تشير عبارة «الانشقاق الكبير» في المسيحيّة إلى أوّل انشقاق حصل في الكنيسة عام 1054 بين شقّ غربيّ (الكنيسة الكاثوليكيّة) وشقّ شرقيّ (الكنيسة الأرثوذكسيّة). لكن هذا الانشقاق، كما الانشقاقات التي تبعته (كاثوليك - بروتستانت) أو سبقته، على أهمّيتها الإيمانيّة، ليست هي الأكثر إثارة للرعدة. فإن عدنا إلى الإيمان المسيحيّ بأنّ المسيحيّين هم «جسد» المسيح، وإلى أنّ المسيح قال إنّ وجه كلّ إنسان جائع، أو عطشان، أو عريان، أو مريض، أو سجين، أو غريب، أي كلّ إنسان مُستضعف هو وجهه، فهذا يدلّنا بشكل لا لُبس فيه على أنّ الانشقاق الكبير الجذريّ الآخر في الكنيسة هو ذاك الانشقاق الوجوديّ القائم بين العقيدة والممارسة.
يسمّي المسيحيّون بعض ممارساتهم الطقسيّة بالأسرار، ليس بمعنى الأمور السرّية، وإنّما بمعنى الأمور التي يتمّمها الله دون قدرة لنا على الإحاطة بها. في القرن الرابع للميلاد، نبّه يوحنّا الذهبيّ الفم المسيحيّين من فداحة هذا الانشقاق بالذات، فقال في إحدى عظاته «إنّك تحترم هذا المذبح حينما ينزل عليه جسم المسيح، ولكنّك تهمل وتبقى غير مبالٍ حينما يفنى ذاك الذي هو جسم المسيح»، أي تهمل الفقير المستَضعف. بتلك الكلمات، بيّن يوحنّا فداحة الانشقاق الحاصل عندما يحترم الإنسان المظهر الطقسيّ للإيمان وينسى جوهره شخص يسوع الذي هو عماد الطقوس ومعناها وغايتها. إنّ «سرّ» الآخر هو غاية «سرّ» المذبح في المسيحيّة. قد يجتمع الناس على عقيدة وبذلك يتمايزون عن أناس آخرين اجتمعوا على عقيدة أخرى، لكن يجب ألّا ينسوا أنّ عقيدتهم نفسها تدلّهم أنّ غاية الاجتماع هي الآخر، ليس الآخر «القريب» ولكن بالضبط «الغريب»، فغاية الاجتماع هي المشاركة وليس الانفصال؛ هي مشاركة خيرات الأرض الموهوبة مجاناً من الله للجميع، وليس الاستيلاء عليها؛ هي عدالة اقتصاديّة اجتماعيّة للناس في الدولة الواحدة، لا السطو الطائفيّ على ثروات البلاد. الانشقاق الكبير في الممارسة لا يقلّ أهمّية عن الانشقاق في العقيدة، فبدونه كلّ سلامة عقيديّة تبقى خالية من معناها الملموس، لأنّها غير مترجمة أفعالاً وسياسات «من أجل حياة العالم».
الأوائل الذين فهموا كلام يسوع، فهموه ضرورة مشاركة في الخيرات. ولكنّهم استندوا إلى اعتقاد اجتماعيّ، شائع حتّى يومنا هذا، بأنّ كلّ ما يحدث في هذا العالم يسبّبه الله، ومن هذه الأمور الفقر والغنى. لذلك وإن أدانوا بكلام لا يُهادن عدم المشاركة، وشبّهوه بالسطو، فهم بقوا في ميدان ضرورة مشاركة الخيرات طوعاً لا قسراً. لكن في يومنا، نحن نعرف معرفة علميّة دقيقة ليس فقط أنّ الفقر هو نتيجة سياسات مرسومة ومقصودة (مَن كان لا يريد أن يصدّق هذا الكلام في الماضي فلينظر حوله إلى ما أدّت وتؤدّي إليه سياسات الحكّام والمصارف والمصرف المركزي من فقر)، وإنّما أنّ المرض أيضاً هو نتيجة سياسات مقصودة وليس فقط نتيجة وجود فيروسات وبكتيريا، فكمّية المال التي لديك تحدّد أين تسكن (في مكان صحّي أو غير صحّي، قرب معامل تلوّث الهواء دون رادع بسبب سياسات الدولة)، ومتى تتطبّب وتتطبّب أولادك أو أهلك (عندما تشعر بوعكة، أو تنتظر حتّى لا يمكنك الاحتمال ويكون قد تمكّن المرض منك)، وإن كنت تستطيع أن تشتري دواء أو لا. لكن قلّة كمّية المال التي تمتلكها (أو يمكنك الحصول عليها من مصرفك) هي نتيجة وجود سياسات واعية تهدف إلى اغتناء فئة محدّدة، ما يتسبّب بموت فئة أخرى، وبقاء فئة ثالثة على قيد الحياة وقدر من البحبوحة كافية لتستمرّ في خدمة غاية الفئة الأولى: السطو على الثروة.
لذلك فإنّ ترجمة «سرّ» الآخر اليوم لا تكون فقط بالوعظ وبالدعوة للمشاركة طوعاً، وإنّما بالدعوة والعمل لفرض المشاركة قسراً، بالضغط الشعبيّ. قد يكون الفرض غير متاح اليوم بسبب تمكّن اللصوص من حيازة أدوات القتل، ولكن لا مجال آخر للتغير إلّا بالاستمرار في الإعداد لليوم الذي يمكن فيه فرض المشاركة فرضاً بسياساتٍ اقتصاديّة - اجتماعيّة.
هنا، هذا الميدان وليس في ميدان السطو الطائفيّ الذي يُفني المُستضعف الذي هو جسم المسيح، يمكن لمن آمنوا بالمسيح أن يحقّقوا غاية عقيدتهم في الحياة الجماعيّة، وأن يتجاوزوا تجربة الانشقاق الوجوديّ بين سرّ الأخ وسرّ المذبح، ليتشاركوا خبز الأخوّة البشريّة مع الجميع، فهي أيضاً «خبزٌ نازلٌ من السماء»، وبها يصير الجميع واحداً، جسداً سرّياً للمسيح.

* كاتب وأستاذ جامعي