من الواضح بعد مضي أسبوعين وأكثر على العدوان أنّنا نشهد أزمة خيارات عسكرية لدى السلطة الصهيونية. يظهر ذلك من خلال اتباعها استراتيجية التدمير الشامل التي كان مسرحها حيّا الشجاعية وخزاعة في خان يونس شرق القطاع. هذان الحيّان يمتازان بكثافة سكّانية عالية، وتسكنهما شرائح اجتماعية توفّر للمقاومة بيئة ملائمة للعمل واستهداف العدوّ بدقّة وإتقان، بدليل الكمين الذي نصب لقوّاته على أطراف حي الشجاعية، والذي أوقع عشرة من جنوده قتلى بحسب بيان كتائب القسّام عن العملية.
حصلت أكثر من عمليّة بعد اشتباك الشجاعية (مثلاً العملية التي أجهزت فيها كتائب القسّام على دورية للاحتلال قرب بيت حانون شمال القطاع وقتل فيها إضافة إلى أفراد الدورية الثلاثة قائدهم المقدّم في جيش الاحتلال دوليف كيدار)، ولم تفلح قوّات الاحتلال في منعها رغم مباشرتها استراتيجية التدخّل البرّي التي صمّمت بالأساس لاحتواء المقاومة على الأرض، وتأليب بيئتها المباشرة عليها. وهذا يعني أنّ خيار الضربات الجوية ليس الوحيد الذي استنفد، فالتدخّل البرّي هو الآخر وصل إلى حائط مسدود، واصطدم بالكتلة الاجتماعية التي تسكن الأحياء الواقعة شرق وشمال القطاع، وتحمي ظهر المقاومة.

كلّ بيئات المقاومة في العالم موجودة لكي تجعل المقاومين يذوبون فيها


لا ننسى أنّ كلّ بيئات المقاومة في العالم انّما تفعل الشيء ذاته، فهي موجودة لكي تجعل المقاومين يذوبون فيها، بحيث يصعب على الاحتلال أو السلطة العميلة للاستعمار التمييز بينهم وبين السكّان العاديين، فلا يعرف إن كان هذا البيت «بيتاً بالفعل» أم خليّة لنشاط المقاومة وأعمالها. اليمين المنحاز دائماً إلى السلطة وقوى الاحتلال يعتبر هذا «الأمر احتيالاً على المدنيين»، ويدين على أساسه كلّ المقاومات في العالم، فهي بالنسبة إليه غير شرعية وتحتمي بالمدنيين وتعرّضهم لخطر الفناء و... إلخ. وبالتالي لا يحقّ لها من هذه الزاوية أن تعمل أو أن توجد حتّى. بهذه الطريقة تعامل أصدقاؤنا (يحلو للبعض تسميتهم بالصهاينة العرب، وهو تعبير عبقري بحقّ) مع بيئة حزب الله في الجنوب والضاحية، وقبلها بعقود مع الفييتكونغ في فييتنام، واليوم يعاودون الكرّة في مواجهة بيئة المقاومة في غزة، وهذا بالضبط ما تفعله «إسرائيل» حين تنقل هذا «المنطق» من حيّز التفكير إلى حيّز الفعل، فتدمّر البيئات المقاومة تدميراً شاملاً بدعوى هدم الأنفاق الواقعة تحتها. يستغّل العدوّ هذه «التناقضات» بين ظهرانينا ليجهز على المدنيين الذين يحاولون حماية المقاومة وتسهيل حركتها في مواجهة دبّابات الاحتلال وطيرانه الحربي. يجرى تدمير البيئة هنا ليس لأنّها مع المقاومة فحسب، بل لأنها تحتضنها بالمعنى الفعلي وتبدي استعداداً لدفع ثمن هذا الاحتضان. هكذا، تصبح الأنفاق الموجودة «داخل البيوت» وبين الأحياء المكتظّة بالسكان خياراً للناس أنفسهم قبل أن تكون خياراً للمقاومة، وتغدو حمايتها جزءاً لا يتجزّأ من حياتهم اليومية، فهم يذهبون إلى العمل ليحظوا بحياة أفضل، وحين يعودون يحرصون على صيانة الأنفاق وتجهيزها للحرب المقبلة. طبعاً، هذا العمل من اختصاص المقاومة، لكن من يستطيع في هذه الحالة الفصل بين المقاوم و»غير المقاوم»، فالاثنان يدفعان ثمن البقاء تحت رحمة الاحتلال، ويتّفقان على وجوب إخراجه بكلّ السبل المتاحة، على اعتبار أنّ الثمن الممكن لهذا الإخراج يبقى أرحم وأقل وطأة من أيّ ثمن لبقائه. هذه المعادلة هي التي جعلت من تدمير الشجاعية على رؤوس أهلها «أمراً يمكن احتماله» بالنسبة إلى كثيرين، فالناس هناك كانوا يعلمون أنّهم سيدفعون غالياً ثمن احتضانهم للمقاومة وأنفاقها واستراتيجيتها الجديدة المعتمدة على الاشتباك البرّي من مسافات قريبة، ولهذا السبب قبلوا بالثمن ودفعوه بكبرياء عظيم، ومن دون أيّ تذمر. عشرات الأسر في الحيّ أبيدت عن بكرة أبيها، ومثلها في ناحية خزاعة لاحقاً، وبقي الناس بالرغم من ذلك يحلفون بحياة المقاومة ويعتبرونها الموكلة بتحريرهم من الاحتلال والتصدّي لجنوده. بالنسبة إلى هؤلاء جميعاً يمكن تعويض الضحايا والمصابين بعملية واحدة تنفّذها المقاومة بحرفيّة وتقتل من خلالها جنوداً صهاينة أو تأسرهم، وقد وصلتنا بالفعل صورة من غزّة تظهر فرحة أهل الشجاعية العارمة بأسر المقاومة للجندي شاؤول آرون. الصورة التقطت أثناء انتظار أهالي الحيّ جثامين شهدائهم أمام أحد مشافي غزة، وهو ما يؤكّد وعي الناس هناك بطبيعة عمل الاحتلال، ويفشل بالتالي أيّ استراتيجية يتّبعها للفصل بين المقاومة وبيئتها المباشرة. هو يعمل حالياً بعد فشله في الضربات الجويّة وتفادي كمائن المقاومين البرّية على تهجير أكبر عدد ممكن من الأهالي في الشجاعية وخان يونس وبيت حانون وبيت لاهيا... والخ، ولكنه يبدو متفاجئاً بقدرة الناس على الصمود وبتصميمهم على البقاء في أحيائهم حتى اللحظة الأخيرة. تحويله الشجاعية وخزاعة إلى كتلتين كبيرتين من الاسمنت والحديد المحطّمين لا يعدّ نجاحاً بالمعايير الحالية، فالجميع يعلم أنّ القياس لا يجرى هكذا، وأنّ قتل المدنيين بأعداد كبيرة لا يعوّل عليه في المعادلات الحربية التي تتعامل مع المقاتلين وتكتيكاتهم. على الصهاينة أن يضعوا حسبة مختلفة في حال أرادوا بالفعل إجراء تقويم جدّي لخسائرهم وأرباحهم، وخصوصاً أنهم يتعاملون مع بيئة لا تميّز سلبياً بين المقاتل والمدني، ولا تفهم منطق «الدروع البشرية» المبتذل كما يفعلون. ولنفترض حقّاً أنهم قد نجحوا كما يقول قادتهم العسكريون (أو بعضهم) في درء خطر الأنفاق، فهل هذا يعني أنّ الضرر الذي حلّ بقوّاتهم البرية جرّاء تدخّلها لإزالة الإنفاق كان متوقّعاً أو محتملاً حتّى؟ بالأمس فقط اعترفت «يديعوت أحرونوت»، إحدى كبريات الصحف في الكيان الصهيوني بحصول العكس، وتحدّثت بصراحة غير معهودة في إعلام الاحتلال الموجّه والحربي عن قدرة المقاومة على تحطيم العمود الفقري لقوّات الاحتلال البرية، إن من خلال استهدافها المباشر والمنهجي للواء «غولاني» الذي يمثّل نخبة المقاتلين الصهاينة، أو عبر تصيّدها اليومي لباقي الدوريات الراجلة التي تحاول الاقتراب من حدود القطاع. وممّا كتبته «يديعوت» في هذا الصدد على لسان محلّلها العسكري رون بن يشاي: «الجيش خسر ومنذ بداية العملية البرّية داخل قطاع غزة عدداً من خيرة الضباط من ذوي الرتب العالية المتمرّسين بشتى أنواع العمل العسكري الميداني، ومنهم قادة كتائب، وهؤلاء الضباط هم العمود الفقري لسلاح المشاة في الجيش». بعد هذا الاعتراف بالهزيمة يصبح مفهوماً أن يلجأ الاحتلال إلى عمليات القتل على نطاق واسع، فهو لم يعد قادراً على الاستمرار بالحرب من غير