كشفت الأزمة النقدية الأخيرة في العراق -والتي اهتز خلالها الدينار العراقي اهتزازاً شديداً فتراجع أمام الدولار الأميركي ليسجل قرابة ألف وستمئة دينار مقابل الدولار الواحد خلال أيام قليلة، وهو رقم لم يصل إليه منذ 18 عاماً- عن أمور خطرة كثيرة، قد لا تكون جديدة ومفاجئة على أيّ حال ولكنها معبّرة جداً، وفي مقدمتها حقيقة ارتهان العراق الشامل؛ سياسياً واقتصادياً وأمنياً لدولة الاحتلال الولايات المتحدة الأميركية ولحلفائها الغربيين وتفاقم نفوذ وتدخلات دول الجوار في شؤونه الداخلية.
تبريرات حكومية
في البداية، حاولت السلطات العراقية التقليل من خطورة هذا الحدث النقدي بعزوه إلى عوامل تقنية ولوجستية مالية؛ فقد أعلنت رابطة المصارف العراقية في بيان غامض أن ارتفاع سعر الصرف ناتج «عن تعديل آلية عمل نافذة بيع العملة الأجنبية في البنك المركزي العراقي حسب متطلبات التعاملات الدولية». أمّا البنك المركزي العراقي فأعلن أن هذا الارتفاع في سعر صرف الدولار ناجم عن «ضغوطات مؤقتة ناتجة عن عوامل داخلية وخارجية، نظراً إلى اعتماد آليات لحماية القطاع المصرفي والزبائن والنظام المالي». وسائل إعلام غربية وأميركية أشارت بوضوح إلى مسؤولية واشنطن والبنك الفيدرالي الأميركي تحديداً عن هذا التدهور الذي أصاب الدينار العراقي وكونها أقدمت على عرقلة حصول العراق على عائداته النفطية السائلة بالدولار معلّلة ذلك بتهريب جهات عراقية أموالاً طائلة بالدولار إلى إيران وسوريا الخاضعتين لعقوبات أميركية.
لقد انعكس عدم استقرار سعر الصرف وتراجع قيمة الدينار أمام الدولار سريعاً على الوضع الاقتصادي، فالتهبت أسعار المواد الاستهلاكية وسُجل مستوى ركود اقتصادي واضح، وهذا ما أحرج حكومة السيد محمد شياع السوداني المدعومة من قبل «الإطار التنسيقي» الذي يضم الأحزاب والفصائل المسلحة الإسلامية الشيعية وحلفاءها من الأحزاب الكردية والعربية السُّنية في ما سمي «تحالف إدارة الدولة»، خصوصاً أن شياع كان قد انتقد عدة مرات، قبل توليه منصبه حكومة سلفه المدعوم من واشنطن السيد مصطفى الكاظمي، رفع سعر الصرف الرسمي من 1182 إلى 1460 ديناراً للدولار الواحد في كانون الأول 2020.

اعتراف بالسبب الحقيقي
في هذا الخضم، كان المستشار المالي للحكومات العراقية المتوالية مظهر محمد صالح، أكثر صراحة ووضوحاً في تعليله لهذا الحدث، حيث أكد ما حاولت الحكومة إنكاره وقال إن «القضية تتعلق بسياقات البنك الفيدرالي الأميركي المتخذة أخيراً، وجاءت نتيجة الخشية من التحويلات المشبوهة والمشكوك فيها». صالح أضاف قائلاً إن «أموال العراق من الدولار كاحتياطات مودعة بحساب البنك المركزي العراقي في الفيدرالي الأميركي، يتم طلبها عبر تحويلات من قبل الزبائن والمصارف، وأن الجهات الدولية -يقصد الأميركية تحديداً- كانت لا تعرف طبيعة هذه الطلبات التي تأتي من المصارف العراقية».
