 ألف شاب عربي سيقاتلون العدو الخطأ في المعركة الخطأ في الميدان الخطأ. لم نعثر على صوت يشبه صوت كنفاني، يدلنا على الطريق، أو صوت يشبه فتحي الشقاقي الذي قال «الجهاد الإسلامي في فلسطين».
التاريخ النضاليّ المُشرّف لأي حزب ثوري عربي لا يكفي وحده حتى نُجيب على أسئلة الراهن الصعبة والمركبة، فالجماهير تريد أن تعرف واقعك وحالك اليوم. ولن يكون في وسع هذا التاريخ، مهما كان عظيماً مشرفاً، أن يُخفي ضعف الحزب وواقعه الرديء. هناك أحزاب يمكن إصلاحها، هناك أحزاب وقوى وتيارات وقيادات شاخت، وأخرى صار يجب أن تولد من جديد في كل أرجاء الوطن العربي المحتل من المحيط إلى الخليج.
إذا كان من واجبنا التعريف بنضالات وتاريخ الثوار والشهداء، والأسرى الذين صمدوا في السجون، والتعريف بتاريخ الحركة الوطنية المصرية والمغربية والتونسية والأردنية والسورية، وتضحيات شعب الجزائر وما قدمته حركات التحرر من مساهمة في حماية شعوبها وثرواتها، فإن هذا الواجب نفسه يدعو إلى البناء على هذا النضال بالمزيد من النضال والمزيد من التجديد ومواكبة العصر، وفي مسار ثوري عربي جديد يسير نحو المستقبل، تكون أولى مهامه: مواجهة الاستعمار الصهيوني والأجنبي والأنظمة العميلة وإعادة الاعتبار لحركة التحرر العربية ودورها التحرري في شقّيه الوطني والاجتماعي.

* كاتب فلسطيني