تقديم انجازات عينية لجمهوره، والانجازات اليوم في ظلّ عجز قوّات النخبة الصهيونية عن المسّ بعناصر المقاومة الأساسيين تنحصر في المدنيين وأهالي القطاع. وبافتراض أنّ قتل هؤلاء المهمّشين والفقراء (ثمّة دلالة طبقية لهذا القتل بالمناسبة) بالجملة أو الإجهاز على بيوتهم سيعدّل موازين القوى بالفعل، ويدفع بالمقاومة إلى مراجعة استراتيجيتها المعتمدة على الاحتضان الشعبي للمقاتلين، متى سينعكس ذلك جدّياً على الميدان، وماذا إن لم يفعل أصلاً؟
من متابعتنا لتطوّرات المعركة يتّضح أنّ العكس الذي تحدّثت عنه «يديعوت أحرونوت» (و»هآرتس» أيضاً عبر مقال «مشابه» لمحلّلها العسكري عاموس هرئيل) هو الصحيح، وهو الذي يحكم الميدان بخلاف كلّ ادعاءات الصهاينة سواء كانوا سياسيين أو قادة عسكريين، فالمقاومة استطاعت منذ اللحظة الأولى القبض على تفاصيل المعركة عبر اتباعها استراتيجية الاشتباك عن قرب. يحلو للمقاومين والناطقين باسمهم (والنشطاء كذلك بعدما أصبحوا نقطة قوّة بالغة للمقاومة في هذه الحرب) تسمية هذه الاستراتيجية: الاشتباك من النقطة صفر. نقطة الارتكاز الأساسية لهذه الاستراتيجية هي الأنفاق الموجودة تحت بيوت وأحياء الغزّيين، فعبرها يصل المقاومون و»الاستشهاديون» الأبطال إلى حدود القطاع ومنه إلى المستوطنات القريبة التي تحاول الدوريات الصهيونية حمايتها، وبمجرّد وصولهم إلى هناك يشرعون في استدراج الدوريات على حدود المستوطنات إلى اشتباك قريب بالأسلحة الخفيفة. يبدأ التحوّل في هذا النوع من القتال عند استعمال الأسلحة المتوسّطة، وبالتالي جرّ الدوريات ومقاتليها جرّاً إلى المنطقة التي تريدها المقاومة، وللتذكير فقط فإنّ معظم هذه المناطق تكون مفخّخة سلفاً بالعبوات الناسفة، وهو ما يشلّ حركة قوّات الاحتلال لدى وصولها إلى هناك ويجعلها صيداً سهلاً بالنسبة إلى المقاومين. في معظم الحالات التي وقعت أخيراً أبيدت الدوريات تلك عن بكرة أبيها، ومن تبقّى حيّاً من أفرادها ذهب ليخبر الأوباش الصهاينة والصحافة في «إسرائيل» عن الرعب الذي عاشه أثناء العمليات. من هؤلاء فرد من أفراد لواء «غولاني» أجرى معه موقع «والّا» العبري مقابلة ملفتة. تحدّث الجندي في المقابلة عن اشتراكه في عملية الشجاعية التي أوقع فيها مقاتلو القسّام ثلاثة عشر قتيلاً من أفراد اللواء بينهم ضبّاط كبار، بالإضافة إلى أكثر من خمسين جريحاً. يقول هذا الصهيوني الناجي من الموت في الحديث الذي أوردته شبكة «قدس» الإخبارية نقلاً عن موقع «والّا» العبري (سأورد شهادته كاملة لأنّ اجتزاءها سيصعّب فهمنا للأثر الذي تركته أعمال المقاومة وبطولاتها في نفسيّة الجنود الصهاينة وعلاقتهم الوظيفية بالجيش الذي هزمته المقاومة شرّ هزيمة): «الأجواء في اللواء بعد تلك العمليات كانت صعبة للغاية، فقد رأينا قائد اللواء مضرجاً بدمائه وقد بترت ساقه أمام أعيننا، وضابط العمليات قتل، ونائب قائد اللواء قتل، وقائد وحدة الاستخبارات العسكرية في اللواء أصيب بجروح خطيرة». وأضاف: «ناقلة الجند أصيبت في البداية نتيجة انفجار عبوة ناسفة ضخمة، اعتقدنا في البداية أنها قذيفة كورنيت، فالمنطقة التي وقع فيها الهجوم ضيقة جداً، ثم بدؤوا بإطلاق نار كثيف من دون توقف، وكان الهدف اختطاف جثث أو أجزاء من جثث، لكن الضباط قالوا لنا هذا