وتابع صالح أنه «في الفترة الأخيرة بات لدى هذه الجهات الدولية توجس من أن كثيراً من هذه الطلبات لا تخدم الاقتصاد العراقي، وبالتالي استحدث البنك المركزي العراقي منصة خاصة جديدة للتحويلات، وبات بإمكان المركزي الأميركي ملاحظة بعض الطلبات غير المنتظمة والمشبوهة، الأمر الذي أدى لرفضها. وبناءً على ذلك وصلت عمليات رفض التحويلات الخارجية إلى نسبة 75%». مصادر حكومية أخرى قالت إنَّ واشنطن وضعت قائمة سوداء بأكثر من عشرة مصارف عراقية أهلية تتهمها واشنطن بتهريب العملة إلى إيران وسوريا، وأن نسبة رفض التحويلات الخارجية فاقت الـ75%، وهو ما يعني حصاراً أميركياً نقدياً فعلياً على حركة الأموال العراقية.
غير أن هناك من لا يلقي اللوم والمسؤولية في ما حدث على الطرف الأميركي فقط وخصوصاً من المدافعين التقليديين عن الاحتلال وتداعياته، فبحسب الباحث الاقتصادي والسياسي نبيل جبار العلي، فإن هذه الخشية من تهريب العملة الصعبة العراقية إلى دول الجوار حاضرة أيضاً «لدى بعض الأطراف السياسية المهمة والداعمة للدولة العراقية، وتلك الأطراف المنضوية داخل تحالف الإطار التنسيقي». وهذا يعني، في ما يعني، أن أطراف «الإطار التنسيقي» ليست -كما يقال- على قلب رجل واحد في مواجهة الهيمنة الأميركية، ما ينذر بحدوث انقسامات وخلافات بينها، إنْ لم تكن تلك الخلافات قد بدأت بالفعل. وهو يعني أيضاً أن هذه الأطراف، في سعيها لضمان بقائها في الحكم، مستعدة لتقديم المزيد من التنازلات للطرف الأميركي المهيمن على العراق حتى لو كان ذلك على حساب حليفها الإيديولوجي والجيوسياسي الإيراني.
واستنباطاً، يمكن القول إنَّ الاحتلال الأميركي نجح في استنبات فئة اجتماعية زبائنية نامية باستمرار، تحرص على مصالح الاحتلال وعلى بقاء الهيمنة الأميركية. وهذه الفئة مؤلفة أساساً من ساسة ومثقفين وباحثين وأثرياء من محدثي النعمة يدافعون عن استمرار الهيمنة الأجنبية لأن فيها ضماناً لمصالحها واستمرارها في الحكم بالتبعية، والاستمرار في نهب الريع النفطي بأشكال متعددة وتحويله إلى الخارج عبر التحويلات السائبة.
ورغم أن سعر صرف الدولار انخفض انخفاضاً طفيفاً لاحقاً، بعد سلسلة إجراءات مالية إدارية لم تمس جوهر المشكلة اتخذها البنك المركزي العراقي، فإن بعض الباحثين الاقتصاديين -عبد السلام حسن مثلاً- يتوقعون استمرار الأزمة. وعبّر بعضهم عن توقعات متشائمة منها أن «يصل سعر صرف الدولار في الأسواق الموازية (السوداء) إلى ألفي دينار للدولار الواحد»، وأن واشنطن كما قال حسن «جادة في إدامة الضغوط على المركزي العراقي بسبب عدم رضاها عن استمرار تهريب العملة إلى دول إقليمية». إنّ عدم استقرار الوضع النقدي والمالي -والسياسي أيضاً- في العراق يعطي لهذه التوقعات المتشائمة شيئاً من الصدقية، طالما افتقدت القيادات السياسية العراقية حتى الآن لأي بديل استقلالي فعّال أو استعداد لمجابهة الهيمنة الأميركية بشكل جذري لم تبده يوماً منذ قيام حكم المحاصصة الطائفية والعرقية سنة 2005.

تواطؤ حكومي عراقي؟
يُحَمِّل الخبير الاقتصادي أحمد إبريهي علي مسؤولية تراكم أموال العائدات النفطية العراقية في البنك الفيدرالي الأميركي إلى الحكومة العراقية التي -كما يرى- ليست ملزمة ولا مجبرة على إيداع أموال عائدات النفط العراقية في جهة واحدة. يكتب إبريهي: «إن العراق لم يكن مرغماً على إبقاء أمواله في بنك مركزي بعينه. ومنذ الآن صار بإمكانه تسلم إيرادات النفط في البنوك التي يختارها، ولا يقتصر على الاحتياطي الفدرالي». ويضيف: «اتخذ مجلس الأمن في الجلسة 8972 يوم 22 شباط 2022 قراره الرقم 2621 بتصفية حساب التعويضات -بعد اجتياح الكويت 1990- وإغلاقه، وإعادة المتبقي للعراق وحلِّ لجنة التعويضات نهاية عام 2022 والتي كان آخر اجتماع لها في التاسع من كانون الأول، ونفّذ القرار. ونهاية عام 2022، أُغلِق ملف التعويضات وتحرر المورد النفطي من هذا القيد. وبهذا لم يعد من الضروري تسلم إيرادات النفط في حساب وحيد لا في الاحتياطي الفدرالي ولا أي مكان آخر» (الحوار المتمدن).

تفعيل الهيمنة الأميركية
وفي ضوء هذه التوقعات المتشائمة، فإن الأمر برمّته، والمشهد العراقي ككل، سيبقيان محكومين بالمعادلات التي أوجدها الاحتلال الأميركي والتداعيات والإفرازات التي نتجت عنه ومنها الهيمنة الأميركية الغربية والتدخلات الإقليمية والنفوذ المتنامي لدول الجوار في الشأن العراقي وخاصة الإيراني والتركي.
إن التصريحات السالفة التي أدلى بها مسؤولون وباحثون ماليون واقتصاديون عراقيون وأجانب لا توضح بشكل دقيق السياق الحقيقي لهذا الحدث البليغ في دلالاته، ولماذا حدث بهذه الحدة التي كادت تؤدي إلى انهيار العملة العراقية، ولماذا أتى في هذا التوقيت بالضبط لا في غيره. في الواقع، فإن خشية واشنطن من تشكيل حكومة عراقية من قبل أحزاب وفصائل الإطار التنسيقي ليست جديدة، ولكنها أيضاً ليست خشية قوية أصلاً وقد لا تتجاوز مستوى القلق العادي، فللطرفين، واشنطن والإسلاميين الشيعة، تجارب طويلة من التعامل الإيجابي والتعاون تحت سقف الهيمنة والاحتلال منذ سنة الاحتلال 2003، ولا سيما أن حكومة «الإطار التنسيقي» الجديدة قدّمت تنازلات وقامت بممارسات كثيرة وملموسة بهدف إرضاء واشنطن وكسب ودها، سواء أكان ذلك عبر تصريحات زعماء «الإطار» (كنا قد تطرقنا إلى بعضها الذي جاء على لسان نوري المالكي في مقالتنا السابقة «انطباعات شاهد عيان جنوبي: بانوراما القيامة العراقية»، «الأخبار» 2 كانون الأول 2022) وأيضاً في تصرفات وإجراءات حكومية لا سابق لها ومنها المشاركة في مناورات بحرية في الخليج العربي مع الأسطول الخامس الأميركي وبمشاركة قوات لدولة الكويت يوم 12 من شهر كانون الأول الماضي وللمرة الثانية خلال أربعة أشهر، وأيضاً بتكرار لقاءات رئيسها محمد شياع السوداني بالسفيرة الأميركية في بغداد لينا رومانسكي والتي بلغت تسعة لقاءات خلال أربعين يوماً من عمرها. وهو أمر انتقدته عليه حتى أطراف من داخل «الإطار». كذلك مشاركة السوداني في «مؤتمر بغداد 2» الذي عُقد في العاصمة الأردنية عمان تحت الإشراف الفرنسي قبل أسابيع قليلة والذي جوبه بانتقادات عراقية حادة للمؤتمر ككل ولخطاب وأداء السوداني فيه من أطراف معارضة ترفض هذا النوع من التدخلات والإملاءات الغربية والإقليمية في الشأن العراقي، بلغت درجة توجيه الأوامر من الرئيس المصري –الذي يمر اقتصاد بلده بأزمة اقتصادية حادة– لبغداد بما يجب ولا يجب عليها فعله، وطرح ممثل دولة الكويت في المؤتمر مطالبات تتعلق بترسيم الحدود على حساب العراق، وتكريس تحول العراق إلى سوق حرة استهلاكية لدول الجوار وتدمير ما تبقّى من زراعة وصناعة عراقيتين.