الاحتمال غير وارد». وتابع: «كنا نراهم يخرجون من تحت الأرض، ولا يمكن أن تفهم أو تعرف من أين جاؤوا، كانوا يتحركون كما الأشباح، يخرجون من فوهات الأنفاق من دون إعارة أي اهتمام لدباباتنا، كانوا يتقصدون التوجه إلى ناقلات الجند ولا ندري لماذا». ويقول الجندي الناجي: «على مدار ساعتين من الاشتباكات، أطلقنا النار من دون توقف بهدف إبعادهم، ثم تفاجأ بأحدهم يطل من تحت الأرض ويطلق النار فترد عليه بإطلاق النار. على مدى ساعتين حاولنا إبعادهم كي لا يصلوا إلى ناقلة الجند. عرفنا أن هذا من واجبنا». ويستطرد الجندي في حديثه بالقول: «كل شي كان أمام أعيننا، مليء بالدمار والأشلاء، لم نعد نميز بين زملائنا، حالة الدمار والإرباك طغت علينا، لم نشاهد هذه المشاهد من قبل، كان الجنود يصرخون، وهم يتنقلون (يقصد المقاومين بالطبع) من دون تعب أو ملل، لقد ذهلنا بالفعل، وبعد انتهاء المعركة أصبحنا غير قادرين على التمييز بين عناصرنا، ولم نعد نعرف من هو حي ومن هو ميت، ومن هو موجود ومن هو مخطوف». ومضى قائلاً: «بعد أن انتهى القتال، أمرنا أحد الضباط بأن نقوم بتمشيط المنطقة، فبدأنا نزحف بحثاً عن زملائنا الذين أصيبوا داخل الناقلة، وعن أشلائهم، كانت الصورة قاسية للغاية ولا تبارح ذهني، لا أنسى تلك اللحظات، زحفنا في الشارع بحثاً عن أشلاء فيما كان قسم من الزملاء يقدمون لنا الغطاء الناري. مشطنا المكان لمدة طويلة». لم ينتشر هذا الحديث المذهل على نطاق واسع، وخصوصاً في «الصحافة العربية»، فهو لا يساعد في الهضم كثيراً بالنسبة إلى الليبراليين العرب، ويصيب معظمهم بمغص حادّ في المعدة. المقصود بهذا الكلام أنّ «الجميع» الآن (وأقصد بالتحديد «الصهاينة العرب») محرج من صمود المقاومة، ولا يكاد يصدّق أنها لا تزال قادرة على الاستمرار. الكلام أعلاه عن مذبحة لواء «غولاني» (يمكننا بالفعل الحديث عن مذبحة) يوضح ليس فقط أنّها صامدة، بل ومستمرّة أيضاً بفعل الأثر الذي تركته عمليّاتها في البنية الاجتماعية الواسعة التي يعمل من خلالها الجيش الصهيوني. الجيش في «إسرائيل» يمثّل المجتمع كما لا يمثّل أيّ جيش في العالم مجتمعه، فالكيان بالأساس هو جيش من المتطوّعين والمجنّدين لحماية ما يسمّى «بالمجتمع الاسرائيلي». وحين يهتزّ كيان الجيش و»يتصدّع» (تحديداً سلاح البرّ) مثلما يحدث الآن بفضل عمليات المقاومة نكون إزاء مرحلة جديدة بالفعل، ويصبح أيّ كلام عن تدمير «إسرائيل» للأنفاق وإتيانها على أجزاء واسعة من البنية الاجتماعية للمقاومة خارج السياق. المقاومة حتى الآن ورغم كلّ ما حصل تعمل بمعيّة بيئتها وتهزّ بهذا العمل «إسرائيل» من أقصاها إلى أقصاها، وما سقط من ضحايا في الأيام الماضية هو «ثمن بسيط» - وباهظ في الوقت ذاته - يتعيّن دفعه عاجلاً أم آجلاً. المهمّ أنّ تكون رسالة مذبحة «غولاني» قد وصلت، والأرجح أنّها فعلت، رغم عدم انتشار شهادات الجنود على نطاق واسع. يهمّنا أيضاً أن نوضح فكرة بسيطة: هذه المذبحة هي نتاج التغيّر الذي طرأ على استراتيجية المقاومة، ونقلها من ضفّة إلى أخرى. من ضفّة «العمل بمفردها» إلى ضفّة الشراكة الكاملة مع الكتلة الاجتماعية التي تحتضن أنفاقها. من هنا نفهم تركيز «إسرائيل» على الأنفاق، وفي المقابل تصميم المقاومة على حفر مزيد منها.
* كاتب سوري