ليس من المتوقع تماماً، والحالة هذه، أن تلجأ أطراف «الإطار التنسيقي»، طوعاً أو اضطراراً، إلى تحدي المظلة الأميركية والرد على غطرستها رداً وطنياً استقلالياً يستعيد السيادة العراقية


إنّ أداء حكومة السوداني، ومن خلفها «الإطار التنسيقي»، على قصر عمرها، يهدف بجلاء إلى إرضاء واشنطن وتقديم المزيد من التنازلات للبقاء في الحكم أطول فترة ممكنة، والفوز بموافقتها على إلغاء مطلب الانتخابات التشريعية المبكرة واستبدالها بانتخابات محلية لمجالس المحافظات كما أعلنت قيادات «الإطار» أخيراً، حتى لو أدى ذلك إلى انهيار الدينار العراقي وتكريس تحول العراق إلى مستعمرة أميركية مباشرة تحكمها أحزاب وفصائل فاسدة، بل وقد بلغ الفساد والنهب الشاملان للمال العام في عهدها القصير ذروة لم يبلغاها من قبل. وبهذا فإن من شبه المستحيل توقع أن تستغل هذه الحكومة الأزمة العامة في البلاد بجرأة وتراهن على شعبها وتتخذ مواقف استقلالية جذرية تهدف إلى تحقيق الحد الأدنى من الاستقلالية والحد من الهيمنة الأجنبية وخاصة الأميركية. قوى «الإطار التنسيقي» وحكومته لن تتخذ موقفاً وطنياً كهذا، لأنها تعرف أنها طرف مَمقوت ومكروه شعبياً حتى بمقاييس الانتخابات الأخيرة، والتي كشفت عن هزيمتها وانحشارها في زاوية، وهي ما كانت لتستطيع تشكيل حكومة لولا انسحاب «التيار الصدري» طوعاً من العملية السياسية في مواجهة الثلث المعطِّل الذي أُشهِر بوجهه فجاءت هذه الحكومة التي يمكن تسميتها بحكومة الثلث المعطِّل.

مَن يكسر المتاهة؟
لم يعد يدخل في باب التخمينات والظنون التآمرية القول إن العراق، ومنذ سنة 2005، أدخل إلى متاهة سياسية لا مخرج منها، معبراً عنها بنظام حكم قائم على الطائفية السياسية والعرقية إلا بزوال الهيمنة الأميركية التي أوجدت وحمت هذا النظام. وقد توضحت أكثر فأكثر طبيعة المعادلة التي ترسخت والقائمة على منح السياسيين المحليين وخاصة ممن قدمهم الاحتلال كممثلين مزعومين للمكوّنات الطائفية والعرقية الأكبر في البلاد الحكم المباشر مقابل تعهدهم بإبقاء الوضع العراقي مرتهناً بالكامل للإرادة والإدارة الأميركيتين. والخلاصة تقول بلسان حال الأميركيين: «سنعطيكم الحكم مقابل أن تعطونا عراقاً كسيحاً عاجزاً عن الدفاع عن نفسه وإطعام شعبه، ينخره الفساد والتوتر الاجتماعي الدائم»!
لقد أوفى الطرف العراقي المحلي، ممثلاً بأحزاب وميليشيات الطوائف والعرقيات جميعاً، بعهده، ومنع خروج العراق من حالة الموت السريري وفرَّط بسيادته واستقلاله أيّما تفريط، ودمَّر ما هو قائم من زراعة وصناعة وتعليم ومؤسسات وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية والأمنية التي فككها الاحتلال وأعاد تشكيلها فكان أن انهارت انهياراً مخجلاً أمام بضعة آلاف من المسلحين التكفيريين في معركة سقوط الموصل الكاريكاتورية، ووافق على ارتهان عائدات النفط العراقي وتحويلها إلى البنك الفيدرالي الأميركي.
واليوم، فإن إقدام واشنطن على إغلاق جزئي لصنبور الدولارات العراقية المرتهنة في البنك الفيدرالي الأميركي هو -كما يقول العراقيون في لهجتهم الشعبية- مجرد «جرة أذن» صغيرة وقد تكون تحذيرية لحكومة السوداني -ولغيرها أيضاً- من مغبة المراوغة أو محاولة الخروج من تحت المظلة الأميركية، مع ترك مسافة محسوبة بدقة لهذه الحكومة لتأدية بعض الخدمات لحليفها الإيراني إنما تحت الرقابة الأميركية الدائمة والدقيقة التي بدأت الآن في حركة الدولار ولن تنتهي غداً بتفتيش جيوب الحاكمين!
بكلمات أخرى؛ واشنطن قالتها صريحة لساسة النظام والمعارضة «إن من يريد أن يُخْرِجَ العراق من متاهة الهيمنة الأميركية عليه أن يواجه انهياراً فورياً في قيمة الدينار العراقي». وبما أن ساسة العراق الحاليين لا يجيدون التفكير خارج «الصندوق الأميركي» بعد أن غادروا الخطاب الوطني الاستقلالي منذ وصولهم إلى الحكم، فقد استسلموا للتهديد مباشرة دون أن يتعبوا أنفسهم ويتحققوا حتى من أوراق القوة المحتملة والكامنة بين أيديهم ومن نقاط قوة العُملة والاقتصاد العراقيين في بلد يُعتبر الثاني من حيث الإنتاج النفطي بعد المملكة العربية السعودية، دع عنك نقاط القوة الجيوسياسية التي يحوزها العراق بغضّ النظر عمن يحكمه!
أكثر من ذلك، يمكن القول إنَّ الحكومات العراقية متواطئة فعلاً في الإبقاء على الهيمنة الأميركية في جانبها المالي، فالخبير الذي اقتبسنا عنه قبل قليل، أحمد إبريهي علي، يقول إن «من الأوهام أن الولايات المتحدة لا تسمح للعراق إيداع أمواله في بنوك مركزية لدول أخرى وعملات غير الدولار. ونبين أن العراق حتى في سنوات ولاية الصندوق العراقي للتنمية كان يستطيع تحريك أرصدته والإيداع والاستثمار في دول أخرى وقد فعل. ولتأكيد هذا أعتمدُ فقط على البيانات المنشورة في موقع البنك المركزي العراقي دون إضافة معلومات من مصادر شخصية. إن احتياطيات البنوك المركزية مبينة في ميزانياتها العمومية، وثمة بنوك مركزية لا تُفصِح عن مكونات احتياطياتها الدولية، ذهب وعملات وأدوات استثمار ودول. لكن البنك المركزي العراقي يعرض الكثير من هذه المعلومات في ميزانيته العمومية». فماذا يعني ذلك إن صحت معلومات الخبير، ونرجح أنها صحيحة؟ هل يعني ذلك أن الحكومات العراقية المتوالية هي التي كانت تصر على بقاء التبعية المالية والنقدية لدولة الاحتلال؟

الانفجار الاجتماعي قادم
ليس من المتوقع تماماً، والحالة هذه، أن تلجأ أطراف «الإطار التنسيقي»، طوعاً أو اضطراراً، إلى تحدي المظلة الأميركية والرد على غطرستها رداً وطنياً استقلالياً يستعيد السيادة العراقية ويصحح العلاقة الإقليمية مع الجارة إيران لتكون علاقة سيادية وندية بين بلدين مستقلين متعاونين في مواجهة عدو إمبريالي واحد، لا علاقة تبعية ونفوذ فالت من أي قيود، فالفاسدون لا يصنعون الاستقلال ولا السيادة.
في المقابل، لا يمكن المراهنة على خصوم «الإطار التنسيقي» في «التيار الصدري» أو القوى التي تسمي نفسها «المدنيّة» ومنها شخصيات ومجموعات تشكلت تحت ماركة انتفاضة تشرين حقاً وباطلاً، والحزب الشيوعي الذي لم يقطع حتى الآن مع دوره كحزب من أحزاب السلطة التي جاء بها الاحتلال، ويخرج من هذا الدور المنافي لتاريخه وتراثه الثوري، عبر عملية نقدية شاملة لمواقفه وتراثه القريب، وحتى بقايا حزب «البعث» التي تحولت إلى أطلال سياسية في السنوات القليلة الماضية ولكنها انتعشت أخيراً بدفع من حالة الاستياء الشعبي المتفاقمة والبحث العشوائي عن بديل وحل للأزمات المتراكمة. لقد فشلت كل هذه العناوين في تحقيق انغراس حقيقي في الوسط الجماهيري، وفي وضع يدها برنامجياً على العقدة المركزية في المأساة العراقية المتمثلة في الهيمنة الأجنبية الأميركية والنفوذ الإقليمي. إن هذه القوى السياسية العراقية جميعاً، ورغم الخلافات الإيديولوجية والسياسية الحادة بينها أحياناً، ولكنها تشترك في الموقف المهادن وغير المعادي للهيمنة الأميركية بل وحتى المعوِّل على العون الأميركي للتخلص من حلفاء طهران في أحزاب «الإطار التنسيقي».
والخلاصة هي أن كلا المعسكرين السياسييْن المحلييْن سواء أكانا من حلفاء طهران أم واشنطن أم العائمين في «المنطقة الرمادية»، وطالما أغفل الجميع وهادنوا الهيمنة الأميركية وسكتوا على النفوذ الإقليمي وتغاضوا عن ركائز نظام المحاصصة الطائفية العرقية ممثّلة بدستور المكوّنات، فلا يمكنهم، ولا يُتَوَقَع منهم أن ينتجوا أي برنامج وطني استقلالي جذري للإنقاذ الوطني ولاستعادة استقلال العراق وسيادته وإخراجه من المتاهة العبثية التي يدور فيها منذ عقدين تقريباً.
هذا يعني منطقياً أن الوضع السياسي في العراق سيستمر في التعفن، وسيعاد إنتاج الأزمات القديمة، وتولد أزمات أخرى جديدة، وبهذا فالأبواب باتت مفتوحة على احتمالات عدم الاستقرار واندلاع اضطرابات اجتماعية واسعة النطاق بدفع من تلك الأزمات. إن من شبه المؤكد أن العراق سائر نحو انفجار اجتماعي كبير، ولكن السؤال المركزي سيبقى كما هو: هل سيتمكن العراقيون، في خضم تلك الانفجارات الاجتماعية المتوقعة، من إنتاج بديل سياسي وطني استقلالي وقيادات في مستوى المهمة التاريخية المطروحة على جدول الأعمال عراقياً وإقليمياً، أم أن الغلبة ستكون مرة أخرى للقمع الحكومي الدموي المنتهي بخدعة انتخابات مبكرة أخرى يديرها الفاسدون أنفسهم ومن وراءهم من داعمين أجانب وجهات دينية محلية، وبتأجيج من الانتهازية السياسية في الأحزاب الحاكمة كما في المعارضة المعوّلة على الهيمنة الأميركية والغربية؟

*كاتب عراقي